ماذا بقي من "مفهوم الانفصـال"؟/ أنطـوان شلحـت

لا تزال "خطة الانفصال" عن غزة وبعض أجزاء من شمال الضفة الغربية من جانب واحد، على الرغم من مرور أكثر من خمسة أعوام ونصف العام على تطبيقها، تثير جدلا إسرائيليا ساخنًا بشأن "المفهوم" الذي وقف وراءها، وبشأن ما تبقى منه وربما لا يزال ذا صلة بما يحدث في الزمن الراهن

ماذا بقي من
(*) لا تزال "خطة الانفصال" عن غزة وبعض أجزاء من شمال الضفة الغربية من جانب واحد، على الرغم من مرور أكثر من خمسة أعوام ونصف العام على تطبيقها، تثير جدلا إسرائيليا ساخنًا بشأن "المفهوم" الذي وقف وراءها، وبشأن ما تبقى منه وربما لا يزال ذا صلة بما يحدث في الزمن الراهن.
 
وقبل فترة وجيزة وقف في مركز هذا الجدل كتاب صدر عن "معهد القدس للدراسات الإسرائيلية" بعنوان "خطة الانفصال- الحلم واندثاره"، وخلص على نحو خاص إلى استنتاج مزدوج فحواه "أن الانفصال أدى إلى تفاقم النزاع (الإسرائيلي- الفلسطيني) بصورة كبيرة" من جهة، وأن حرب لبنان الثانية (في صيف 2006) وعملية "الرصاص المصبوب" في غزة (في شتاء 2009) كانتا حصيلة "إفلاس الانفصال الأحادي الجانب بوصفه إستراتيجية فاعلة لإدارة الصراع"، من جهة أخرى.
 
وفي الحقيقة فإن الإقرار بهذا الإفلاس كان قد شمل أيضًا القوى السياسية التي أيدّت الانفصال من جانب واحد، وفي مقدمها حزب "كاديمـا" الذي "اخترعه"، ورئيسه السابق إيهود أولمرت بمجرّد قيامه، عندما كان رئيسًا للحكومة، بإسقاط ما عرف باسم "خطة الانطواء" (أو خطة التجميـع) عن جدول الأعمال عقب الحرب على لبنان، وبالتخلي عن فكرة الانسحابات الأحادية الجانب من أساسها "كونها لم تحقق الأمن لإسرائيل"، بحسب الرواية الإسرائيلية الرسمية!. ولمن نسي فإن هذه الخطة اعتبرت بمنزلة تكملة لـ "خطة الانفصال"، وكانت تنص على الانسحاب من معظم أجزاء الضفة الغربية، وإخلاء المستوطنات الواقعة شرقي الجدار الفاصل (بموجب هذه الخطة كان من المفترض أن تقوم الحكومة الإسرائيلية، بصورة أحادية الجانب، بتجميع المستوطنين اليهود المنتشرين في المستوطنات القائمة في قلب الضفة الغربية ونقلهم للسكنى في المستوطنات القائمة داخل الكتل الاستيطانية المنتشرة في مناطق قريبة أكثر من حدود ما قبل العام 1967، طبقا لمسار الجدار الفاصل. وقد جرى الحديث على كتل معاليه أدوميم وأريئيل وغوش عتصيون. وبناء على الخطة فإن إسرائيل تواصل السيطرة على سبعة بالمئة من أراضي الضفة الغربية).
 
وفي مناسبة ذكرى مرور أربعة أعوام على تفكيك مستوطنات قطاع غزة في العام 2009 أعلن أحد أقطاب حزب العمل، وهو بنيامين بن إليعازر، وزير الدفاع الأسبق، أن الانفصال عن غزة من جانب واحد، والذي اندرج حزبه في عداد المؤيدين له، كان خطأ كبيرًا ينبغي عدم تكراره، وذلك بسبب الفشل في إيجاد أنموذج يمكنه إغواء الآخرين بالتوصل إلى تسوية مع إسرائيل، عن طريق "تظاهر هذه الأخيرة باستعدادها لأن تهدم مستوطنات أقامتها بنفسهـا" على حدّ قوله.
 
أمّا رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو فأعلن في الذكرى نفسها أن تفكيك مستوطنات استعمارية إسرائيلية من جانب واحد هو خطـأ فادح ومريـع ولن يتكرّر، مؤكدًا مرة أخرى تمسكه بـ "اتفـاق" مع الجانب الفلسطيني يقف في صلبه شرطان: الأول- اعتراف فلسطيني حقيقي لا يُردّ بإسرائيل دولة يهودية؛ الثاني- اعتماد تدابير أمنية يمكن ضمان استمراريتها وفرضها، وذلك من خلال نزع حقيقي للسلاح في الأراضي التي تنسحب إسرائيل منها.
 
