(2/3) بعض الفصول في دليل الاستملاك الصهيوني للقدس وفلسطين/ أنطـوان شلحـت

-

(2/3) بعض الفصول في دليل الاستملاك الصهيوني للقدس وفلسطين/ أنطـوان شلحـت
[نصّ ورقة جرى تقديمها إلى المؤتمر الدولي للقدس الذي عقد بدعوة من وزارة الثقافة الأردنية- عمان، في أواخر 2009، وقد نُشرت أيضًا في مجلة "قضايا إسرائيلية" الفصلية الصادرة عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، رام الله]
 
(*) تجدر الإشارة إلى أن الباحثة الفلسطينية د.منار حسن أنجزت مؤخرًا أطروحة دكتوراة عنوانها "في حضرة المغيبات: الحاضرة (المدينة) الفلسطينيةونساؤها والحرب على الذاكرة".
 
ومما أكدته هذه الأطروحة أن المدينة الفلسطينية قد غيبت فيحيزين: الحيز الجغرافي وحيز الذاكرة. وأشارت إلىأنه من بين إحدى عشرة مدينة فلسطينية، بينها ثلاث مدن مركزية، لم يبق في إثر نكبة 1948 إلا مدينة واحدة (الناصرة). وبعدتدمير المدن تمت عملية الترييف، الأمر الذي استأصل المدينة وأثر على النسيج الاجتماعي. وفقط في العقد الأخير من القرن العشرين الفائت،ونتيجة لتراكمات معينة، بدأت تظهر في داخل مناطق 1948 شرائح مدينية على هامش المدينة اليهودية، وأدت إلى حدوث  تحولات اجتماعية، لكن هذه التحولات لا تلغي الحالة الوجودية المترتبة على غياب المدينة، وهي تشكل حالة فريدة في التاريخ الحديث.
 
من ناحية أخرى أكدت الأطروحة ذاتها أن المدينة هي عامل مهم في حدوثالتغييرات، ففيها يتمّ نشوء القومية، وفيها تبدأ تحولات العلاقات الاجتماعية، فضلاً عن ازدهار ظواهر ثقافية أخرى كالفن التشكيلي والرواية.
 
وخلال عرضها لبعض جوانب المدينة الفلسطينية قبل 1948أشارت حسن، مثلا، إلى أن مجمل الصحف التي صدرت في فلسطين آنذاك كانت مئتين وست صحف، بالإضافة إلى دورالسينما والمسارح والنوادي الثقافية، وداري إذاعة ومقاه ومراقص وحدائق عامة وكذلكنقابات عمالية وتنظيمات نسوية، وكل هذه اختفت تمامًا. كما أشارت إلى أناستحضار المدينة مهم لأن الحيز المديني برأيها هو عامل مؤسس للعديد من الظواهر الاجتماعية التي لا قبل للحيز الريفي بإنتاجها، وهذا ما يفسر كون وضع فلسطينيي 1948 متدنيا أكثرمن العالم العربي أو المناطق الفلسطينية التي احتلت العام 1967 ولم تهدم مدنها بالكامل. وقالتأيضا إنه بسبب غياب المدينة فإن جزءًا من فلسطينيي 1948 تبنى كثيرا من الأساطير بشأن "تمدنه" بفضل إسرائيل (6).
 
وفيما يتعلق بالقدس، تحديدًا، فلعلّ أول ما يطالعنا، لدى الغوص على السيرورة السوسيولوجية لهذه المدينة من ناحية تاريخية تتوسل ضمن أمور أخرى بالوقائع ذاتها، هو أنها في بداية القرن العشرين وحتى العقد الثالث منه تظهر لنا، كمدينة، في إطار مختلف تمامًا عن ذلك المعهود لنا اليوم... تظهر لنا مدينة يطغى عليها الحراك الاجتماعي والتعددية الثقافية والتباينات الطائفية، مدينة تعيش نهاية عصر ما قبل الحداثة مع ظهور بعض العلائم التي تشير إلى بداية حبوها نحو الحداثة... مدينة حيّة، متصارعة، تتمايز بأحيائها وحاراتها وطوائفها، وتجمع بين سكانها في النهاية "انتماءات مشتركة إلى المدينة الدنيوية"، وفقًا لتعريفات عالم الاجتماع الفلسطيني د. سليم تماري (7). بينما المصير اللاحق للقدس، بتأثير الممارسات الصهيونية، سرعان ما قسمها إلى مدينتين، شرقية وغربية، عربية ويهودية، منقسمة قوميًا وموحدة عسكريًا.
 
