(3/3)بعض الفصول في دليل الاستملاك الصهيوني للقدس وفلسطين/ أنطـوان شلحـت

-

(3/3)بعض الفصول في دليل الاستملاك الصهيوني للقدس وفلسطين/ أنطـوان شلحـت
[نصّ ورقة جرى تقديمها إلى المؤتمر الدولي للقدس الذي عقد بدعوة من وزارة الثقافة الأردنية- عمان، في أواخر 2009، وقد نُشرت أيضًا في مجلة "قضايا إسرائيلية" الفصلية الصادرة عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، رام الله]
 
 
مرحلة أوسلو وما بعدهـا
 
في المرحلة الأولى من المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، أي مرحلة اتفاقيات أوسلو (إعلان المبادئ، 1993)، اتفق الجانبان على إرجاء البحث في مسألة مكانة القدس، مثلما حصل في مسائل جوهرية أخرى، إلى مرحلة المباحثات على الحل الدائم بين الجانبين. وتقرر في هذه الأثناء ألا تكون للسلطة الفلسطينية أي صلاحيات في القدس الشرقية، رغم أنه سيكون في إمكان سكان القدس الشرقية المشاركة في الانتخابات لمجلس السلطة الفلسطينية. ومنذ ذلك الوقت عملت الجهات الأمنية الإسرائيلية ضد أي تدخل لجهات رسمية من السلطة الفلسطينية في المدينة، إذ إن هذا الأمر كان منافيا للاتفاقيات. من جهة ثانية، فإن المصادر الإسرائيلية تدعي أن موافقة إسرائيل على مشاركة سكان المدينة الفلسطينيين في الانتخابات البلدية تعتبر "دليلاً على أن إسرائيل تعي الحاجة إلى منح السكان العرب في المدينة منفذًا للتعبير السياسي- الوطني، وأنها تعترف بارتباطهم بالسلطة الفلسطينية"!.
 
وفي ذروة انتفاضة الأقصى، التي بدأت في خريف 2000، قررت الحكومة الإسرائيلية إقامة جدار فاصل بين الأراضي الإسرائيلية ومناطق الضفة الغربية الآهلة بالفلسطينيين. وتم بناء القسم الأكبر من الجدار داخل مناطق الضفة الغربية وليس على طول الخط الأخضر. وهذا ما حدث في القدس أيضا؛ فقد تم بناء سور مرتفع داخل قسم من الأحياء العربية (التي ضُمت في العام 1967)، أدى إلى عزل أبناء العائلة الواحدة عن بعضهم البعض، وإلى عزل المزارعين عن أراضيهم، وإلى وضع عراقيل كبيرة أمام عبور الفلسطينيين من المدينة وإليها.
 
وبطبيعة الحال فإن هذه الدراسات كلها تتعاطى مع السؤال: هل يمكن التوصل إلى تسوية سياسية متفق عليها بشأن مسألة القدس؟!
إن الذين يعتقدون بأنه يمكن التوصل إلى تسوية (هيلل كوهين مثلاً) يقولون إن الحدود الحالية للقدس هي حدود مصطنعة، وعمليا يمكن تقليص منطقة نفوذ البلدية وإبقاء الأحياء اليهودية فقط في يدي إسرائيل. وهذا التوجه شبيه من ناحية مبدئية بالاقتراحات التي طرحها رئيس الولايات المتحدة الأسبق، بيل كلينتون، خلال المفاوضات في كامب ديفيد في نهاية العام 2000. ويؤيد هذا التوجه قسم من الجمهور الإسرائيلي بسبب ما يوصف بـ "الخطر الديموغرافي"؛ فهؤلاء يعتقدون أنه يتعين على إسرائيل تقليص السيطرة على السكان الفلسطينيين من أجل الحفاظ على أغلبية يهودية كبيرة في الدولة. وبحسب هذا المنطق، يجب على إسرائيل التنازل، إن كان ذلك في إطار مفاوضات أو حتى بصورة أحادية الجانب، عن تلك المناطق في المدينة التي توجد فيها تجمعات سكانية عربية كبيرة، مثل مخيم اللاجئين شعفاط وضاحية بيت حنينا في شمال المدينة، أو صور باهر وأم طوبا في جنوبها.
 