وعلى الرغم من التصريحات المتضاربة في شأن أهداف "خطة الانفصال" لدى تطبيقها، فإن البروفسور زكي شالوم، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بن غوريون في بئر السبع، والباحث في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، يقدّر بأن هذه الخطة سعت بالأساس وعلى نحو علني لأن تكون مرحلة أولى في طريق رسم حدود دائمة لإسرائيل، باعتبار ذلك عملية حاسمة تمهّد الأجواء لتسوية إسرائيلية - فلسطينية شاملة. وبرأيه فإن الاعتقاد آنذاك تمثل في أن خطوة من هذا القبيل كان من شأنها أن تبيّن لسكان إسرائيل والسلطة الفلسطينية والعالم أجمع أن الزعامة الإسرائيلية الحاكمة عازمة على إنهاء "الواقع اللامعقول" الذي تعيش فيه إسرائيل منذ حرب "الأيام الستة" (حرب حزيران 1967)، كدولة ليست لها خطوط حدود دائمة ومتفق عليها. فإسرائيل (كما قال رئيس الحكومة الأسبق أريئيل شارون في خطابه ضمن مؤتمر هرتسليا حول ميزان المناعة والأمن القومي في إسرائيل العام 2003، والذي تحدث فيه لأول مرة عن خطة الانفصال) ملزمة "برسم خطوط حدودية تضمن استمرار هويتها كدولة يهودية وديمقراطية".
 
فضلا عن ذلك فإن الخطة انطوت، وفق قراءة شالوم، على رسالة ضمنية استهدفت تقويض القناعة التي سادت لأعوام طوال لدى أوساط عريضة في الجمهور الإسرائيلي، بما في ذلك اليمين واليسار، ولدى الزعامة القومية، وكان مفادها أن الاستيطان اليهودي أوجد في المناطق الفلسطينية وقائع غير قابلة للنكوص على الصعيدين الإقليمي والسياسي، ما يعني أن حيّز المناورة المتاح أمام أي حكومة في إسرائيل، سواء كانت بقيادة اليمين أو اليسار، هو حيز مقلص جدًا في كل ما يتعلق بدفع تسوية إسرائيلية- فلسطينية قدمًا. وكانت الفرضية تقول إن أي تسوية تفضي إلى قيام دولة فلسطينية سوف تتطلب إخلاء واسعا لمستوطنات إسرائيلية في الضفة الغربية بما يتيح إقامة دولة فلسطينية ذات تواصل جغرافي/ إقليمي ملائم.
 
كذلك كانت هناك رسالة ضمنية أخرى تهدف إلى التوضيح أن القيادة الإسرائيلية، وإذا ما كانت راغبة حقا في إخلاء مستوطنين، فإنها تعرف كيف يتعين عليها أن تستعد لمثل هذه المهمة الشائكة، وتعرف أيضًا كيف تنجزها كما يجب. ومعنى ذلك أن التقدير القائل بأن واقعا لا رجوع فيه قد نشأ في الضفة الغربية هو تقدير لا يستند إلى أي أساس. وعليه فإنه منذ أن نفذت خطة الانفصال أصبحت علامة استفهام كبرى تخيّم على الاستيطان اليهودي في أي مكان يقع شرقي الخط الأخضر. كما أنه بات واضحا منذ ذلك الوقت أن أي استيطان في الأراضي الفلسطينية لم يعد "محصنا" أمام الإخلاء، وأن حكومة إسرائيلية قادرة على إخلاء تجمع استيطاني بحجم "غوش قطيف" (الذي ضمّ مستوطنات قطاع غزة) ستكون قادرة أيضا على إخلاء مستوطنين بحجم أوسع وأشمل، فتلك مسألة تتعلق بالتصميم في جهة، وبتخصيص موارد بشرية ومالية كافية لتنفيذ مهمة من هذا القبيل في جهة أخرى.
 
على الضد من ذلك، فإن سيفر بلوتسكر، أحد كبار المعلقين الاقتصاديين والسياسيين في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، يعتقد أن شارون بوصفه أبًا روحيًا وعمليًا لمفهوم الانفصال من جانب واحد كان مدركًا على نحو جيّد أن الخلافات بين الإسرائيليين في شأن المناطق المحتلة قد حُسمت منذ ذلك الوقت لمصلحة المستوطنين، ولذا فإنه بواسطة إبراز الصعوبة الكبيرة التي واجهت عملية إجلاء بضعة آلاف من المستوطنين في قطاع غزة في إطار "خطة الانفصال" أظهر للعالم كله الصعوبات الأكبر التي من المتوقع مواجهتها في حال الإقدام على عملية إجلاء تشمل أعدادًا تفوق عدد أولئك المستوطنين بعشرين ضعفًا (يقصد المستوطنين في الضفة الغربية).
 
