وقائع سيطرة اليمين على إسرائيل (2-4)/ أنطـوان شلحـت

اتسم العام 2010 أيضًا باستشراء محاولات اليمين رسم قواعد لعبة جديدة للديمقراطية الإسرائيلية، وكان المبادر إلى معظمها حزب "إسرائيل بيتنا". وفي واقع الأمر فإنه منذ الانتخابات الإسرائيلية العامة التي جرت في شباط 2009 بدأ سيل عارم من التشريعات التمييزية التي طُرحت في الكنيست والتي تستهدف المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، في مجالات واسعة ومتعددة

وقائع سيطرة اليمين على إسرائيل (2-4)/ أنطـوان شلحـت

[نص الفصل الخاص بالمشهد السياسي الإسرائيلي الداخلي في "تقرير مدار الإستراتيجي 2011: المشهد الإسرائيلي 2010" والصادر مؤخرًا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار]

 

 

محاولات رسم قواعد لعبة

جديدة للديمقراطية الإسرائيلية

 

اتسم العام 2010 أيضًا باستشراء محاولات اليمين رسم قواعد لعبة جديدة للديمقراطية الإسرائيلية، وكان المبادر إلى معظمها حزب "إسرائيل بيتنا". وفي واقع الأمر فإنه منذ الانتخابات الإسرائيلية العامة التي جرت في شباط 2009 بدأ سيل عارم من التشريعات التمييزية التي طُرحت في الكنيست والتي تستهدف المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، في مجالات واسعة ومتعددة. وبتنا نشهد مشاريع قوانين جديدة تستهدف الفلسطينيين في إسرائيل وفي المناطق المحتلة واللاجئين الفلسطينيين، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وبوتيرة تصل تقريبًا إلى مشروع واحد في الأسبوع، حيث أنّ الأجندة التشريعية للائتلاف الحكومي اليميني تتعزز وتُدفع من خلال الكنيست. ومن ضمن ما تسعى إليه هذه القوانين ومشاريع القوانين: تجريد وإقصاء المواطنين العرب عن الأراضي؛ تحويل مواطنتهم من حق إلى امتياز مشروط؛ تقويض قدرة المواطنين العرب في إسرائيل وممثليهم البرلمانيين على المشاركة في الحياة السياسية في الدولة؛ تجريم النشاطات والمبادرات السياسية التي تتحدى طبيعة الدولة اليهودية أو الصهيونية؛ منح المواطنين اليهود امتيازات خاصة في توزيع موارد الدولة. وقد بُلور بعض هذه التشريعات خصيصًا لاستبدال أو للتحايل على قرارات المحكمة الإسرائيلية العليا أو الالتفاف على هذه القرارات، التي توفر الحماية لهذه الحقوق (16).

 

خلال العام 2010 تخطت هذه المحاولات المواطنين الفلسطينيين وانتقلت كي تطال أوساطًا يهودية لا تتماشى مع السياسة الرسمية للحكومة، وفي نهاية العام بلغت ذروة جديدة تمثلت في مبادرة إحدى عضوات الكنيست من "إسرائيل بيتنا" إلى طرح اقتراح يقضي بإقامة لجنة تحقيق برلمانية "لتقصي نشاطات المنظمات الإسرائيلية الضالعة في جمع المعلومات حول ممارسات الجنود ومتابعة مصادرها المالية". واتهم رئيس الحزب ليبرمان هذه المنظمات بأنها "عميلة للإرهاب" وبأن "هدفها الوحيد هو إضعاف الجيش الإسرائيلي وإصراره على الدفاع عن مواطني دولة إسرائيل". وترى أوساط قانونية أن الحملة على منظمات المجتمع المدني في إسرائيل هي جزء من اتجاه عام يهدف إلى "إضفاء النزعة المركزية على الديمقراطية الإسرائيلية وذلك بواسطة شن هجوم شامل على سائر الجهات والمنظمات المستقلة- الانتقادية- في المجتمع الإسرائيلي، وبضمن ذلك على المحكمة العليا والمؤسسة الأكاديمية... وإذا لم يساهم أعضاء الكنيست غير المنتمين إلى اليمين المناوئ لليبرالية في حماية إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، فإن إسرائيل ستتحول إلى دولة بوتينية (نسبة إلى رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين) ومكارثية وغير ديمقراطية"  (17). أمّا المنظمات التي يستهدفها هذا الاقتراح، مثل "بتسيلم"، و"الصندوق الجديد لإسرائيل"، و"اللجنة الشعبية لمناهضة التعذيب"، و"جمعية حقوق المواطن"، و"لنكسر الصمت" و"السلام الآن"، فإنها رأت أن "المصادقة على مبادرة حزب إسرائيل بيتنا وعناصر يمينية متطرفة أخرى والقاضية بإقامة لجنة تحقيق سياسية ضد منظمات حقوق الإنسان في إسرائيل تثبت مدى تدهور مكانة الديمقراطية الإسرائيلية حتى داخل السلطة التشريعية"، مؤكدة أن ملاحقة منظمات حقوق الإنسان "تلحق ضررًا كبيرًا بإسرائيل في أنحاء العالم كله، كما أنها تؤجّج حملة نزع الشرعية عنها، ومسعى عرضها على أنها دولة مكارثية تقوم بحملات صيد الساحرات"، وأن حزب "إسرائيل بيتنا" وأعضاء الكنيست اليمينيين قد "دقا مسمارًا آخر في نعش الديمقراطية الإسرائيلية".