وطغت على المدينة آنذاك ثقافة كوزموبوليتانية، ومثل هذه الثقافة نجدها، لا على سبيل الحصر، في العالم الفكري للكاتب والمفكر المقدسي خليل السكاكيني. كما نجدها في الكثير من الكتابات لمؤلفين عرب ويهود وإنكليز عايشوا حقبة الانتداب البريطانية أو استرجعوا طفولتهم فيها.
 
إن كل هذه الأمور شلّها "الجدل القومي"- الصهيوني تحديدًا- حول الهوية الدينية للمدينة وحول جغرافيتها المقدسة.
والتعبير الرائج اليوم حول "القدس الغربية" و"القدس الشرقية" هو تعبير إشكالي للغاية، إذ إنه يشير- حين يكون بالذات مخصوصًا بـ "القدس الغربية"- إلى حيّز جغرافي تكوّن فقط كنتيجة لرسم "خطوط الهدنة" في العام 1949. ولم يكن له وجود اجتماعي قبل ذلك. أما الأحياء العربية، التي أنشئت غربي المدينة في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الفائت، فإنها كما هي الحال بالنسبة إلى امتدادات قرى "عين كارم" و"لفتا" و"المالحة"، لم تتبلور كجسم اجتماعي أو إداري مستقل خارج علاقتها الإدارية بالبناء الحضري للمدينة ككل، وخارج شبكة العلاقات الاقتصادية التي ربطت القدس بمدينتي حيفا ويافا.
وهنا ينبغي الانتباه إلى أنه قبل تكوين "القدس الغربية"، عملت المؤسسات الصهيونية على تقطيع أوصال المدينة:
 
 (*) أولاً- كما حدث في مدن وقرى الساحل الفلسطيني قامت القوات اليهودية، في العام 1948، بإجلاء كل السكان العرب عن الضواحي الغربية والقرى وطردتهم شرقًا. وفي الجانب الآخر، وضمن عملية اقتصرت على بضع مئات من السكان اليهود، تم إجلاء القاطنين في الحي اليهودي إلى الجانب الإسرائيلي. بعد ذلك أصبحت "خطوط الهدنة"، وللمرة الأولى في التاريخ الحديث لمدينة القدس، هي الحدود الفاصلة بين التجمعات الإثنية- حدود العرب واليهود.
 (*) ثانيًا- في صلب هذا الصراع الإقليمي على القدس كانت تقف دائمًا قضية تنظيم الأراضي وترسيم حدود البلدية في فترة الانتداب البريطاني. وبينما شكل الفلسطينيون العرب، من مسلمين ومسيحيين، أغلبية في لواء القدس كوحدة تشمل القرى والبلدات المحيطة بالمدينة، استطاع اليهود أن يصبحوا أغلبية السكان داخل حدود البلدية (في العام 1947 بلغ عدد السكان: 99.4 ألف يهودي في مقابل 65.1 ألف عربي).
 
لكن أحد المؤرخين البريطانيين (مايكل دمبر) راجع الأدبيات الديموغرافية لفترة الانتداب، وتوصل إلى تفسيرين لهذا التمايز في نسب السكان:
التفسير الأول- أن الإحصاءات الانتدابية اعتادت احتساب المهاجرين اليهود، الذين وصلوا إلى القدس قبل العام 1946 ثم انتقلوا بعدها إلى تل أبيب ومناطق أخرى، كما لو أنهم باقون في القدس.
التفسير الثاني: أن هذه الإحصاءات استثنت من سكان القدس (داخل الحدود البلدية) سكان الأرياف المحيطة بالقدس، الذين يعملون في المدينة بينما احتسبت، في الوقت ذاته، السكان اليهود الذين يسكنون خارج حدود البلدية على أنهم من سكان المدينة. وهي عملية التفافية مشوهّة يسميها دمبر "الإحصاء الديموغرافي الهيكلي" (8)!
 