وتابع قائلاً: لا شك في أن معظم الإسرائيليين على استعداد في الوقت الحالي للتسليم بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، غير أن الدولة التي يقصدونها لا تختلف كثيرًا عن السلطة الفلسطينية الحالية، سواء من الناحية الجغرافية، أو من الناحيتين السياسية والعسكرية. ولعل أكثر ما يدل على هذا القصد هو أن أقلية من بين الإسرائيليين وفقًا لاستطلاعات الرأي العام تؤيد إجلاء 150- 200 ألف مستوطن من يهودا والسامرة (الضفة الغربية)، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من قواعده العسكرية في غور الأردن، وإقامة خط حدودي جديد في القدس، وتحويل المناطق (المحتلة) إلى بلد يستوعب مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين وخصوصًا من مخيمات لبنان.
 
يبقى السؤال: أي منهما يُعتبر الأقرب إلى الصواب؟.
يبدو لي أنه لدى الحديث عن مفهوم الانفصال في السياق الإسرائيلي عامة تظل هناك أمور أكثر أهمية من الإجابة عن هذا السؤال الذي يعتبر مفتوحًا أو مطروحًا على المستقبل، ولعلّ في مقدمها أن فوز بنيامين نتنياهو وحزبه وسائر أحزاب اليمين المتطرّف في إسرائيل بأكثرية مقاعد الكنيست في آخر انتخابات عامة (2009)، وتشكيل الحكومة اليمينية الحالية، لم يكونا تعبيرًا عن سقوط فكرة الانفصال فحسب، وإنما أيضًا عن عدم جهوزية الجمهور الإسرائيلي، في معظمـه، لعملية تسوية مع الفلسطينيين تكون مقرونة بانسحاب آخر من مناطق محتلة وبتفكيك مزيد من المستوطنات.
 
ولا بُدّ من الإشارة أيضًا إلى أن خطة الانفصال عن غزة تحديدًا عادت مؤخرًا إلى صدارة الجدل في ضوء الانتفاضات العربية وخصوصًا في إثر ثورة 25 يناير المصرية، ورأى إلياكيم هعتسني، عضو الكنيست السابق وأحد زعماء المستوطنين في الخليل، أن مشكلات إسرائيل مع قطاع غزة تفاقمت بسبب خطة الانفصال.
 
وأضاف أن الانطباع الأولي المتكوّن بشأن خطاب الثوار في مصر والذي يؤكد أنه خطاب نظيف من كراهية إسرائيل هو انطباع غير دقيق مطلقًا، ذلك بأن متظاهرين كثيرين شددوا على أنه عندما يصبح الشعب المصري حرًا فإنه سيقوم بتحرير الفلسطينيين وبتدمير إسرائيل، فضلاً عن أن زعيم الإخوان المسلمين يؤيد إلغاء اتفاق السلام مع إسرائيل، ويدعم سلطة "حماس" في غزة. ولا شك في أن احتمال تحوّل مصر إلى ظهير لوجيستي لكيان "حماستان" في غزة ينطوي على خطر شديد بالنسبة لإسرائيل، ويمكن القول إن رئيسي الحكومة السابقين إسحق رابين وأريئيل شارون بادرا إلى إقامة مستوطنات يهودية في قطاع غزة بهدف منع حدوث سيناريو من هذا القبيل. وبرأيه فإن إسرائيل مطالبة الآن أكثر من أي وقت مضى أن تصوغ إستراتيجيا جديدة في مواجهة مثل هذا التهديد، لكن قبل ذلك يتعين على الزعامة الإسرائيلية كلها أن تعترف بأن خطة الانفصال عن غزة وتفكيك المستوطنات اليهودية فيها كانت السبب المباشر وراء إقامة أول دولة "إرهابية" في العالم لا تزال وحيدة، ووراء ما نجم عن ذلك كله وهو: إطلاق الصواريخ على بلدات إسرائيلية؛ عملية "الرصاص المصبوب"؛ تقرير لجنة غولدستون؛ حملة نزع الشرعية عن إسرائيل في العالم؛ قوافل السفن إلى غزة واندلاع حرب باردة بين إسرائيل وتركيا.
 
أمّا إفرايم سنيـه، العميد في الاحتياط والوزير السابق، فرأى أن على إسرائيل إعادة احتلال محور فيلادلفي الذي انسحبت منه في إطار خطة الانفصال، ذلك بأن مصر ما بعد الثورة لن تستمر في اتباع السياسة التي كان الرئيس السابق حسني مبارك يتبعها إزاء إسرائيل، كما أنها ستحسن علاقاتها مع سلطة "حماس" في غزة، وبناء على ذلك فإن المقاربة التي تتعامل مع إسرائيل باعتبارها خطرًا إستراتيجيًا سوف تتعزّز. لكن سنيه، خلافًا لهعتسني، أكد كذلك أنه إذا لم تقدم إسرائيل حالاً وسريعًا على إنهاء النزاع مع الفلسطينيين بواسطة اتفاق سلام نهائي فإنها ستغدو معزولة دوليًا في وضع إقليمي أصبحت فيه بحاجة ماسة إلى أصدقاء.
 
[نُشر في "المشهد الإسرائيلي"]

التعليقات