 

ولا بُدّ من الإشارة إلى حملات أخرى سبقت هذه "المبادرة البرلمانية" في هذا المجال، كان أبرزها ما يلي:

 

(*) الحملة على منظمة "الصندوق الجديد لإسرائيل": استند الهجوم الإسرائيلي على تقرير لجنة غولدستون الأممية، أكثر من أي شيء آخر، إلى ذريعة فحواها أن استنتاجاته المتعلقة بفظائع الحرب الإسرائيلية في غزة تهدف إلى سحب البساط من تحت "شرعية إسرائيل"، وبالتالي فإن تبني الرواية الإسرائيلية على علاتها بشأن تلك الحرب ووقائعها، من جهة، والتصدي لهذه الاستنتاجات، من جهة أخرى، يصبان في مصلحة الدفاع عن هذه الشرعية (في هذا الإطار نشير، مثلاً، إلى أن دراسة نشرها معهد "ريئوت" الإسرائيلي للتخطيط الإستراتيجي، في شباط 2010، أكدّت أن مواجهة "خطر نزع شرعية إسرائيل" - وهو التعبير الإسرائيلي المتداول لتوصيف حملة النقد الدولية إزاء سياسة إسرائيل- تعتبر تحديًا مصيريًا، وتستلزم تغييرًا كبيرًا في المؤسسة السياسية الإسرائيلية، يؤدي إلى جعل وزارة الخارجية الإسرائيلية لا تقل قوة وكفاءة عن وزارة الدفاع).

 

وتحت قناع هذه الذريعة أطلقت حملة مكارثية على منظمات عاملة في إسرائيل تعنى بحقوق الإنسان وبالحقوق الديمقراطية عامة. وتركزت حمم هذه الحملة، بصورة رئيسة، في منظمة "الصندوق الجديد لإسرائيل"، التي تموّل جزءًا من نشاط هذه المنظمات. وتمثلت بداية الحملة في قيام صحيفة "معاريف"، من خلال محللها السياسي بن كسبيت، في أواخر كانون الثاني 2010، بنشر مقاطع مطوّلة من "تحقيق" أجرته منظمة إسرائيلية جديدة تطلق على نفسها اسم "إم ترتسو" (ويمكن ترجمته مجازًا إلى "الإرادة") وخلص إلى نتيجة فحواها أن أكثر من تسعين بالمئة من استنتاجات تقرير غولدستون، التي تدين ممارسات إسرائيل في غزة، استندت إلى معلومات منقولة عن ست عشرة جمعية مدنية وأهلية في إسرائيل تتلقى دعمًا ماليًا من الصندوق المذكور، ما "أدى إلى تراكم الافتراءات ضد جنود الجيش الإسرائيلي فيما يتعلق بعملية الرصاص المصبوب، وإلى تأجيج المناخ السلبي العالمي ضد دولة إسرائيل".

 

ويدور الحديث، مثالاً لا حصرًا، على الجمعيات التالية: عدالة؛ لنكسر الصمت؛ بتسيلم؛ جمعية حقوق المواطن؛ اللجنة ضد التعذيب؛ يش دين؛ الفرع الإسرائيلي لمنظمة أطباء لحقوق الإنسان.

 

وادعت منظمة "إم ترتسو" أنها "حركة غير برلمانية تعمل من أجل تعزيز القيم الصهيونية في إسرائيل".

وسرعان ما اشتركت في هذه الحملة شخصيات رسمية من وزراء وأعضاء كنيست، وجرى طرح الموضوع على جدول أعمال الكنيست. وفي هذا الإطار بادرت لجنة الدستور والقانون والقضاء البرلمانية، التي يقف على رأسها أحد أعضاء الكنيست من حزب "إسرائيل بيتنا"، إلى تشكيل لجنة فرعية لتقصي وقائع قيام صناديق أجنبية بتمويل أنشطة ذات "طابع تقويضي" تقوم بها منظمات غير حكومية في إسرائيل. وأعلن عضو الكنيست عتانيئيل شنلر من حزب كاديمـا أنه سيعمل على تجنيد تأييد لاقتراح يدعو إلى إقامة لجنة تحقيق برلمانية حول نشاط "الصندوق الجديد لإسرائيل"، لكن حزبه قرر كبح هذا التحرّك، وعدم الالتفاف من حول اقتراحه.