لكن هؤلاء يؤكدون أنه حتى لو تم التوصل إلى تسوية تتعلق بمسألة الأحياء العربية في شرق المدينة، فإن قضية البلدة القديمة ستبقى ماثلة بقوة، أو على وجه الدقة قضية ما يُسمى بـ "الحوض المقدس" (the holy basin) الذي يشمل أيضا محيط ما يسمى بـ "مدينة داود" (سلوان) وجبل الزيتون. هذه المنطقة تتجمع فيها الأماكن المقدسة للديانات الثلاث وتعارض أجزاء كبيرة من الجمهور اليهودي التنازل عن سيادة إسرائيل فيها. وهناك معارضة مماثلة في الجانب الفلسطيني.
 
ويعكف "معهد القدس للدراسات الإسرائيلية" منذ العام 1988 على بحث ودراسة بدائل متنوعة لحل مسألة القدس. وقد عرضت البروفسور روت لبيدوت، وهي خبيرة في مجال القانون الدولي، وتقف على رأس طاقم باحثين، وثيقة اشتملت على سلسلة بدائل لحلول في موضوع الحوض التاريخي للمدينة وعلى تقويم لأفضليات ونواقص كل واحد منها (في إطار "مؤتمر هرتسليا حول ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي"، في كانون الثاني 2006). ويستخدم هذا الطاقم مصطلح "الحوض التاريخي" بدلاً من "الحوض المقدس" لأن المنطقة قيد البحث تشمل مواقع تاريخية أيضا.
وهذه البدائل هي:
 
·       سيادة وسيطرة لإسرائيل بصورة كاملة على كل أنحاء الحوض التاريخي، مع إمكان منح حكم ذاتي في مجالات معينة للسكان العرب، ومنح مكانة خاصة للأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية. ويمكن الافتراض بأن الفلسطينيين والمجتمع الدولي لن يوافقا على هذا الحل.
·       سيادة وسيطرة للفلسطينيين بصورة كاملة على كل أنحاء الحوض التاريخي، مع إمكان منح حكم ذاتي في مجالات مختلفة للسكان اليهود، ومنح مكانة خاصة للأماكن المقدسة اليهودية والمسيحية. ويمكن الافتراض بأن إسرائيل سترفض هذا الحل.
·       تقسيم إقليمي للحوض بين الجانبين وإشراف دولي من جانب جهة ثالثة تساعد في مراقبة (monitoring) النزاعات وتسويتها.
·       إدارة مشتركة، تقسيم الصلاحيات بين الجانبين ودعم دولي. وإذا فشل الجانبان في الإدارة المشتركة، تنتقل الإدارة إلى يدي هيئة دولية يتم تفويضها أيضا بتسوية النزاعات.
·       إدارة الحوض التاريخي من قبل هيئة دولية ومنح صلاحيات لكلا الجانبين في مجالات معينة.
 
وفي رأي الباحثين فإن البديل الأخير هو الأكثر واقعية من بين جميع البدائل، خصوصا إذا ما تم عرض فترة إدارة الهيئة الدولية على أنها فترة مرحلية. وبهذه الطريقة يمكن للطرفين الادعاء بأنهما لم يتنازلا عن سيادتهما على "جبل الهيكل" (الحرم القدسي الشريف) و"حائط المبكى" (حائط البراق) ويواصلان عمليا إدارة كلا الموقعين وفقا للنظم التي تبلورت منذ العام 1967.
 
