النخب الإسرائيلية و"الربيع العربي"/ أنطوان شلحت (1-3)

مواقف النخب الإسرائيلية ما زالت تراوح بين حديّن: أولاً، تقويم دلالات الثورات العربية بالنسبة للوضع الإقليمي القائم؛ ثانيًا، محاولة استشراف تداعياتها المحتملة على إسرائيل

النخب الإسرائيلية و

[من المجلة الفصلية "قضايا إسرائيلية" الصادرة عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، عدد 41- 42، صيف 2011]

 

مدخـل

 

(*) من المتوقع أن يستمر اهتمام النخب الإسرائيلية السياسية والعسكرية والأكاديمية والإعلامية المنصبّ على "ربيع الشعوب" في العالم العربي، والذي لاحت تباشيره قبل أكثر من نصف عام، فترة طويلة، ولا سيما في ظل ما تعتبره هذه النخب "حالة غموض" أو "حالة عدم يقين" تسيطر على ما عداها من حالات سواء إزاء النتائج الناجزة إلى الآن، أو إزاء النتائج المرتقبة في قادم الأيام، وكذلك في ضوء عدم حسم الوجهة المحدّدة التي تسير نحوها الثورات الشعبية المتعدّدة، في ما يتعلق بتلك التي أفلحت في قلب أنظمة الحكم الاستبدادية وفي مقدمها ثورة 25 يناير المصرية، أو تلك التي لم تنجح في تحقيق الهدف ذاته أو أهداف أخرى.

ولدى الإعداد لهذه المقالة (في أواخر حزيران/ يونيو 2011) فإن ما ظهر في وسائل الإعلام والمنابر الإسرائيلية المتعدّدة في إطار تقويم تلك النخب لدلالات "الربيع العربي" بدا أنه يركز أكثر من أي شيء آخر على ثلاثة سيناريوهات مستقبلية متوقعة لهذه الثورات وبالأساس في ما يتعلق بعنصر الاستقرار الذي قد ينبثق عنها، وهي:

أولاً، سيناريو هيمنة "نموذج الاستقرار القذافي"، أي الاستقرار الذي يتم تحقيقه بواسطة القبضة الحديدية؛

ثانيًا، سيناريو هيمنة القوى الإسلامية؛

ثالثًا، سيناريو تحقيق تطوّر اقتصادي، والذي جرى التشديد على أنه السيناريو المرغوب أكثر من سواه لغايات سياسية إسرائيلية محض.

وفي خضم ذلك كله أشير إلى أن أمرًا واحدًا بات مؤكدًا، وهو عدم إمكان استمرار الوضع الإقليمي القائم (الستاتيكو).

في الوقت نفسه فإن أبرز الدروس التي استخلصتها هذه النخب في معظمها من تلك الثورات تمثلت في ما يلي:

أولاً، أنه لا فائدة ترجّى من مطالبة الأنظمة العربية بإجراء "إصلاحات"، ذلك بأن "الإصلاح" الأهم المطلوب من الرئيس السوري بشار الأسد مثلاً هو أن يقدّم نفسه إلى المحاكمة، وبالتأكيد فإنه لن يقدم على ذلك مطلقًا، فضلاً عن أن هذه الإصلاحات يمكن أن تكون أداة ناجعة للحفاظ على الأنظمة القديمة لا للقضاء عليها. وبناء على ذلك فإن بعض النخب شدّد على أن المطلوب بالأساس هو بناء ديمقراطية كاملة تؤدي إلى نشوء سلطة متعدّدة الأحزاب، وإلى إجراء انتخابات حرّة، وإلى إنشاء جهاز قضائي مستقل، وإلى فرض احترام حقوق الإنسان من خلال سنّ قوانين أساسية.

ثانيًا، أن الدولة العربية المقبلة المرشحة لأن تندلع ثورة فيها (بعد كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية) يمكن أن تكون التي لا يوجد توقعات كبيرة بشأن إمكان اندلاع ثورة فيها مثل الأردن، "الجار الشرقي لإسرائيل"، ولذا فمن المنطقي أن يقوم العاهل الأردني عبد الله الثاني بإجراء مزيد من الإصلاحات وإقامة مزيد من "لجان الحوار الوطني"، وفي الوقت نفسه من الممكن ألا تؤدي هذه الخطوات كلها إلى تهدئة الجمهور الأردني العريض.