 

وعقب ذلك بدأت هذه المنظمة نفسها حملة شرسة على البروفسور نعومي حزان، رئيسة " الصندوق الجديد لإسرائيل"، شملت نشر إعلانات كبيرة في الصحف ولافتات في الشوارع تظهر فيها صورتها مع قرن أخضر في جبينها عليه الأحرف الثلاثة الأولى من الاسم الثلاثي للصندوق، وإلى جانبها العبارة التالية: "نعومي حزان- غولدستون، الصندوق الجديد برئاسة حزان يقف من وراء تقرير غولدستون".

 

وسبق أن شغلت حزان منصب عضو كنيست من طرف حزب ميرتس (يسار صهيوني) لمدة أحد عشر عامًا (خلال الأعوام 1992- 2003)، كما تولت منصب رئيس "معهد ترومان لدراسات السلام" في الجامعة العبرية في القدس، وعملت أستاذة للعلوم السياسية في هذه الجامعة وفي جامعة هارفارد الأميركية، وكانت مرشحة لرئاسة بلدية القدس من جانب ميرتس في انتخابات 1998، وتسلمت وظيفة رئاسة الصندوق الجديد منذ عامين ونصف العام.

 

وبلغت الحملة على حزان حدّ إلغاء مقابلات تلفزيونية معها، وإبطال اشتراكها في لقاءات وأيام دراسية دولية، فضلاً عن قيام إدارة صحيفة "جيروزاليم بوست" بإيقافها عن كتابة عمود صحافي أسبوعي.

 

ومما كشف النقاب عنه بخصوص منظمة "إم ترتسو" أنها ممولة من طرف صناديق أجنبية تتبرّع لليمين في إسرائيل، كما أنها ممولة من جانب جون هيج، رئيس "اللوبي المسيحي الأميركي"، والذي سبق أن أطلق تصريحات انطوت على تبرير للمحرقة النازية، منها أن سبب وقوعها عائد "إلى تنكر اليهود لله الحقيقي". ويترأس هذه المنظمة رونين شوفال، الذي كان ناطقًا بلسان ما يسمى بـ "الخلية البرتقالية"، وهي خلية الطلبة الجامعيين المناهضة للانفصال عن قطاع غزة (تم في العام 2005) في الجامعة العبرية، وبسبب نشاطه هذا فقد حظي بلقب "عزيز غوش قطيف". وفي رأيه فإن جوهر الجدل السياسي في إسرائيل لم يعد، في الوقت الحالي، بين اليمين واليسار والوسط وإنما أصبح بين الصهيونيين واللاصهيونيين.

 

واستغلت أوساط إسرائيلية كثيرة هذه الحملة لتأجيج عملية نزع الشرعية عن نشاط الصندوق الجديد برمته. فمثلاً قال أحد كبار المعلقين الصحافيين في "معاريف"، وهو بن درور يميني، إن الذي يعتقد بأن المقاربات المناوئة للصهيونية لدى الصندوق الجديد بدأت بالتزامن مع تقرير غولدستون يرتكب خطأ فادحًا، ولا بُدّ من أن يحين الوقت الذي سيُكتب فيه عن مساهمة الصندوق الجديد في شيطنة دولة إسرائيل، وعندها سيتبين أن هذه المساهمة لم تكن هامشية قطّ. وذهب معلق آخر، هو د. درور إيدار، إلى تصحيف اسم الصندوق من "الصندوق الجديد لإسرائيل" إلى "الصندوق لإسرائيل جديدة" تكون متنائية عن أهدافها الصهيونية وقريبة من أجندة اليسار العامة.

 

وقد تمحورت ردّة فعل الذين تصدوا لهذه الحملة على حزان والصندوق الجديد من حول العناوين الرئيسة التالية:

 

-          إن الإجماع الصهيوني القومي والمخاوف من حملة الانتقادات الدولية يوجدان جوًا خطرًا في إسرائيل ينتج عنه كمّ الأفواه، الأمر الذي يجعل من المستحيل طرح أسئلة وإثارة شكوك بشأن عمليات إسرائيل وممارساتها في المناطق المحتلة.