ما هو جوهر الفرضيات
الإسرائيلية وراء "اتفاق أوسلو"؟
 
في أيلول 2009 صادفت ذكرى مرور ستة عشر عامًا على توقيع اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. وبهذه المناسبة اعترف الوزير وعضو الكنيست الإسرائيلي السابق يوسي بيلين، الذي كان بمنزلة المهندس الرئيس لهذا الاتفاق، في سياق مقابلة أدلى بها إلى إذاعة الجيش الإسرائيلي، بأن هذا الاتفاق قد غيّر مجرى التاريخ في منطقة الشرق الأوسط برمتها، وأتاح إمكان عقد اتفاقية السلام مع الأردن، وأوجد عنوانًا جديدًا لتمثيل الشعب الفلسطيني (السلطة الفلسطينية) بدلاً من منظمة التحرير الفلسطينية، وأدى إلى ازدهار اقتصادي غير مسبوق في إسرائيل، وحسّن صورة الدولة العبرية داخل نادي الأسرة الدولية، وفتح أمامها مجالاً كبيرًا لإقامة علاقات دبلوماسية مع دول كثيرة بما فيها دول عربية، وأدى إلى نشوء خريطة سياسية- حزبية جديدة في إسرائيل (من أبرز مظاهرها تعزّز ما يسمى بـ "تيار الوسط")، لكنه وعلى الرغم من ذلك كله أخفق في تحقيق غايته الأصلية، وهي إحراز سلام إسرائيلي- فلسطيني دائم، على حدّ تعبيره.
 
بيد أن اعتراف بيلين الأهم في المقابلة نفسها يبقى من نصيب حقيقة أخرى ليست غائبة عن الأذهان مطلقًا، هي توكيده أن اتفاق أوسلو لم يكن اتفاقية سلام إسرائيلية- فلسطينية على الإطلاق، وإنما مجرّد اتفاق مبادئ عامة تتعلق بهذا السلام الدائم، وذلك في إثر بدء أول مفاوضات غير مباشرة بين الجانبين استمرت أقل من سبعة أشهر (في إطار مفاوضات مؤتمر مدريد للسلام الذي عقد في خريف 1991) من دون أن تسفر عن أي نتائج حقيقية، وكان الهدف الأساسي منه، على الأقل من وجهة نظر إسرائيل، هو إجراء محادثات مباشرة من وراء الكواليس، كي يكون في إمكان عملية مدريد أن تستمر بعد أن وصلت إلى ما يشبه الطريق المسدودة. إن هذا الاعتراف يعني، في أقل تعديل، أن إحراز السلام الدائم ظلّ رهن المحادثات، التي استمرت عقب أوسلو، والتي لا تزال حتى الآن عالقة وعاجزة عن تحقيق اختراق حقيقي تترتب عليه نتائج قوية تؤسّس لهذا السلام.
 
ومع أهمية هذا الاعتراف، الذي لا يمكن إغفال صحتـه، فإن هناك اعترافًا آخر لا يقل أهمية انطوت تصريحات بيلين عليه، ويحيل إلى "الظروف الخاصة"، التي مهّدت لأول اتفاق مباشر بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. مهما تكن هذه الظروف فلا بُدّ من أن نشير إلى سعي رئيس الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت، إسحاق رابين، إلى أن ينجز تفاهمات مع السوريين والفلسطينيين، من شأنها أن تضمن تحييدهمـا في سياق المواجهة مع العراق وإيران، عبر الاستفادة القصوى من انهيار الاتحاد السوفييتي واستفراد الولايات المتحدة بزعامة الحلبة الدولية، ومن عزلة منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات في ضوء تأييدهما نظام صدام حسين خلال حرب الخليج الأولى في العام 1991.
وفضلاً عن ذلك يلمح بيلين إلى أن المظاهر الاحتفالية، التي رافقت توقيع اتفاق أوسلو، في حدائق البيت الأبيض الأميركي، كوّنت انطباعًا وهميًا قويًا بأنه اتفاقية سلام، بينما لم يكن أكثر من خطوة أولى بسيطة للغاية على طريق التوصل إلى اتفاقية كهذه.
 
