هزيمة "العقل الإسرائيلي"!/ أنطـوان شلحـت

(*) أحد محاور التعاطي الإسرائيلي مع الانتفاضة الشعبية في مصر تمثّل في توجيه نقد حادّ إلى مؤسسة الاستخبارات الإسرائيلية جراء عدم استشراف إمكان اندلاعها، وكذلك جراء توقعاتها في بدايتها بأن لا تفضي إلى نتائج شبيهة بتلك التي أفضت إليها "ثورة الياسمين" في تونس وإن بدت متأثرة بها.

هزيمة

(*) أحد محاور التعاطي الإسرائيلي مع الانتفاضة الشعبية في مصر تمثّل في توجيه نقد حادّ إلى مؤسسة الاستخبارات الإسرائيلية جراء عدم استشراف إمكان اندلاعها، وكذلك جراء توقعاتها في بدايتها بأن لا تفضي إلى نتائج شبيهة بتلك التي أفضت إليها "ثورة الياسمين" في تونس وإن بدت متأثرة بها.

فبالتزامن مع انطلاق الانتفاضة كتبت الصحف الإسرائيلية وفي مقدمها "معاريف" في 26 كانون الثاني المنصرم ما يلي: تتابع إسرائيل عن كثب ما يحدث في مصر في الأيام القليلة الفائتة، ويتوقع المسؤولون فيها أن تنجح السلطة في القاهرة في أن تجتاز الأزمة التي تعصف بها بسلام. وقالت مصادر إسرائيلية استخباراتية رفيعة المستوى إن "مصر ليست لبنان أو تونس، والأوضاع فيها مستقرة حتى الآن، ولا يوجد أي داع للقلق. كما أن الأوضاع في مصر ما زالت بعيدة عن احتمال اندلاع عصيان مدني، وخلافًا للرئيس التونسي وشاه إيران اللذين أطيحا بهما واضطرا إلى الهرب من بلديهما، فإن الرئيس المصري حسني مبارك غير منعزل عن شعبه ويدرك نبض الشارع ويتخذ الاحتياطات اللازمة". ووفقًا لتقدير هذه المصادر الاستخباراتية نفسها فإن السلطة المصرية هي التي سمحت بإجراء التظاهرات الكبرى وذلك "كي تتيح للجمهور العريض إمكان تنفيس غضبه". وقال أحد هذه المصادر إن "مصر هي دولة كبيرة مقارنة بكل من تونس ولبنان، وحتى بالمقارنة بدول أوروبا الشرقية التي اندلعت فيها ثورات في الماضي، فضلاً عن ذلك فإن مؤسسات الدولة المصرية، بما في ذلك الجيش، خاضعة كليًا لسلطة الرئيس مبارك، التي تملك تجربة غنية في مجال مواجهة مشاعر الجمهور العريض، وتعرف كيف تحافظ على الاستقرار". وأضاف هذا المصدر أن "تظاهرة يشترك فيها 20 ألف أو 30 ألف شخص لا تعد كبيرة في مصر على الإطلاق، وتوجد لدى السلطة هناك قوات أمنية بأعداد تفوق هذا العدد كثيرًا".

مع ذلك فإن المصادر الإسرائيلية الاستخباراتية تؤكد أن "عيون العالم كله، بما في ذلك إسرائيل، تتابع ما يحدث في مصر بقلق بالغ، وذلك لكونها دولة كبيرة ومهمة للغاية وذات تأثير هائل في العالم العربي كله. كما أن ما يحدث في مصر بموازاة ما يحدث في كل من لبنان وتونس يجب أن يثير القلق الشديد، خاصة وأن هذه هي أول مرة يكون فيها معظم المتظاهرين من الشبان الذين جرى تجنيدهم عبر الشبكات الاجتماعية والانترنت". وتضيف هذه المصادر أن ما يجب فعله الآن "هو الانتظار ريثما يتبين ما إذا كان المتظاهرون سيخلون الساحات العامة بإرادتهم أو سيتم إخلاؤهم منها بالقوة. وتجربة الماضي تدل على أن السلطة في مصر تعرف كيف تواجه الاحتجاجات الشعبية بصورة صحيحة وحازمة، وكيف تحول دون أن تتسبب هذه الاحتجاجات بزعزعة الاستقرار الداخلي".