-         هذه الظاهرة في حالات المواجهات العسكرية المباشرة، على غرار عملية الرصاص المصبوب في غزة، تصبح أكثر خطورة، حيث يهيمن الإعلام والمؤسسة العسكرية على طرح الجمهور بأسلوب أكثر وقاحة وصخبًا، وفي ضوء ذلك فإن أي فكر معارض يعتبر وبشكل فوري أشبه بالخيانة الوطنية.

-         تقبّل الإجماع في إسرائيل، في أثناء الحرب في غزة وفي أعقابها، وبدون أدنى تشكيك، تصريحات الناطق بلسان الجيش فيما يتعلق بكل شيء حدث خلال عملية الرصاص المصبوب. ولم تحاول أي من وسائل إعلام التيار الرئيس أن تحقق فيما إذا كانت قوانين القتال لدى الجيش قد تغيرت، أو إذا كانت هناك أسلحة غير تقليدية استخدمت فعلاً ضد السكان المدنيين، ولم يكن هناك تقرير إعلامي معمّق حول من الذي أعطى الأوامر باستخدام القنابل الفوسفورية، أو الظروف التي أدت إلى وفاة العديد من الأبرياء (حسب بيانات وحدة الناطق باسم الجيش الإسرائيلي).

-         ليس هناك ما هو أسهل من الوقوف إلى جانب الجيش الإسرائيلي وضباطه والاختباء وراء الشعار القائل بأنه "أكثر جيوش العالم أخلاقية"، في ظل غياب أي رغبة حقيقية في التحقيق أو التمحيص، وفهم كيف أدارت إسرائيل فعليًا حربها ضد غزة.

-         الأسئلة الصعبة حول سياسة وحدود استخدام القوة وأخلاقيات ساحة المعركة وشرعية أساليب القتال استبدلت باتهامات لا ضابط لها ضد المجموعات والأفراد الذين يعارضون المؤسسة الإسرائيلية ويطرحون تساؤلات أساسية فيما يتعلق بالحكومة والجيش (18).

 

(*) الحملة على التيارات النقدية في الجامعات الإسرائيلية:  في آب 2010 نشر "معهد الإستراتيجيا الصهيونية ورقة وصفها بـ "البحث" ركزت على المنهاج التعليمي في أقسام علم الاجتماع في الجامعات الإسرائيلية. واعتبر هذا "البحث" أن المحاضرين في هذه الأقسام ينتمون في معظمهم إلى تيار "ما بعد الصهيونية"، وأنهم يستخدمون في عملية التدريس مصادر ومؤلفات لمفكرين وباحثين وأكاديميين يساريين، إسرائيليين وغير إسرائيليين، وأنهم مثلهم مثل "المؤرخين الجدد" يسعون إلى نفي الرواية الصهيونية للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. ويأخذ هذا "البحث" على هؤلاء المحاضرين الما بعد صهيونيين أنهم لا يستخدمون المصطلحات الصهيونية في أبحاثهم، ذلك بأنهم يقولون "حرب 1948" وليس "حرب الاستقلال"، أو يصفون اليهود الذين يأتون إلى  إسرائيل بـ "المهاجرين" وليس بـ "القادمين الجدد"، وبدلا من استخدام المصطلح الصهيوني "تحرير الأرض" يقول هؤلاء المحاضرون "شراء الأرض"... وما إلى ذلك.

 

و"معهد الإستراتيجيا الصهيونية" من تأسيس يسرائيل هارئيل، وهو أحد قادة المستوطنين ومؤسس ما يسمى بـ "مجلس مستوطنات يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وغزة". وبين أعضاء هيئته الإدارية نائب رئيس الحكومة ووزير الشؤون الإستراتيجية موشيه يعلون، ووزير الدفاع الأسبق موشيه آرنس، وأساتذة  جامعيون من صفوف اليمين بينهم البروفسور يسرائيل أومان الحائز على  جائزة نوبل، ورئيس الوكالة  اليهودية نتان شيرانسكي.

 

وركّز "البحث" على مجموعة "علماء الاجتماع النقديين" الذين صنفهم على أنهم ينتمون إلى تيار ما بعد الصهيونية. وقال إن لهذه المجموعة ثلاثة "آباء مؤسسين" هم: البروفسور يونتان شابيرا من جامعة تل أبيب، والبروفسور سامي سموحة من جامعة حيفا، والمرحوم البروفسور باروخ كيمرلينغ من الجامعة العبرية في القدس. وأشار إلى وجود اختلافات بين الأفكار التي يحملها علماء الاجتماع الما بعد صهيونيين، بحيث صنفهم "البحث" ما بين يساريين راديكاليين ويساريين أكثر اعتدالا. وبشكل استثنائي ركز "البحث" على أستاذ الجغرافيا في جامعة بن غوريون في بئر السبع، البروفسور أورن يفتاحئيل، ووصفه بأنه "ينمي أجيالا مقبلة من الباحثين الما بعد صهيونيين" الذين ينقضون الفكر والرواية الصهيونية.