في واقع الأمر فإن وجهة النظر الإسرائيلية إزاء اتفاق أوسلو ومسارات العملية السياسية التي أطلقها كانت محكومة بفرضيات كثيرة ترتبط، أكثر من أي شيء آخر، بدفع المصالح الإسرائيلية الإقليمية والعالمية قدمًا. وقد بدأت ملامحها تتضح، رويدًا رويدًا، مع كل جولة مفاوضات بين الجانبين جرت في وقت لاحق، بدءًا من مفاوضات القاهرة في إثر عملية أوسلو مباشرة، وانتهاءً بآخر جولة مفاوضات عُقدت بين الحكومة الإسرائيلية السابقة برئاسة إيهود أولمرت (أنهت ولايتها في 31 آذار 2009) وبين السلطة الوطنية الفلسطينية برئاسة محمود عباس، والتي انطلقت في إثر مؤتمر أنابوليس المنعقد في تشرين الثاني 2007، وتوقفت في أواخر العام 2008 بالتزامن مع شنّ الحرب الإسرائيلية العدوانية على غزة.
ويمكن أن نستقطر من هذه الفرضيات الكثيرة فرضيتين اثنتين تبدوان في حكم الأبرز، وذلك استنادًا إلى رصد عمودي لمختلف التصريحات والتحليلات الإسرائيلية المتعلقة بسيرورة المفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية، منذ اتفاق أوسلو وصولاً إلى الآن:
 
·        الفرضية الأولى- أن السلطة الفلسطينية، التي أصبحت العنوان الجديد لتمثيل الشعب العربي الفلسطيني في عُرف إسرائيل، كما لمّح بيلين أعلاه، ستعمل على تطبيق حق تقرير المصير لهذا الشعب بواسطة إقامة دولة فلسطينية في المناطق التي احتلتها إسرائيل في إبان حرب حزيران 1967، أي الضفة الغربية وقطاع غزة، فقط.
·        الفرضية الثانية- أن السلطة الفلسطينية ستتطلع إلى تلك الغاية في نطاق الاستعداد الأشمل للتوصل إلى تسوية تاريخية، تشمل تسوية جغرافية (إقليمية)، مع دولة إسرائيل والحركة الصهيونية.
 
ولا شكّ في أن مصطلح "تسوية تاريخية- جغرافية" هو مصطلح بلا ضفاف وإشكاليّ للغاية، لكن يمكن القول إن العناصر، التي تشتمل عليها تسوية من هذا القبيل تعتبر موضع إجماع واسع من وجهة النظر الإسرائيلية، تتمثل في ما يلي: إقامة دولة فلسطينية على مناطق تعادل نسبة 22 بالمئة من مساحة فلسطين الانتدابية؛ تقسيم شرقي القدس؛ تسوية خاصة لما يسمى بـ "منطقة الحوض المقدّس" في البلدة القديمة من القدس؛ حل قضية اللاجئين الفلسطينيين بمنأى عن حق العودة. ويؤكد بيلين أن مثل هذه التسوية كانت مدرجة في جدول الأعمال الإسرائيلي منذ اتفاق أوسلو.
 
إن ما نعنيه بقولنا إن مصطلح "تسوية تاريخية- جغرافية" إشكاليّ للغاية، هو أن التسوية السالفة التي تبدو، في الظاهر، مقبولة إسرائيليًا ليست مقبولة فلسطينيًا بتاتًا، وهذا ما أثبتته، على الأقل، جولتان من المفاوضات اعتبرتا حاسمتين: الأولى في كامب ديفيد في صيف 2000، والتي أدى فشلها إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والثانية جولة المفاوضات التي أعقبت مؤتمر أنابوليس.
 