ثالثًا، أنه على الرغم من مرور نحو 33 عامًا على انتصار ثورة الإمام الخميني (الثورة الإسلامية) في إيران في العام 1979 فإن هذه الثورة لم تعد تملك أي تأثير في شعوب الشرق الأوسط، والتي ليس من المبالغة القول إنها ترفض نموذج هذه الثورة، كما أن زعماء إيران أنفسهم باتوا يعيشون في خوف دائم من غضب جمهورهم نفسه (يديعوت أحرونوت، 12 حزيران/ يونيو 2011).

 

آخر تداعيات "الربيع العربي" على إسرائيل

 

يمكن القول إن مواقف النخب الإسرائيلية ما زالت تراوح بين حديّن: أولاً، تقويم دلالات الثورات العربية بالنسبة للوضع الإقليمي القائم؛ ثانيًا، محاولة استشراف تداعياتها المحتملة على إسرائيل. ولا شك في أن الحديّن متصلان مبنى ومعنى.

وبخصوص موقف المؤسسة السياسية الإسرائيلية الرسمية رأى سيفر بلوتسكر، أحد كبار المعلقين في صحيفة يديعوت أحرونوت، أنه بعد مرور نحو نصف عام على تفجّر هذه الثورات حان الوقت كي تفكر إسرائيل بما سوف يحدث في منطقة الشرق الأوسط، وكيف ستكون ملامح المنطقة عندما تجري انتخابات حرّة في معظم الدول العربية- الإسلامية تسفر عن إقامة حكومات ائتلافية، متوقعًا بأن يكون هذا الأمر حتميًا، غير أنه استدرك قائلاً: "على حدّ علمي فإن المسؤولين في القدس لا يبذلون أي جهد أو تفكير بشأن بلورة السياسة الخارجية التي يجب على إسرائيل أن تتبعها في المستقبل" (يديعوت أحرونوت، 13 حزيران/ يونيو 2011).

أمّا المحلل السياسي في صحيفة هآرتس ألوف بن (الذي أصبح في هذه الأثناء رئيسًا للتحرير) فلمح إلى أن الانتفاضة في سورية أحدثت منذ الآن تغيرا في ميزان القوى في الشرق الأوسط، على الرغم من أنها لا تزال بعيدة عن الحسم، ونجم هذا التغيّر عما أسماه "تبدّل اتجاه الرياح في الآونة الأخيرة"، والذي كان من نتائجه الظاهرة للعيان جعل إيران في حالة تقهقر، وجعل مكانة إسرائيل تتعزز من جديد. وأضاف أن المخاوف التي أثارتها في إسرائيل الموجة الأولى من "الربيع العربي" آخذة في التلاشي، وأن التحولات في الدول المجاورة بدأت تتخذ "صورة الفرصة الإستراتيجية" بالنسبة لها.

وفي رأيه فإن نقطة الانعطاف السابقة في المنطقة سجلت قبل نحو خمسة أعوام، في أثناء حرب لبنان الثانية (صيف 2006). فالفشل العسكري في المواجهة مع حزب الله كشف ضعفا إسرائيليًا وأدى إلى تعزّز نفوذ إيران، الراعية للسيد حسن نصر الله، ووثق الرئيس السوري بشار الأسد تحالفه العسكري والسياسي والاقتصادي مع حكام طهران، وسيطر حزب الله على لبنان، وأحكمت حركة حماس سيطرتها على قطاع غزة، وابتعدت تركيا عن إسرائيل واقتربت من إيران وسورية وحماس. وفي العام 2010 تسببت قضية قافلة السفن التركية التي كانت متجهة إلى قطاع غزة بحدوث تصدع علني بين القدس وأنقرة، ومع سقوط سلطة الرئيس المصري السابق حسني مبارك فقدت إسرائيل أيضا الحلف الإستراتيجي مع مصر وبقيت معزولة وخائفة. والبديل الذي وجده رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في التقرب من اليونان أفلس، ولا يمكنه في الأحوال جميعًا أن يحل محل أنقرة والقاهرة (هآرتس، 24 حزيران/ يونيو 2011).

وأشار بن أيضًا إلى أن وقوف رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان في رأس المعارضين العلنيين لسلطة الرئيس الأسد، الذي يستعين بإيران لإنقاذ كرسيه المهتز، يعني أن الهدوء في العلاقة بين دمشق وأنقرة وصل إلى نهايته، ومعه من المفترض أن تنتهي كذلك سياسة "صفر مشكلات مع الجيران" التي قادها وزير الخارجية التركية أحمد داوود أوغلو، لتعود صراعات القوى والنزاعات المعروفة من قبل إلى الواجهة.