 

ويعرّف "البحث" مصطلح ما بعد الصهيونية على أنه "اسم مشترك للعديد من الآراء والتوجهات والعقائد الأكاديمية التي تقوّض الأسس الأيديولوجية التي تم تأسيس الرؤيا الصهيونية عليها وأدت إلى قيام دولة إسرائيل كدولة الشعب اليهودي. وهذا المصطلح هو سقف لـ ’سوبر ماركت’ يشمل مواقف ونظريات تُجمع على نقد الصهيونية". ويشير البحث إلى مجموعتين أساسيتين تكونان تيار ما بعد الصهيونية "وترى المجموعة الأولى أن الدور التاريخي للصهيونية قد انتهى، فيما ترفض المجموعة الثانية الصهيونية وتحمل أفكارا معادية لها".

 

ويذكر "البحث" بالاسم عددا كبيرا من المحاضرين في أقسام علم الاجتماع في الجامعات الإسرائيلية الذي وصفهم بأنهم ما بعد صهيونيين. كما أنه يستعرض قوائم المصادر للدورات التعليمية التي يدرسّها هؤلاء المحاضرون ويشير إلى عدد المصادر، في هذه القوائم، التي أعدها باحثون ما بعد صهيونيين وإلى عدد المصادر التي أعدها باحثون صهيونيون. ووفقا لـ "البحث" فإن محاضري علم الاجتماع استخدموا 440 مصدرا ما بعد صهيوني مقابل 146 مصدرا صهيونيا. كذلك يستعرض البحث كتبا ألفها محاضرون ما بعد صهيونيين وأقوالا لمحاضرين في ندوات عقدت في الجامعات، تتعارض في غالب الأحيان مع الخطاب  الصهيوني، خاصة فيما يتعلق بالصراع والممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. ويذكر "البحث" معاهد الأبحاث الموجودة في الجامعات والتي تمولها الحكومة الإسرائيلية أو متبرعون أجانب، وخاصة من اليهود الأميركيين. ويدعي أن الأكاديميين الذين ينتمون إلى تيار ما بعد الصهيونية "يستغلون" هذه المعاهد للترويج لأفكارهم. وفي إثر ضغوط اليمين، قررت جامعة تل أبيب التدقيق في مضامين الدورات التي تُدرس في قسم علم الاجتماع وما إذا كانت مضامين ما بعد صهيونية. وطلب رئيس الجامعة، البروفسور يوسف كليبتر، تزويده بقوائم المصادر التي يتم تدريسها في القسم. ومن بين المحاضرين الذين يهاجمهم "معهد الإستراتيجيا الصهيونية" البروفسور يهودا شنهاف، من قسم علم الاجتماع في جامعة تل أبيب، الذي أكد ردًا على ذلك "أعتقد أننا موجودون اليوم في فترة لا أذكر مثيلا لها في تاريخ المجتمع الإسرائيلي، ولا حتى في نهاية الثمانينيات من القرن الفائت، عندما كانت سلطة اليمين في عهد رئيس الحكومة إسحق شمير قوية جدا. وهناك تعاون بين الدولة ومنظمات مجتمع مدني ممولة بأموال طائلة. وأعتقد أن هذه الحركة ممولة بأموال يهودية أميركية. والأمر المقلق هو أن نشاط هذه المنظمات تذكر بفترة مكارثي في الولايات المتحدة. وأنا لا أبالغ بقولي هذا. إن الفاشية لا تعني فقط أن ترى الفاشيين في الشوارع، فهذا يكون في نهاية المطاف، وإنما تبدأ الفاشية تماما مثلما هو الوضع عليه الآن. ولا شك لدي في أنه توجد هنا مظاهر فاشية صارخة، ونحن نعرف ذلك، وهي ليست بالضرورة شبيهة بالفاشية التي كانت في أوروبا. وترافق هذه المظاهر نزعة مكارثية من جهة أولى، وكم أفواه من جهة ثانية، وعنف الدولة تجاه الداخل والخارج من جهة ثالثة، واستخدام مصطلحات عنيفة من جهة رابعة" (19).

 

عند هذا الحدّ لا بُدّ من الانتباه إلى أمرين:

أولاً، على الرغم من أن ليبرمان ما زال يستمد قوته الأساس من المواقف والتقاليد السياسية التي تسم الجمهور الروسي، فإنه لا يمكن فهم نشاطه العام والسياسي بمعزل عن الجهود التي يبذلها بهدف تمييز نفسه عن أحزاب وزعماء اليمين الآخرين، والتي تكمل جهودًا ومساعي أخرى لموضعة نفسه كـ "سياسي من طراز مختلف تماما"، وهو ما يشكل مصدر قوته ونجاحه الانتخابي.