ولا بُدّ من التوقف هنا عند الرواية، التي يتم تداولها في الإعلام الإسرائيلي، بشأن عناصر "الاتفاق الدائم" المتعلقة بالقضايا الجوهرية للصراع (الحدود والقدس واللاجئون)، والتي عرضها أولمرت على عباس خلال المفاوضات بينهما عندما شارفت ولاية الأول على الانتهاء. وفي 22 حزيران 2009 عرض أولمرت بلسانه هذه العناصر، في سياق مقابلة أدلى بها إلى صحيفة "نيوزويك" الأميركية، موضحًا أنها شملت ما يلي:
-         استعداد إسرائيل للانسحاب من 93.5- 93.7 بالمئة من أراضي الضفة الغربية (بدون منطقة القدس والأغوار) وتسليمها إلى السلطة الفلسطينية (وضم المنطقة المتبقية إلى إسرائيل). بالإضافة إلى ذلك يحصل الفلسطينيون على نسبة 5.8 بالمائة من الأراضي في إطار ما يسمى بـ "تبادل الأراضي".
-         يحصل الفلسطينيون على "ممر آمن" بين الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد تجنب أولمرت الحديث عن مسألة السيادة والسيطرة على هذا الممر.
-         ترفض إسرائيل مبدأ حق العودة أساسًا لحل قضية اللاجئين الفلسطينيين. مع ذلك فهي تبدي استعدادها، في إطار تقديم "مبادرة حسن نية إنسانية"، لعودة عدد من اللاجئين (إلى تخوم إسرائيل). ولم يدل أولمرت بأي تفصيلات تتعلق بهذا العدد، لكنه حرص على تأكيد أنه عدد محدود للغاية.
-         فيما يتعلق بموضوع القدس عرض أولمرت أن لا تخضع منطقة "الحوض المقدّس" إلى سيادة أي من الجانبين، وأن تُدار بصورة مشتركة من طرف إسرائيل والأردن والفلسطينيين والسعودية والولايات المتحدة.
 
ووفقًا لما يقوله ألوف بـن، المحلل السياسي لصحيفة هآرتس الإسرائيلية، فإن اقتراح أولمرت الداعي إلى "تدويل الحوض المقدّس" في القدس القديمة يعتبر اقتراحًا غير مسبوق، من ناحية إسرائيل، لأنه يعني التنازل عن السيادة الإسرائيلية "على حائط المبكى (البراق) والحرم القدسي الشريف وكنيسة القيامة وجبل الزيتون وربما مدينة داود (سلوان)، ولم يسبق أن أبدى أي زعيم إسرائيلي، قبله، استعدادًا لتدويل القدس أو جزء منها. وحتى في مبادرة جنيف، التي توصل إليها يوسي بيلين من الجانب الإسرائيلي، لم يتم الحديث على تسليمها إلى هيئة دولية وإنما على تقاسم السيادة عليها بين إسرائيل والدولة الفلسطينية" التي ستقوم (11).
 
وفي الوقت الحالي ثمة قناعة إسرائيلية كبيرة بأن رفض الجانب الفلسطيني اقتراح أولمرت هذا يعني أنه غير معني بـ "تسوية تاريخية- جغرافية" مع إسرائيل، ما يسقط فرضية مهمة، إن لم تكن الأهم، من الفرضيات التي وقفت وراء اتفاق أوسلو.
 
حملة تهويد القدس
في ذروتهـا
 
من نافل القول إن "اقتراح أولمرت" يبقى "حبرًا على ورق". أمّا ما جرى ميدانيًا، في الآونة الأخيرة، فهو أمر مختلف تمامًا، ولا يتماشى مع هذا "الاستعداد" الإسرائيلي المعلن لتسوية المسائل الجوهرية للصراع.
 
وفيما يتعلق بالقدس، تحديدًا، فإن السكان الفلسطينيين يقبعون تحت الحصار المشدّد منذ العام 2000. ومنذ تولي بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة الإسرائيلية (في نيسان 2009)، ومنذ انتخاب نير بركات رئيسًا لبلدية القدس (في تشرين الثاني 2008)، تفاقم الشعوربالحصار أضعافًا مضاعفة، فكلاهما من أتباع اليمين المتطرف، وكلاهما شريك في السياسات التيتؤدي إلى تطهير القدس عرقيًا.
 