غير أن عملية الدمج والاستثناء الانتقائية للأحياء لم تكن العامل الحاسم في التمييز بين تنظيم الحارات اليهودية والعربية في فترة الانتداب. والعنصر الأهم نجده في طريقة تنظيم الأحياء. فمؤسسات الييشوف اليهودي (المجتمع اليهودي في فلسطين في إبان فترة الانتداب) كانت حريصة على تنظيم الأحياء اليهودية الجديدة داخل حدود البلدية في المنطقة الغربية والشمالية الغربية للمدينة. وكانت تخطط لهذه الأحياء مسبقًا عن طريق مخططات هيكلية مدروسة قبل تطبيقها، وهذا في مقابل أنماط البناء غير المنظم والمقام بمبادرات فردية وعائلية في الأحياء العربية الحديثة.
 
 
القدس في مرآة اليهودية والصهيونية
 
ترى أحدث الدراسات الإسرائيلية عن القدس (9)أنها "المركز السياسي- الديني الأهم للشعب اليهودي، على مرّ التاريخ". وبناء على ذلك فإن اشتقاق اسم "الحركة الصهيونية" (التي تعني في قراءة هذه الدراسات "حركة تجديد الانبعاث القومي" لهذا الشعب) من صهيون، وهو اسم آخر للقدس في المراجع الدينية اليهودية، لم يكن من قبيل المصادفة.
 
وما يمكن استشفافه من هذه الدراسات ومن غيرها، فيما يتعلق بـ "الأهمية الدينية اليهودية" للقدس، هو ما يلي:
أولاً- أن الحرم القدسي الشريف، والذي تطلق عليه هذه الدراسات اسم "جبل الهيكل"، هو "الموقع اليهودي الأكثر قداسة" في القدس؛
ثانيًا- أن الصلة اليهودية بالقدس ليست مقتصرة على "جبل الهيكل"، وإنما تنسحب أيضًا على المدينة القديمـة برمتها.
 
من ناحية مقابلة، ومضادة، فإن هذه الدراسات تحاول أن تعزو إلى الإسلام "نظرة انتقائية" إزاء القدس تتميز باعتبارها "مدينة هامشية" من الناحية الدينية، وبأن المكانة الخاصة للقدس في الإسلام مرتبطة، أكثر شيء، بعلاقتها مع الأنبياء والرسل الذين سبقوا الدين الإسلامي، وورد ذكرهم في القرآن الكريم، مثل داود وسليمان وعيسى.
 
أمّا البراهين الأساسية والأكثر تداولاً، التي توردها هذه الدراسات، لإثبات المكانة الهامشية للقدس في الإسلام فهي:
أولاً- أن القيود الشديدة في الشريعة الإسلامية، التي تنطبق على أي منطقة تعتبر حرمًا، على غرار الأراضي الحجازية المقدسة، لا تنطبق على القدس. ومن هذه القيود مثلاً أنه لا يجوز لغير المسلمين زيارة مكة المكرمة، لكن يُسمح لهؤلاء بزيارة مسجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى في القدس؛
ثانيًا- أن ركن الحجّ، باعتباره أحد الأركان الخمسة في الإسلام، ينطبق على مكة المكرمة فقط ولا ينطبق على القدس. أمّا المصطلح المتداول المتعلق بالذهاب إلى القدس لأداء الشعائر الدينية فهو "الزيارة"؛
ثالثًا- أن الصلوات الإسلامية اليومية لا تتضمن أي ذكر للقدس، كما أن صلوات العيد خالية من ذكر القدس.
 
(افتح هنا قوسًا كي أشير إلى أن الغاية الرئيسة لهذه الورقة هي إيراد الادعاءات الإسرائيلية والإحالة إلى دلالاتها، أكثر من الاستغراق في تفنيدهـا، الذي يستلزم تبحرًا في الإسلام وشريعته ليس في إمكاني أن أزعمـه).
 