ونقل هذا المحلل عن خبير إسرائيلي في شؤون الشرق الأوسط قوله إن إيران وتركيا تتصارعان على السيطرة والنفوذ في سورية، وعندما تتصارع تركيا مع إيران فإنها تقترب من جديد من إسرائيل ومن الولايات المتحدة، باعتبارهما الخصمين الأكبرين للإيرانيين في المعركة على السيطرة والنفوذ في الشرق الأوسط. وفي يوم 20 حزيران/ يونيو 2011 تحادث أردوغان هاتفيا مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، بعد بضع ساعات من الخطاب الذي ألقاه الأسد في جامعة دمشق. ووفقًا للبيان التركي، فقد ركز الزعيمان حديثهما على سورية وليبيا وتناولا أيضا المسيرة السلمية "كعامل مهم في استقرار المنطقة". وأعرب الرجلان عن تأييدهما "المطالب المشروعة" للمتظاهرين السوريين واتفقا على أن "يتابعا عن كثب" الأوضاع في سورية. وفي الغداة نشر الأتراك برقية بعث بها نتنياهو إلى أردوغان هنأه فيها بانتصاره الساحق في الانتخابات التشريعية، واقترح بذل مساع لحل جميع المشكلات المفتوحة بين الدولتين.

ونوّه محللون آخرون بأن هذه التطورات، المرتبطة في الأساس بتراجع إيران وعودة قدر من الحرارة إلى العلاقات الخاصة بين إسرائيل وتركيا، جعلت مسؤولين إسرائيليين آخرين غير نتنياهو "يتنفسون الصعداء". وكان في مقدمهم وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك الذي "تنبأ" بأن "يسقط نظام الرئيس السوري بشار الأسد في غضون ستة أشهر"، مشددًا على أن هذا النظام "فقد شرعيته بسبب المواجهات التي وقعت بين قواته وبين المتظاهرين ضده"، وعلى أن "الأسد اجتاز نقطة اللاعودة، نتيجة استخدامه القوة المفرطة، وتسببه بحفر قبور كثيرة" (يديعوت أحرونوت، 21 حزيران/ يونيو 2011).

وغداة ذلك أعلن باراك أن على إسرائيل ألا تهاب من حالة الغموض التي تسيطر على منطقة الشرق الأوسط نتيجة الثورات في العالم العربي، وأن تعمل على دفع المفاوضات مع جيرانها قدمًا (معاريف، 22 حزيران/ يونيو 2011). وفي الوقت ذاته سربت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية "سيناريو" محددًا بشأن النهاية المرتقبة للأحداث التي تعصف بسورية فحواه توقعات دفينة بأن "يتم في نهاية المطاف التوصل إلى اتفاق بين جزء من كبار ضباط الطائفة السنية في الجيش السوري وبين كبار ضباط الطائفة العلوية يتضمن توفير حماية لأبناء هذه الطائفة الأخيرة، ويتيح إمكان التوصل إلى حل سياسي يضع حدًا للأزمة التي تشهدها سورية، ويؤدي إلى إطاحة الرئيس بشار الأسد" (هآرتس، 22 حزيران/ يونيو 2011).

وبينما دأب كبار المسؤولين في المؤسستين السياسية والأمنية في الفترة السابقة على التحذير من خطر التحوّل الإسلامي (الأسلمة) وتفكك أنظمة الحكم القائمة، فإنهم أخذوا مؤخرًا يتحدثون في مديح الديمقراطية في الدول العربية (الدمقرطة)، إلى درجة أن وزير الخارجية الإسرائيلية أفيغدور ليبرمان، رئيس حزب "إسرائيل بيتنا" (يمين متطرف)، أكد أنه "لا مكان لأي تدخل عسكري (أجنبي) في سورية، وليس من واجبنا أن ندعو إلى ذلك، وثمة وسائل كافية لإجبار الأسد على الاستقالة، كما أن هناك رافعات اقتصادية ودبلوماسية وسياسية كافية لممارسة الضغط على الأسد كي يتنحى عن منصبه، ويجب على الأسرة الدولية أن تستخدمها على نحو صحيح في ضوء التطورات الرهيبة التي تحدث هناك" (يديعوت أحرونوت، 15 حزيران/ يونيو 2011).