 

ثانيًا، إن ليبرمان يستند إلى قاعدة شعبية في أوساط الجمهور الإسرائيلي تزداد باستمرار، وهذه القاعدة تميل إلى وصف الديمقراطية الإسرائيلية القائمة بـ "الضعيفة" و"غير الناجعة"، وترى أن الحل الأفضل هو حكم مركزي أكثر.

 

وقد دلّت مؤشرات جديدة نُشرت بالتزامن مع انتهاء العام 2010 على أن الديمقراطية الإسرائيلية تتدهور عامًا بعد آخر من حال سيئة إلى حال أسوأ. وكان آخرها "استطلاع مؤشر الديمقراطية" الذي ينشره سنويًا "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" (القدس)، والذي أشارت نتائجه بشأن 2010 والتي أعلنت في مطلع آخر شهر منه (كانون الأول) إلى أن نسبة 54 بالمئة من الجمهور في إسرائيل تؤيد رهن حق التصويت للكنيست بإعلان الولاء لإسرائيل دولة يهودية وديمقراطية، وترتفع نسبة تأييد هذا الأمر لدى الجمهور اليهودي إلى 62 بالمئة.

 

وقالت البروفسور تمار هيرمان، وهي باحثة كبيرة في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، إن النتائج العامة لهذا الاستطلاع تؤكد أن "الشرخ الأكثر إشكالية في المجتمع الإسرائيلي، فيما يتعلق بتأثيره على الديمقراطية، كامن في الشرخ اليهودي- العربي، ذلك بأنه يهدّد صورة إسرائيل الديمقراطية بالخطر".

 

كما تبين من الاستطلاع نفسه أن 46 بالمئة من اليهود يضايقهم العيش إلى جانب جيران عرب، وأن 36 بالمئة منهم يضايقهم العيش بجوار عمال أجانب أو مرضى نفسانيين.

 

وأكد 62 بالمئة من اليهود أنه ما دامت إسرائيل موجودة في خضم نزاع مع الفلسطينيين فلا يجوز أن تأخذ في الاعتبار آراء المواطنين العرب بشأن موضوعات متعلقة بالسياسة الخارجية والأمن. وقال 33 بالمئة منهم إنه في حال اندلاع حرب أو نشوب أزمة أمنية حادة، على إسرائيل أن تعامل مواطنيها العرب كما تعاملت الولايات المتحدة مع مواطنيها اليابانيين في أثناء الحرب العالمية الثانية، وأن تقوم باحتجازهم في معسكرات اعتقال كي لا يقدموا مساعدات إلى العدو!. كما أبدى 67 بالمئة من اليهود معارضتهم ضم أحزاب عربية أو وزراء عرب إلى الحكومة الإسرائيلية. ويعتقد 53 بالمئة من هذا الجمهور أن من حق الدولة تشجيع هجرة العرب إلى خارج دولة إسرائيل.

 

من ناحية أخرى، أعرب 81 بالمئة من الذين شملهم هذا الاستطلاع عن ثقتهم بالجيش الإسرائيلي، في حين كانت نسبة هؤلاء في استطلاع العام الفائت 79 بالمئة، وكانت 71 بالمئة قبل عامين، وقال 50 بالمئة إن منظمات حقوق الإنسان مثل جمعية حقوق المواطن وبتسيلم تلحق أضرارًا فادحة بإسرائيل.

 

وبلغت نسبة الثقة برئيس الحكومة في هذا الاستطلاع 39 بالمئة (35 بالمئة في العام الفائت، و17 بالمئة قبل عامين)، وبالكنيست 37 بالمئة (38 بالمئة في العام الفائت). أمّا نسبة الثقة بالوزراء فقد بلغت 33 بالمئة، وبالأحزاب 25 بالمئة.

 

وأعرب 70 بالمئة عن الثقة برئيس الدولة الحالي شمعون بيريس، في حين أن الثقة برئيس الدولة السابق موشيه كتساف في آخر عام من ولايته لم تتجاوز 22 بالمئة، على خلفية اتهامه بالاغتصاب والتحرّش الجنسي والذي أدين بهما لاحقًا. وأعرب 32 بالمئة عن اعتقادهم بأن الرجال أكثر نجاحًا من النساء في الزعامة السياسية. وقال 45 بالمئة إن المحكمة الإسرائيلية العليا ليست موضوعية من ناحية سياسية، ولذا فمن المهم تقليص صلاحياتها، غير أن 54 بالمئة أعربوا عن ثقتهم بهذه المحكمة، في حين أن نسبة هؤلاء في استطلاع العام 2009 كانت 52 بالمئة.