من ناحية أخرى فإن بعض هذه الدراسات (دراسة دوري غولد مثلاً) تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، وتؤكد أن مكانة القدس الدينية الخاصة أو المركزية في الإسلام كان مصدرها مرجعيات إسلامية قريبة منها جغرافيًا وحسب. ومن هذه المرجعيات، على سبيل المثال، الخلافة الأموية، التي اتخذت من دمشق مركزًا لها، وأولت القدس اهتمامًا دينيًا خاصًا بسبب المنافسة التي كانت قائمة بينها وبين مكة، بل إن بعض الخلفاء الأمويين اعتبر القدس بمثابة محجّ رئيسي بالتزامن مع اختيار عبد الله بن الزبير خليفة للمسلمين، خلافًا لرغبة الخلافة الأموية، وقيامه بالسيطرة على مكة في سنة 683 م. وتشير هذه الدراسات إلى أنه من الناحية العملية فإن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (685- 705 م) هو الذي شيّد، في سنة 691 م، قبة الصخرة، وأعلن أنها بديل من الكعبة المشرّفة في مكة، غير أن إعلانه هذا ألغي بعد عام واحد في إثر سيطرة الأمويين على مكة. كما أن الكاتب نفسه يدعي أن القدس لم تكن في صلب الوعي الديني الإسلامي على نحو دائم، وخصوصًا في فترة الخلافة العباسية، التي اتخذت من بغداد مركزًا لها، والتي حلت محل الخلافة الأموية، بدءًا من سنة 750 م. فضلاً عن ذلك فإن الخليفة العباسيّ الأشهر هارون الرشيد، الذي درج على الحجّ إلى مكة مرة كل عامين، لم يقم بزيارة القدس مطلقًا، على الرغم من وصوله إلى سورية لخوض حروب مع البيزنطيين. كذلك فإن خليفته المأمون وسائر الخلفاء العباسيين لم يزوروا القدس على الإطلاق (10).
 
أمّا الرواية التاريخية بشأن القدس منذ نشوء "الحركة الصهيونية" وحتى الآن، فإنها تبدأ في هذه الدراسات، كما سبق التنويه بذلك، من إيلاء أهمية كبيرة إلى تسمية تلك الحركة بأحد أسماء القدس- صهيون، وتستمر على النحو التالي:
 
حتى قيام دولة إسرائيل أقامت في القدس مجموعة سكانية يهودية وأقيمت فيها مؤسسات قومية والجامعة العبرية ونشط فيها أدباء ورجال فكر كثيرون. وفي العام 1947 كانت تعيش في القدس أكثرية يهودية تعدادها نحو مئة ألف نسمة. وفي أعقاب ضغوط سياسية دولية وكذلك الرغبة في تسريع إنشاء الدولة اليهودية، قررت قيادة الحركة الصهيونية الموافقة على مشروع التقسيم الذي طرحته الأمم المتحدة (القرار رقم 181 الصادر في 29 تشرين الثاني 1947)، على الرغم من أن هذا القرار أبقى القدس خارج حدود الدولة اليهودية، وهيأها لتكون كيانا منفصلا تحت إشراف دولي. غير أن الحرب التي بدأ الفلسطينيون والدول العربية بشنها، والتي كانت تهدف من وجهة نظر الصهيونية إلى منع تطبيق قرار التقسيم، وصلت حتى القدس. وقد احتل الجيش الأردني الشطر الشرقي فيما احتلت القوات اليهودية الشطر الغربي. وفي الخامس من كانون الأول 1949 قرر الكنيست الإسرائيلي، رغم الانتقادات الدولية الكثيرة، أن تكون القدس عاصمة إسرائيل. وانتقلت مكاتب الحكومة والكنيست نفسه إلى القدس، التي كانت في حينه مدينة حدودية. وقال أول رئيس لحكومة إسرائيل دافيد بن غوريون في خطاب الإعلان عن القدس عاصمة لإسرائيل:
 
"نرى لزامًا علينا أن نعلن أن القدس اليهودية هي جزء عضوي ولا يتجزأ من دولة إسرائيل- مثلما هي جزء لا يتجزأ من التاريخ الإسرائيلي، ومن إيمان إسرائيل ومن روح شعبنا. إن القدس هي قلب دولة إسرائيل. إننا فخورون بأن القدس مقدسة لدى الديانات الأخرى، وبرغبة ونفس عازمة فإننا سنضمن جميع الترتيبات والتسهيلات اللازمة ليتمكن جميع أبناء الديانات الأخرى من التزود باحتياجاتهم الدينية في القدس، وسنقدم من جانبنا كل المساعدة إلى الأمم المتحدة لضمان هذه الترتيبات".
 