يتجسد هذا الأمر، بادئ ذي بدء، في إقامة الأحياء اليهودية في وسط الأحياءالعربية في القدس الشرقية المضمومة إلى إسرائيل بشكل منهجي. إن الذي يدير هذهالحملة هي جمعية استيطانية تابعة إلى اليمين المتطرف باسم "عطيرت كوهانيم"، بتمويل من الثري اليهودي الأميركيإيروين موسكوفيتش. وبعد النجاح الكبير الذي حققوه في تجريد جبل أبو غنيم وإقامة حيكبير محصن مكانه (هار حوماه)، فإنهم أخذوا يقيمون الآن أحياء يهودية في وسط أحياء الشيخ جراح،سلوان، راس العمود وأبو ديس، ناهيك عن الحي الإسلامي داخل البلدة القديمة ذاتها. كما تجري محاولة منهجية، في الوقت ذاته، للبناء في ما يعرف بـ "منطقة إي 1"، بهدف وصل القدس معالمستوطنة الضخمة معاليه أدوميم.
 
ويؤكد الصحافي الإسرائيلي أوري أفنيري، رئيس "كتلة السلام" المناهضة للاحتلال الإسرائيلي والمؤيدة لتسوية سياسية على أساس "دولتين لشعبين"، أن جميع هذه العمليات المتفرقة تبدو، للوهلة الأولى، بمثابة مبادرة من مليارديراتباحثين عن المجد ومن مستوطنين أدمنوا القوة حتى الثمالة. ولكن هذا هو مجرّد خداع بصري، لأن الذي يقف من وراء هذهالسيرورة هو مخطط حكومي مبلور، له غاية إستراتيجية واضحة، ويكفي النظر إلى الخريطة كي يتم فهم غايته، وهي تطويق الأحياء العربية وعزلها عن الضفة الغربية. والأكثر من ذلك، توسيعالقدس نحو الشرق حتى مدخل أريحا، وهكذا يتم تجزئة الضفة الغربية إلى جزأين، بينمايكون الجزء الشمالي (رام الله، نابلس، جنين، طولكرم) معزولا عن الجزء الجنوبي (الخليل وبيت لحم). وبطبيعة الحال، فإن هناك غاية أخرى هي تحويل حياة السكان العرب في القدس إلى جحيم، حتى يتركوا "بمحضإرادتهم" مدينة "القدس التي تم توحيدها في حرب حزيران، عاصمة إسرائيل إلى أبدالآبدين" (12).
 
وفي مجرى تنفيذ هذه الخطة، فإن "علم الآثار اليهودي" يؤدي دورا مميزا.
وكما هو معروف فإن علم الآثار اليهودي يحاول منذ مئة عام، عبثا، إيجاد إثباتات على وجود "مملكة داود"، لإثبات حق اليهود التاريخي على القدس بشكل نهائي. وحتى الآن لا يوجد أي إثبات على أن الملك داودكان موجودًا إطلاقا، وأنه كان حاكم مملكة كبيرة من الحدود المصرية وحتى حماة فيسورية. وليس هناك أي إثبات أيضًا على الخروج من مصر، وعلى احتلال بلاد كنعان، أو أي إثباتعلى وجود الملك داود وابنه الملك سليمان. على العكس من ذلك، هناك العديد من الإثباتاتالتي تدحض وجودهما، وخاصة في الوثائق المصرية (13).
 
ويشير بعض علماء الآثار في إسرائيل إلى أنه من أجل هذا التفتيش البائس تمت إزالة جميع طبقات تاريخ البلد خلال القرون السابقة - حقبة البيزنطيين، الفتوحات الإسلامية، عهد المماليك وعهد العثمانيين (14)، كما أن الذي يتولى الحفريات في القدس في الآونة الأخيرة هو جمعية استيطانية يمينية متطرفة تسمى "إلعـاد" (الأحرف الأولى من عبارة "إلى مدينة داود" باللغة العبرية). ومن بين الاتهامات التي يوجهها هؤلاء إلى الحفريات يمكن ذكر ما يلي:
 