من ناحيتها ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" (26/1/2011) أن الخبراء والمحللين في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية يكتفون الآن بمتابعة حركة الاحتجاج في الشارع المصري ساعة بساعة، وأن الأمر الوحيد الذي حرصوا على تأكيده هو أن "مصر ليست تونس"!.

ولدى متابعة ما نُشر في المحور المتعلق بالاستخبارات لا مفر من ملاحظة أن النقد كان صارمًا للغاية، لا سيما في ضوء واقع أن مؤسسة الاستخبارات نفسها ارتكبت في الآونة الأخيرة إخفاقات كثيرة في مجال استشراف التطورات في الشرق الأوسط، بدءًا بنتائج الانتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني في العام 2006، وانتهاء بإسقاط حكومة سعد الحريري في لبنان قبل بضعة أسابيع، مرورًا بترسانة الأسلحة لدى حزب الله عشية حرب لبنان الثانية، والمظاهرات المدنية في إيران... والقائمة طويلة.

ولتخفيف وطأة "الجلد الذاتي" فإن كبار المحللين العسكريين والإستراتيجيين استعادوا حقيقة أن احتمالات نجاح الاستخبارات في استشراف سلوك الجماهير الشعبية تبقى ضئيلة للغاية، فضلاً عن أن استخبارات دول أخرى أقوى نفوذًا من إسرائيل واجهت الإخفاق في هذا المجال، بل وفي مجالات محدّدة وقابلة للاستشراف أكثر، ولعل أشهرها- إذا ما نأينا بأنفسنا عن نظرية المؤامرة- كامن في "إخفاق الاستخبارات الأميركية في معرفة عدم امتلاك الرئيس العراقي السابق صدام حسين أسلحة دمار شامل". وفي هذا السياق فإن البعض استعاد، بقدر من السخرية السوداء، كيف أن وزير الدفاع الأميركي الأسبق، دونالد رامسفيلد، قال عندما سُئل في مؤتمر صحافي عن إخفاقات استخبارات بلده قبيل غزو العراق: "يبدو أننا لا نعرف أننا لا نعرف"!.

مع ذلك فإن القضية في العمق لم تعد منحصرة في معادلة أن "إسرائيل لا تعرف أنها لا تعرف"، بقدر ما إنها تعبر عن هزيمة أخرى لـ "العقل الإسرائيلي" الذي كان ولا يزال أسير مفهوم متكلس أجاد المعلق السياسي والعسكري الإسرائيلي عوفر شيلح وصفه حين قال: المشكلة ليست كامنة في رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أو في رئيس هيئة الأركان العامة، وإنما هي مشكلتنا جميعًا حينما نسألهما. والمشكلة أيضًا هي أننا لا نزال، بعد كل أخطاء تنبؤهما وتنبؤ آخرين، نفكر أنه في الأمور التي تتصل بإرادة الجمهور العريض وليس بالمعلومات التكتيكية، ثمة أحد يعرف أكثر من الجميع لا لشيء إلا لأنه يحمل درجات ورُتبًا (عسكرية) وفي مقدوره أن يتنصّت سرًّا، مؤكدًا أنه فقط الدولة التي تنظر إلى كل شيء عبر فوهة المدفع بمقدورها أن تجعل أفرادها العسكريين مسؤولين بصورة حصرية عن "تقدير المواقف الوطنية".  

ورأى آخرون أنه حان الوقت للتحرّر من التفكير القائل إنه إذا كانت لدى إسرائيل استخبارات جيدة، فإن في مقدورها أن تتغلب على كل المشكلات الخارجية والأمنية (وكان أستاذ الإعلام د. يورام بيري قد أشار قبل خمسة أعوام في سياق مماثل آخر إلى أن هذا التفكير يشكل قدمًا واحدة لمفهوم أعوج تحيا إسرائيل معه طوال أعوام كثيرة رغم أنه يقلب لها ظهر المجّن مرة تلو الأخرى، والقدم الثانية هي الاعتقاد بأنه إذا كانت لديها دعاية أفضل لكانت قد أصبحت ملك العالم).