وبعد تسعة عشر عاما، كانت القدس خلالها مقسمة بين المملكة الأردنية الهاشمية وإسرائيل، احتل الجيش الإسرائيلي، خلال "حرب الأيام الستة" (5 - 10 حزيران 1967) القدس العربية (6/6/1967)، سوية مع بقية مناطق الضفة الغربية. وبعد يوم واحد من انتهاء تلك الحرب قررت الحكومة الإسرائيلية مبدئيا توحيد شرق المدينة مع غربها. وكان المعنى الفعلي لذلك هو ضم القدس الشرقية إلى دولة إسرائيل. وفي 18 حزيران أقرت الحكومة الحدود الجديدة في شمال المدينة وجنوبها وشرقها، ووسعت بموجب أمر خاص سريان مفعول القانون الإسرائيلي ليشمل شرق المدينة. وفي 27 حزيران صادقت الهيئة العامة للكنيست على توسيع حدود المدينة. وفي 28 حزيران تمّت إزالة الحواجز بين شطري المدينة.
 
وقدامتدت مساحة القدس حتى ذلك الحين على ثمانية وثلاثين كيلومترًا مربعًا. وبعد توحيدها، تمت إضافة حوالي ستة كيلومترات مربعة شكلت مساحة القدس الشرقية، بالإضافة إلى أربعة وستين كيلومترًا مربعًا شملت بلدات وقرى تحدّ القدس. وهكذا نشأت منطقة النفوذ الموسعة للقدس. وفي ذلك الوقت اعتبر معظم مواطني إسرائيل اليهود أن توحيد شطري المدينة هو "عملية طبيعية وعادلة".
 
وأضيفت إلى التسويغات التاريخية والدينية والحسية تسويغات استندت إلى القانون الدولي؛ بداية، ادعت إسرائيل أن "السيطرة الأردنية" على القدس كانت تفتقر إلى أساس قانوني. وكما هو مذكور أعلاه، فإنه بموجب قرار الأمم المتحدة من شهر تشرين الثاني 1947 كان يفترض أن تكون القدس مدينة تحت إشراف الأمم المتحدة يعيش فيها جنبا إلى جنب اليهود والعرب وأبناء جميع الديانات. وفقط العدوان العربي في العام 1948 أدى إلى أن يحتل الجيش الإسرائيلي قسما من القدس وأن يحتل الأردن القسم الآخر. هذا العدوان- الذي شارك فيه عرب فلسطين أيضًا- لم يجعل الجانب العربي يتمتع بمكانة قانونية في القدس. من جهة أخرى، حسبما يضيف الادعاء الإسرائيلي، فقد ألغى العدوان العربي سريان مفعول قرار الأمم المتحدة بإنشاء نظام دولي خاضع لها في القدس، وهو أصلا كان توصية فحسب، ولم ينفذ المجتمع الدولي أي خطوة لتطبيق القرار. بكلمات أخرى: السيطرة الأردنية على المنطقة لم تكن قانونية ولم يعترف المجتمع الدولي بها، وفقد الأردن مكانته في هذه المنطقة بفعل الاحتلال في 1948، وذلك من جراء عدوانيته في 1967.
 
ثمة ادعاء إسرائيلي آخر، هو أن الأردن هدم جميع الكنس في القدس القديمة وطرد اليهود الذي عاشوا في المدينة (كما أن الجالية المسيحية في القدس تقلصت إلى أقل من النصف خلال الحكم الأردني)، الأمر الذي يثبت أن "المسلمين لا يملكون القدرة ولا الحق في أن يكونوا حكاما على المدينة المقدسة". من جهة أخرى أكدت إسرائيل على أنها تمنح حرية العبادة للسكان المسيحيين والمسلمين في المدينة، وتحافظ على أماكنهم المقدسة. وتمثل الاستنتاج الإسرائيلي من كل ما قيل أعلاه في أن "إسرائيل هي الوحيدة القادرة والمستعدة للحفاظ على القدس كمدينة مفتوحة من الناحيتين الدينية والثقافية"!.
 
أمّا المفهوم السياسي الذي يرى في القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل فقد تم إرساؤه في القانون، الذي سنّه الكنيست في العام 1980، عندما كان مناحيم بيغن رئيسا للحكومة الإسرائيلية، وهو "قانون أساس: القدس". وينص البند الأول لهذا القانون على أن "القدس الكاملة والموحدة هي عاصمة إسرائيل". وينص البند الثاني للقانون على أن مؤسسات الحكم التابعة للدولة تكون في المدينة. ويعود البند الثالث ليشدّد على حرية التوجه وحرية العبادة لأبناء جميع الديانات في القدس. ويقضي بند خاص أضيف إلى القانون في العام 2000 بأنه لا يجوز نقل صلاحيات سلطوية في المدينة- بحدودها الموسعة التي تم رسمها بعد 1967 - إلى أي جهة أجنبية من دون أن يسن الكنيست قانونا جديدا. وكان الهدف من وراء هذه الإضافة هو تقليص حيّز نشاط الطواقم الإسرائيلية، التي تفاوضت في تلك الفترة مع الفلسطينيين.
 