وما يجب ملاحظته هو أن موقف ليبرمان هذا جاء مجانبًا لردات فعل سابقة صدرت عن عدد من قادة المؤسستين السياسية والأمنية في إسرائيل حيال الثورة في ليبيا مثلاً، والتي أعربوا من خلالها عن الخشية من أن تؤدي الأوضاع في هذا البلد إلى ما أسموه "نشوء فراغ سلطوي" ربما تدخل إليه قوى عديدة، كما أنهم أعربوا عن "القلق" من قيام تنظيم "القاعدة" بإعلان تأييده الثورة. وفي موازاة هذا كانت هناك تلميحات إسرائيلية شبه رسمية إلى أنه لا يجوز للولايات المتحدة والدول الأوروبية أن تجازفا بسقوط ليبيا في أيد خطرة. وسوّغ أصحاب هذه التلميحات رؤيتهم في هذا الصدد بثلاثة مبررات رئيسة هي: أولاً، موقع ليبيا القريب من أوروبا؛ ثانيًا، ثروتها النفطية؛ ثالثًا، احتمال وجود سلاح كيماوي في حيازتها. وهذا السبب الأخير يتسق مع محاولات إسرائيل المحمومة في الآونة الأخيرة أن تقضّ مضاجع العالم بخطر وقوع أسلحة غير تقليدية في يد منظمات "إرهابية" عالمية. وقد فسحت هذه الرؤية المجال على وسعه أمام هيمنة سيناريو محدد على أطياف النظرة التي ترى إسرائيل بواسطتها آخر التطورات المرتبطة بمسار الثورة في ليبيا، كان فحواه ضرورة قيام حلف شمال الأطلسي (الناتو) بقيادة الولايات المتحدة بالتدخل المباشر بحجة "ضمان استقرار ليبيا". ووفق الاعتقاد الإسرائيلي فإن الناتو يملك قدرة على تغيير الوضع في ليبيا في غضون فترة قصيرة للغاية. كما أن مثل هذا العمل يمكن أن يؤشر، وفق السيناريو الإسرائيلي، إلى كل مراكز القوى في ذلك البلد نحو أي جانب يجدر بها أن تميل. وذهب البعض إلى أنه خلافاً لنماذج عديدة من التدخلات العسكرية الأجنبية في الماضي (مثل الصومال وأفغانستان والعراق) فإنه في هذه المرة لا خوف من أن تعتبر "قوات التدخل" قوة احتلال خارجية، وذلك لأن الشعب الليبي هو الذي يطلب مثل هذه "المساعدة العينية". ولا بُدّ من الإشارة إلى أن الذين ألحوا على هذا السيناريو في معظمهم شددوا أكثر من أي شيء آخر على أن هذا التدخل، في حال حدوثه، سينطوي على أبعاد مهمة في كل ما يتعلق بإعادة بناء قوة الردع الأميركية في الشرق الأوسط، ذلك بأن من شأنه أن يمرّر رسائل ردع إزاء احتمال نشوء وضع في المستقبل قد تتعرّض فيه أنظمة أخرى مثل الأردن والبحرين وربما السعودية أيضا إلى الاهتزاز. وبناء على ذلك فإن الأزمة في ليبيا توجد برأيهم فرصة ذهبية لإعادة تصميم السياسة الأميركية بما ينسجم مع أهداف السياسة الإسرائيلية الإقليمية، التي يحتل عنصر الردع حيزًا متقدمًا للغاية فيها (يديعوت أحرونوت، 27 شباط/ فبراير 2011).

إلى جانب ما تقدّم من مؤشرات بشأن حدوث تغيير في "جوهر" النظرة الإسرائيلية، قال رئيس هيئة الأركان العامة السابق اللواء غابي أشكنازي إن إسرائيل ترغب في نشوء أنظمة حكم ديمقراطية في الجانب الآخر من حدودها، لكنها قبل ذلك ترغب في أن تكون لهذه الأنظمة زعامة تتحمل المسؤولية، الأمر الذي من شأنه أن يتيح إمكان التعاون معها (هآرتس، 23 حزيران 2011).