وأعاد هؤلاء إلى الأذهان أن نظرة متبصرّة إلى أعوام وجود إسرائيل المنقضية من شأنها أن تبيّن بسهولة أن أكثر الأحداث أهمية في تاريخها، التي أثرّت كثيرًا على مسيرتها، لم يتم توقعها مسبقًا، لا من طرف شعبة الاستخبارات العسكرية ولا من طرف أنبياء آخرين.

وقد تمّ ذكر الأحداث التالية على سبيل المثال:

-          شكلت الهجرة الجماهيرية من دول شمال إفريقيا في أوائل الخمسينيات من القرن الفائت الحدث الذي بلور، أكثر من أي شيء آخر، طابع المجتمع الإسرائيلي، فهي التي أوجدت الشرخ الطائفي وواجهت ما بين "الجنوبيين" الفقراء و"الشماليين" الأغنياء، وضفرت ما بين الأصل الطائفي والانتماء السياسي. وقد حدث هذا كله من دون أن يتوقعه أحد ومن دون قدرة تنبؤ ذلك مسبقًا.

-         لم يتوقع أحد أيضًا أن تنفجر حرب "الأيام الستة" في صيف 1967. وفقط قلائل جدًا كان في إمكانهم تقدير التطورات الدراماتيكية التي ستجلبها على السياسة الإسرائيلية عامة. ولقد مضت نحو 44 سنة ولم يحل بعد "اليوم السابع" لهذه الحرب، التي ما زالت تبتز غالبية الموارد الروحية والمادية وتزيد تشوّه النفوس.

-         في أواخر الثمانينيات لم يقدّر أحد أن الاتحاد السوفياتي سينهار، أو كيف ستؤثر تصفية "الحرب الباردة" على ميزان القوى في الشرق الأوسط، أو أنه خلال أقل من عشرة أعوام على هذا الانهيار سينضم إلى المجتمع الإسرائيلي أكثر من مليون ناطق باللغة الروسية، وأن "الثورة الثقافية" التي أحدثتها هذه الهجرة- والتي كان من ملامحها تصفية مفهوم "بوتقة الصهر" وتبلور تعددية ثقافية وسياسة هويات- ستغيّر الثقافة الإسرائيلية على نحو كبير.

ولم يفت بعض ثالث أن يشير إلى أن البشر وكذلك المجتمعات، ليست على استعداد للعيش في عدم يقين، لكن في إسرائيل ثمة سبب آخر للاعتقاد الساذج بأنه إذا ما جرى استثمار جهد أكبر فإن بالإمكان توقع التطورات فيما وراء الحدود بالضبط.

ووفقًا لما أكده يورام بيري في حينه فإن هذا الأمر ناجم عن إيمان أعمى بأن ما يحول دون إنهاء النزاع "هو ليس نحن- ذلك بأننا نرغب في السلام- وإنما غياب شريك في الطرف الثاني. ولذا فإن ما يبقى علينا فعله هو أن نكون سلبيين ونكتفي بالإصغاء إلى الأصوات الصاعدة من هناك. إذا كانت هناك نيّة لمحاربتنا، فسنكون مستعدين لذلك. وإذا عبّر أحد ما، بمجيء اليوم الموعود، عن الرغبة في السلام فإننا نتحادث معه". وهو ما اعتبره بمثابة خداع ذاتي واضح، لأنه يتغاضى عن حقيقة أن وجود أو عدم وجود شريك في الطرف الثاني مثلا هي، بقدر كبير جدًا، نتيجة لأفعال إسرائيل أيضًا، إذا لم يكن أساسًا.

ولقد تمثل استنتاجه آنذاك في ما يلي: "بدلاً من تنمية الوهم/ الخداع الذاتي بأنه ينبغي أن تكون لدينا استخبارات جيدة كي تتنبأ بما يحدث لدى جيراننا، فإن من المفضل تبنّي سياسة جيدة من أجل أن تؤثر في ما يحدث هناك إزاءنا".

وهو بدون أدنى شك استنتاج صحيح للحالة الراهنة حيال ما يحدث في مصر، والتي جاءت وقائعها بمنزلة إنبـاء مدو بأن إسرائيل لم تتعلم أي شيء بعد عشرات الأعوام من أخطائها السياسية، ومن استنكافها عن الإقرار أن في الشرق الأوسط أشياء يمكن أن تكون غابت عن عقل استخباراتها مثلما يمكن أن تغيب عنه أشياء أخرى في المستقبل أيضًا.   

التعليقات