 

وأشار "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" إلى أنه في نطاق هذا الاستطلاع جرى تفحص ما إذا كان المواطن الإسرائيلي "يتكلم عن الديمقراطية" فحسب أم أنه أيضًا "يمارس الديمقراطية ويساهم في صنعها". وكان من المفترض أن يُترجم التأييد المعلن للقيم الديمقراطية المجردة إلى مواقف ومسلكيات تتسق مع هذه القيم، لكن ما تكشف على أرض الواقع هو أنه في الحالات والظروف التي لا يكون فيها تجسيد القيم المعلنة مريحًا، أو أنه يكون باهظ الثمن، فإن هذا الجمهور يتخلى في غير مرة عن تلك القيم بسهولة كبيرة. وتدل معطيات هذا الاستطلاع الأخير، الذي يستند مشروعه إلى مؤشرات دولية مقارنة، على وجود فجوة كبيرة في إسرائيل بين المبدأ الديمقراطي وبين السلوك العملي.

 

وإلى جانب التأييد الواسع للطرح القائل بأن على إسرائيل أن تبقى دولة ديمقراطية، يتضح أن الجمهور الإسرائيلي يميل إلى وصف الديمقراطية الإسرائيلية بـ "الضعيفة" و"غير الناجعة"، ويرى أن الحل الأفضل هو حكم مركزي أكثر. وتثمن أغلبية المستطلعين (60 بالمئة) المزايا الكامنة في زعامة قوية تستطيع (بحسب رأيها) حل المشاكل بنجاعة. وتفضل الأغلبية (59 بالمئة) نظام تكنوقراط- خبراء يتخذ قرارات تستند إلى اعتبارات مهنية وليس إلى اعتبارات سياسية.

 

وتؤيد أغلبية الجمهور في إسرائيل علنا، كما في دول ديمقراطية عديدة أخرى، النظام الديمقراطي، إذ أعرب 81 بالمئة من مجمل الجمهور عن موافقتهم على الرأي المبدئي القائل إن "الديمقراطية في الواقع ليست نظاما مثاليا، غير أنها أفضل من سائر أنظمة الحكم الأخرى".  لكن على الرغم من هذا التأييد المبدئي فإن أكثر من نصف الجمهور الإسرائيلي (55 بالمئة) يؤيد الطرح القائل إن "الوضع العام لإسرائيل كان يمكن أن يكون أفضل كثيرا لو كانت هناك مراعاة أقل لقواعد الديمقراطية".

 

وفيما يتعلق بالموقف من مصطلح "دولة يهودية وديمقراطية" لدى مجمل الجمهور اليهودي، أشارت أعلى نسبة - 43 بالمئة- إلى أن شطري هذا التعبير (يهودية وديمقراطية) لهما أهمية متساوية، واعتبر 31 بالمئة أن المكوّن اليهودي أهم أكثر، في حين اعتبر 20 بالمئة فقط أن المكوّن الديمقراطي أهم أكثر. 

 

وجرى التنويه بأن فكرة كون المواطنة تعني مكانة قانونية متساوية لم يستبطنها الجمهور الإسرائيلي إلا بشكل جزئي فقط،  إذ أيد 51 بالمئة من مجمل الجمهور إتباع مساواة تامة في الحقوق بين اليهود والعرب، وتبين أنه كلما ارتفعت درجة التدين لدى الجمهور اليهودي، ترتفع أيضا المعارضة لمساواة الحقوق بين اليهود والعرب: 5ر35 بالمئة فقط من العلمانيين يعارضون ذلك، مقابل 51 بالمئة من التقليديين، و65 بالمئة من المتدينين، و72 بالمئة من المتدينين الحريديم (المتشددين). ويعتقد قرابة ثلثي اليهود (62 بالمئة)، كما ذُكر سابقًا، أنه طالما كانت إسرائيل في نزاع مع الفلسطينيين فإنه لا يجوز أخذ رأي السكان العرب في إسرائيل في موضوعات السياسة الخارجية والأمن بعين الاعتبار، وتعتقد نسبة مشابهة (67 بالمئة) من الجمهور أنه يجب عدم السماح لأقارب من الدرجة الأولى لمواطنين عرب بالدخول إلى إسرائيل في إطار لمّ شمل العائلات. وعلى صلة بذلك تعتقد أكثرية المستطلعين من مجمل الجمهور (55 بالمئة) أنه يجب أن تخصص للبلدات اليهودية موارد أكثر من الموارد التي تخصص للبلدات العربية، وعارضت هذا الرأي أقلية (42 بالمئة). وفي الجمهور اليهودي، ثمة أغلبية واضحة (71 بالمئة) في اليمين مؤيدة لهذا الموقف، فيما وافقت عليه في معسكر الوسط أقلية (46 بالمئة)، وفي معسكر اليسار أقلية أدنى من ذلك (38 بالمئة).  ويتضح من انقسام الإجابات بحسب درجة التدين أن 51 بالمئة من المتدينين الحريديم يوافقون على هذا التحديد (الرأي)، في حين أن 45 بالمئة من صفوف المتدينين و28 بالمئة من صفوف التقليديين و18 بالمئة فقط بين العلمانيين يوافقون عليه.