أما الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) الجنرال احتياط عاموس يادلين فقال في سياق كلمة ألقاها في "مؤتمر رئيس الدولة الإسرائيلية" الذي عقد في القدس تحت عنوان "نحو الغد"، إن إسرائيل لا تملك القدرة على التأثير في التغيرات التي يشهدها العالم العربي، ومن الأفضل ألا تتدخل فيها، وأشار إلى أنه يعتقد أن هذه التغيرات من شأنها أن تكون مفيدة لإسرائيل، مؤكدًا "أنا أنتمي إلى المتفائلين. وعلى المدى البعيد فإن التغيرات في العالم العربي تنطوي على فرصة لإسرائيل، والقيم التي كافح المتظاهرون في ميدان التحرير من أجلها هي قيمنا نحن أيضًا" (الموقع الإلكتروني التابع لصحيفة يديعوت أحرونوت، 22 حزيران/ يونيو 2011).

وبرأي الباحث إفرايم كام، نائب رئيس "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، فإن قيام أنظمة ديمقراطية حقيقية يمكن أن يكون النتيجة الأفضل سواء بالنسبة للدول العربية أو لدول الغرب وإسرائيل، خصوصًا وأن هذه الأنظمة يمكن أن تحد من قوة الحركات الإسلامية الراديكالية ونفوذها، وبالتالي أن تبدّد أرضية الإرهاب في المنطقة. فالتخوف الذي يساور الغرب وإسرائيل ليس من دمقرطة العالم العربي، وإنما من السيناريو الآخر المضاد، المتمثل في الأسلمة على غرار إيران، ومن إمكان صعود حركات إسلامية إلى سدة الحكم عن طريق الانتخابات، وإذا لم تؤد الهزة الإقليمية الراهنة إلى تقويض النظام الإسلامي في طهران أو تقويض حلفائه في دمشق وغزة، فإن إيران قد تكون من أكبر المستفيدين منها (المستجد الإستراتيجي، عدد نيسان/ أبريل 2011).   

تجدر الإشارة إلى أن ألـوف بـن كان قد أشار فور اندلاع ثورة 25 يناير المصرية إلى أنها تعتبر بمثابة فرصة ذهبية لكل من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع إيهود باراك كي يثبتا لأوباما وإدارته أن إسرائيل هي "الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي يمكنهما الاعتماد عليها" دائمًا، ولو أنه أكد في الوقت ذاته أن هذه الثورة من شأنها أن تضع الادعاء المكرور بأن إسرائيل هي "فيللا في الأدغال"، وأنها "الحصن الغربي الخارجي في الشرق الأوسط"، على المحك مرة أخرى (هآرتس، 31 كانون الثاني/ يناير 2011).

وقد اعتبر الأديب والأستاذ الجامعي نيسيم كلدرون أن استغراق إسرائيل ووسائل إعلامها في البحث الدائب عن الفوائد والأضرار التي ستترتب على "الربيع العربي" بالنسبة لها فقط، وذلك في خلاف تام مع وسائل الإعلام في العالم كله وبالأساس مع وسائل الإعلام في الولايات المتحدة والتي انشغلت بأمور أخرى مثل توق العالم العربي إلى الحرية وإلى بناء الديمقراطية، إنما يعبر عن عودتها (إسرائيل) إلى عقلية الغيتو التي تزيّن سبيل التفكير الانعزالي إزاء حدث جلل أثار دهشة العالم أجمع وحبس أنفاسه، مشددًا على أنه حان الوقت "كي نرفع رأسنا سنتمترًا واحدًا نحو الأعلى" (الموقع الإلكتروني التابع لصحيفة يديعوت أحرونوت، 26 أيار/ مايو 2011).

وقد لخص الصحافي شموئيل روزنر، الخبير في الشؤون الأميركية، الفجوات بين مواقف إسرائيل والولايات المتحدة على النحو الآتي: "لا يعبأ الإسرائيليون كثيرا في ما إذا كانت مصر ستنعم بنظام حكم ديمقراطي أو ديكتاتوري.. إن ما يهمهم فقط هو الحفاظ على الاستقرار وعلى اتفاق السلام!... في المقابل فإن الأميركيين متحمسون لما يعتبرونه تحولا نحو الديمقراطية (في مصر)" (الموقع الإلكتروني التابع لصحيفة معاريف، 7 شباط/ فبراير 2011).

 

"الشارع العربي" كلاعب مركزي

 

عكست تصريحات الرئيس الجديد لهيئة الأركان العامة الإسرائيلية اللواء بيني غانتس (والذي بدأ ولايته في أواسط شباط/ فبراير 2011)، لدى اشتراكه في أول اجتماع عقدته لجنة الخارجية والأمن في الكنيست بحضوره يوم 31 أيار/ مايو 2011، جانبًا من رؤيته الأمنية والمقاربة التي قد تُشتق منها، وخصوصًا إزاء "التهديدات الماثلة أمام إسرائيل في الوقت الحالي".