[للبحث صلــة]
 
الهوامش:
 
6- يمكن الاطلاع على فصل من هذه الأطروحة في مجلة "نظرية ونقد" الفصلية الإسرائيلية الصادرة عن "معهد فان لير للدراسات" في القدس، عدد 27، خريف 2005
7- سليم تماري: "القدس 1948- المدينة المهجرة"، مجلة الدراسات الفلسطينية، مجلد 10، عدد 38، ربيع 1999
8- مايكل دمبر: "الاستيطان اليهودي في القدس القديمة"، مجلة الدراسات الفلسطينية، مجلد 2، عدد 8، خريف 1991. وقد صدر لهذا الباحث، في العام 2002، كتاب بعنوان "في سياسة المقدسات: القدس القديمة والصراع في الشرق الأوسط". وكانت صدرت له عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في العام 1992، ترجمة عربية لكتابه "سياسة إسرائيل تجاه الأوقاف الإسلامية في فلسطين (1948- 1988)". ويعرض دمبر في الفصل الثالث من الكتاب الأول لنشوء المجتمع اليهودي في القدس وتطوره، ففي منتصف القرن التاسع عشر كان هناك مجتمع يهودي صغير يجري تصريف الكثير من شؤونه بواسطة المحكمة الشرعية الإسلامية، ويعتمد في حياته على الدعم والتبرعات القادمة من الخارج، حيث لم يكن يعمل من يهود القدس سوى نحو عشرة بالمائة بينما يعتمد الباقون على التبرعات التي سرعان ما تحولت مع تزايد المهاجرين اليهود إلى مصدر شقاق وخلاف بين اليهود الشرقيين والغربيين، وبينما كان اليهود الشرقيون مواطنين في الدولة العثمانية لهم وضع قانوني مختلف عن الوافدين ويحظون بتمثيل رسمي أمام أجهزة الدولة فإن اليهود الغربيين حاولوا الاستعاضة عن ذلك بالحصول على دعم من قناصل الدول الأجنبية. واستمر نمو عدد اليهود في القدس حتى وصل مع نهاية القرن التاسع عشر إلى نحو نصف عدد سكان المدينة القديمة، ولكن بسبب عدم ميلهم للعمل والإنتاج كانوا يعيشون على أقل من سدس المدينة. ومع بدايات القرن العشرين زاد ميلهم للعيش في أحياء المسلمين لحل مشكلة الاكتظاظ، ولكن ذلك الاتجاه سرعان ما انتهى مع مواجهات حائط البراق العام 1929. مع حرب العام 1948 سكن العديد من اللاجئين الفلسطينيين، ولا سيما من سكان القدس الغربية أصلا التي أصبحت تحت الاحتلال الإسرائيلي، في بيوت حارة اليهود التي انتقل سكانها بدورهم للقدس الغربية. وبعد العام 1967 أزال اليهود عدة حارات في القدس القديمة مثل حارة المغاربة وحارة أبو السعود القريبة من الحائط الغربي للحرم الشريف، ووسعت حارة اليهود على حساب مصادرة أملاك العرب فأصبحت نحو سبعمائة مبنى، ولم يكن اليهود قبل العام 1948 يمتلكون سوى نحو مائة وخمسة مبان منها. (كامبردج بوك ريفيوز: القدس القديمة والصراع في الشرق الأوسط، موقع الجزيرة نت، 3/10/2004).
9- منها مثلاً: د. دوري غولد: "المعركة السياسية على القدس"، إصدار يديعوت أحرونوت، 2008؛ د. هيلل كوهين: "ساحة السوق خالية- صعود القدس العربية وسقوطها 1967- 2007"، إصدار معهد القدس للدراسات الإسرائيلية، 2007
10- د. دوري غولد، المصدر السابق.

التعليقات