أولاً- أن منجزي الحفريات يعملون بشكل غير مهني على الإطلاق، فالعمل يجري بسرعة ليست علمية، ولا يشملالوقت الكافي من أجل فحص الموجودات بشكل دقيق، والهدف الوحيد منه هو الكشف في أسرع وقت ممكن عن مكتشفات تدعم الملكية اليهودية على "جبل الهيكل". وعادة يتم، من ناحية علمية، الحفر في الميدان لمدة شهرين في السنة وتُخصص العشرة أشهر الباقية للعمل المكتبي، بحيث يتم تحليل وتفسير المكتشفات الأثرية، لكن في القدس تجري الحفريات على مدار أيام السنة؛
 
ثانيًا- طريقة الحفر المتبعة في كل مكان في العالم هي طريقة عامودية، أي من أعلى إلى أسفل، لكن في سلوان وغيرها يتم الحفر بطريقة أفقية؛
 
ثالثًا- تشترط جمعية "إلعاد" على الذين يعملون معها التركيز فقط على "الطبقات اليهودية التوراتية" وإزالة كل الطبقات التي تعود إلى فترات تاريخية متأخرة، وحتى أنه في حال أن مكتشفا ما لم يتلاءم مع روايتها، فإنها تتجاهل ذلك في كل الأحوال وتروي القصة التي تريدها، مثل الادعاء أن مكتشفا ما يعود إلى قصر داود والادعاء أن هناك مدينة من فترة سليمان وغيرهما.
 
رابعًا- إلى كل ما تقدّم يضيف عالم الآثار د. رافي غرينبرغ، الأستاذ في جامعة تل أبيب، أن التوراة هي المرجع الأساس لجمعية "إلعاد" في التفسيرات التي تقدمها بخصوص سلوان، وهذا يشكل عامل جذب بالنسبة للسياح والطلاب، إلا إن ذلك غير مهني بتاتاً. وقال إنه من السخف التجول مع التوراة والادعاء أن بالإمكان الاستعانة بها كدليل لشرح موقع أثري، كما أن الاعتماد عليها كدليل للحفر ولتحليل المكتشفات الأثرية يعد تنازلا عن القدرات الذاتية في التحليل وتنازلا عن المجال الأكاديمي. وفي نفس السياق قال إنه "كلما رجعنا إلى الوراء من حيث الزمان فإن العلاقة بين النصوص التوراتية وما يتم اكتشافه في الحفريات تضعف أكثر فأكثر، حتى نصل إلى نقطة لا يوجد فيها مكتشفات تدعم ما ورد في التوراة بخصوص مملكة إسرائيل، فتقريباً ليس هناك أي مكتشف أثري يروي قصة هذه الفترة، وحتى أن المكتشفات القليلة جداً المتوفرة لا تنطوي على قصة قطّ، ولكن كي يتم ملء هذا الفراغ يجري الاستعانة بالنصوص التوراتية". وتابع أنه يعتقد بأن عالم الآثار الذي يتحلى بقدر، ولو يسير، من النزاهة لا بُدّ من أن يعترف أن هناك فجوة بين ما يتوقع اكتشافه في الحفريات وفق وصف داود وسليمان وبين ما تم إيجاده فعلاً في الميدان، فليست هناك مكتشفات يمكن ربطها يقينًا بداود وسليمان أو بهذه الحقبة من المملكة الإسرائيلية. وليس هناك أي مكتشف يدل على أنه كانت هنا مدينة كبيرة وعاصمة لمملكة مجيدة تمتد على مساحات كبيرة جداً كما وصف في النصوص التوراتية، وإن ما تظهره الحفريات هو فقط بلدة صغيرة جدًا (15).
كما أن ما يجري بجوار المسجد الأقصى هو جزء من هذه الحملة الاستيطانية التهويدية.
 