 

وعقب وزير الخارجية الإسرائيلية أفيغدور ليبرمان على نتائج هذا الاستطلاع بقوله إن قيادة العرب في إسرائيل تتحمل المسؤولية الكاملة عن كراهية اليهود للسكان العرب. وأعرب عن رضاه من تأييد أغلبية الجمهور في إسرائيل رهن حق التصويت للكنيست بإعلان الولاء لإسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، وقال "يبدو أن الجمهور العريض في إسرائيل أكثر شجاعة من قيادته في هذا الشأن".

 

وسُئل ليبرمان في سياق مقابلة أدلى بها إلى راديو "صوت إسرائيل" عن رأيه بشأن تأييد 33 بالمئة من اليهود احتجاز المواطنين العرب في معسكرات اعتقال في حال اندلاع حرب، وتأييد 53 بالمئة منهم تشجيع العرب على الهجرة من البلد، فقال إن "المسؤولية الكاملة عن هذه النتائج تقع على عاتق قيادة عرب إسرائيل". وأضاف "إن من خرج العام 2010 في تظاهرات داخل دولة إسرائيل وهو يرفع صور (الأمين العام لحزب الله) حسن نصر الله ويطلق هتافات التأييد لحزب الله ويؤيد حركة حماس علنًا ويقف إلى جانبها ضد دولة إسرائيل هو الذي يتحمل المسؤولية عن هذه النتائج".

 

وادعى ليبرمان أن حزبه ("إسرائيل بيتنا") يحاول أن يتبع سياسة عقلانية تقوم على أساس الدفاع عن النفس، ورأى أن تأييد 54 بالمئة من الجمهور في إسرائيل رهن حق التصويت للكنيست بإعلان الولاء لإسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية وصهيونية "يعبر عن موقف واضح لأغلبية السكان في إسرائيل، التي باتت تدرك أن الواقع القائم يلزم إيجاد صلة بين المواطنة والولاء، وأن أي تأجيل في هذا الشأن سيشجع التشرذم ويمس شرعية الدولة".

 

 

(يتبـع)

هوامش:

 

16) عرضت ورقة صدرت في كانون الأول 2010 عن مركز عدالة القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل قائمة بعشرين قانونًا مركزيًا جديدًا ومشاريع قوانين مطروحة الآن والتي تميز جميعها ضد الأقلية الفلسطينية في إسرائيل وتهدد حقوقهم كمواطني الدولة، وتنتهك في بعض الحالات حقوق السكان الفلسطينيين في المناطق المحتلة. ولا تشمل هذه الورقة جميع التشريعات التمييزية أو العنصرية المطروحة حاليًا في الكنيست، لكنها تُعدّد مشاريع قوانين تتمتع بقسط كبير من الفرص لنجاح تشريعها وتحولها إلى قوانين تحمل ضررًا جسيمًا لحقوق الفلسطينيين، في حال تشريعها.  وأشير في الورقة إلى أن هذه القوانين ومشاريع القوانين التمييزية تترافق مع سلسلة من لوائح الاتهام الجنائية التي يقدمها المدعي العام ومع وسائل تحريضية وعقابية يقودها الكنيست الإسرائيلي في إطار ملاحقة أعضاء الكنيست العرب. راجع الفصل الخاص بالفلسطينيين في إسرائيل ضمن هذا التقرير.

17) هذا ما خلص إليه مقال بقلم شيري كرافس، وهي مساعدة بحث في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية- القدس ومحامية متخصصة في القانون الدولي في جامعة ستانفورد في الولايات المتحدة، والبروفسور مردخاي كريمنيتسر، نائب رئيس المعهد الإسرائيلي للديمقراطية والأستاذ في كلية الحقوق في الجامعة العبرية - القدس. وقد نُشر في الموقع الإلكتروني للمعهد الإسرائيلي للديمقراطية على شبكة الانترنت.

18) المشهد الإسرائيلي، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، 23/2/2010.

19) المشهد الإسرائيلي، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، 17/8/2010.

التعليقات