وطبقًا لما يقوله هيلل كوهين فإن هدف إسرائيل الأكبر في القدس كان ولا يزال هو تغيير الطابع العربي للقدس الشرقية، وتحويل العرب إلى أقلية فيها. ويؤكد الكاتب أن المشروع الاستيطاني الكبير للغاية في القدس الشرقية، والذي يتم تنفيذه على مراحل، يسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف لم تكن خافية عن أنظار الفلسطينيين. وهذه الأهداف هي "ضمان أكثرية يهودية ليس في القدس الموحدة فحسب وإنما أيضًا في شرقي المدينة؛ تقطيع أوصال الحيّز العربي في المدينة؛ عزل الأحياء العربية في المدينة عن القرى المجاورة لها الواقعة في أراضي الضفة الغربية". ولم تتوقف إسرائيل عن فرض وقائع على الأرض لتحقيق هذه الأهداف الثلاثة حتى بعد توقيع اتفاق أوسلو في العام 1993.
 
وتجدر الإشارة إلى أنه في سياق المخططات والمؤامرات الإسرائيلية الصهيونية ضد الفلسطينيين في القدس وبهدف ترحيلهم عن المدينة، أقامت "دائرة أراضي إسرائيل"، في أواسط السبعينيات من القرن الفائت، وحدة أطلقت عليها اسم "إيغـوم". وتم تكليفها بالعمل على تفكيك "النواة السكنية" الإسلامية في البلدة القديمة وتشجيع "هجرة سكان" إلى خارج مناطق المدينة وحتى إلى خارج البلد. وكتب كوهين في هذا الشأن: "على الرغم من أن نشاط إيغـوم استمر لسنوات قليلة إلا إن السياسة الإسرائيلية لم تتغير بشكل جوهري حتى بعد تفكيك هذه الوحدة". وتوجد اليوم الكثير من البؤر الاستيطانية في الحي الإسلامي في البلدة القديمة فيما نزح سكانه الفلسطينيون الأصليون إلى السكن في ضواحي المدينة للحصول على شروط سكن أفضل. لكن يبدو أن لسيرورة الحياة طبيعتها التي يصعب قهرها أحيانا حتى من خلال المخططات الصهيونية. فقد أشار كوهين إلى أنه تمت موازنة الاستيطان اليهودي في البلدة القديمة بواسطة دخول عائلات فلسطينية فقيرة كثيرة للسكن في البلدة القديمة بسبب تكلفة السكن المنخفضة، من جهة، ومن أجل الحصول على "الامتيازات" الإسرائيلية، المتمثلة في مخصصات الضمان الاجتماعي التي يحصل عليها المقدسيون، من جهة أخرى. ويخلص في هذا السياق إلى أنه "عندما يدعي الفلسطينيون بأن إسرائيل تحاول ترحيلهم إلى خارج حدود المدينة، فإن ثمة أساسًا مكينًا يمكن لهذا الادعاء الاستناد إليه" (16).
 
[انتهــى]
 
 
الهوامش:
 
11- صحيفة هآرتس، 26 حزيران 2009
12- أوري أفنيري: "الوجه الآخر لإسرائيل"، 10/10/2009، موقع كتلة السلام الإسرائيلية على شبكة الانترنت.
13- يمكن في هذا الشأن مراجعة البحث المتميز: "القدس- تاريخ مختطف وآثار مزورة"، تأليف د. عصام سخنيني، منشورات اللجنة الملكية لشؤون القدس، عمان، 2009
14- أوري أفنيري، مصدر سبق ذكره؛ د. رافي غرينبرغ: "علم الآثار في القدس، 1967- 2008"، المصدر: شبكة الانترنت.
15- عالما آثار إسرائيليان لـ "المشهد الإسرائيلي": سلطة الآثار الإسرائيلية تحولت إلى أداة في يدي جمعية "إلعـاد" الاستيطانية!، "المشهد الإسرائيلي"، ملحق نصف شهري يصدر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، رام الله، عدد 14/7/2009.
16- د. هيلل كوهين، مصدر سبق ذكره.  

التعليقات