وفي رأيه فإن هذه "التهديدات" أصبحت واسعة للغاية، "بدءًا من السكين وانتهاء بالسلاح النووي"، أي بدءًا من عملية "إرهابية" يقوم بها شخص بمفرده، وانتهاء بالخطر النووي الإيراني، وفقًا لوسائل الإعلام الإسرائيلية، التي فسرّت الماء بالماء.

وفضلاً عن "التهديدات" التقليدية، وفي صلبها خطر الصواريخ المتعددة المدى الموجودة في حيازة كل من حزب الله وحماس وسورية، فإن غانتس أكد من جهة أولى وجوب أن يبقى مستوى جهوزية إسرائيل الأمنية عاليًا بسبب الغموض المسيطر على الأوضاع في كل من مصر وسورية، وضرورة الانتباه من جهة أخرى إلى أن "ثمة لاعبًا مركزيًا جديدًا في الشرق الأوسط هو الشارع (العربي)، ومن الواضح لنا أننا ربما سنواجه تظاهرات شعبية واسعة تحظى بتأييد هذا الشارع"، لافتًا إلى أن الجيش الإسرائيلي يستعد أيضًا لمواجهة إمكان اندلاع تظاهرات كهذه في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة (معاريف، 1 حزيران/ يونيو 2011).

وتجسّد بيت القصيد في تأكيده أن هذه التظاهرات مع شبكة التهديدات الواسعة الأخرى تستلزمان زيادة الميزانية المخصصة للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية.

وهو تأكيد يتسق مع "استنتاج إستراتيجي" ما انفك يتكرّر منذ انطلاق "الربيع العربي" مؤداه أن إسرائيل لا يمكنها لضمان مستقبلها سوى أن تنحو نحو مزيد من النزعة الإسبارطية، أي إلى ناحية تدجيج قوتها العسكرية وترسانة أسلحتها، الأمر الذي يستدعي زيادة الميزانية الأمنية الإسرائيلية.

وهذا ما أكده مثلاً رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، لدى إدلائه بأول تعقيباته ردًا على الثورات الشعبية العربية، وكان أبرزها قوله، في أثناء مراسم تنصيب الرئيس الجديد لهيئة أركان الجيش الإسرائيلي غانتس (في 14 شباط/ فبراير 2011)، أن إسرائيل تعيش فترة من انعدام الاستقرار في الشرق الأوسط، في إشارة إلى الثورة المصرية، وأن الجيش الإسرائيلي هو ركيزة إسرائيل الأكثر أهمية. وأضاف أن "زلزالا يضرب (في الوقت الحالي) العالم العربي وأجزاء من العالم الإسلامي، ونحن لا نعرف كيف ستنتهي الأمور، وبلادنا صغيرة جدا ونأمل في توسيع دائرة السلام، ونعرف أنه في نهاية المطاف فإن السند الحقيقي لضمان قدرتنا على الحفاظ على وجودنا هنا وقدرتنا على إقناع جيراننا بأن يقيموا علاقات سلام معنا، هو الجيش الإسرائيلي الذي يعتبر الكفيل الوحيد لضمان مستقبلنا".

 وكان وزير الدفاع إيهود باراك أرفع مسؤول في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية يعلن تفصيلات الزيادة المطلوبة على الميزانية الأمنية على رؤوس الأشهاد عندما صرّح لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية (يوم 8 آذار/ مارس 2011) بأن إسرائيل تتوقع الحصول على مساعدات أمنية أخرى من الولايات المتحدة بحجم 20 مليار دولار، بسبب الأحداث الأخيرة في العالم العربي، مؤكدًا أن وجود إسرائيل قوية "سيشكل عنصر استقرار مهم في منطقة تشهد اضطرابات كثيرة". وعلى الرغم من أن باراك لم يكشف أي تفصيلات بشأن منظومات الأسلحة التي ترغب مؤسسته في الحصول عليها من الولايات المتحدة، إلا إن النية تبدو متجهة نحو التزود بمزيد من أسراب الطائرات المقاتلة الحديثة، ومنظومات قتالية أخرى جرى دراستها أخيرًا في إطار خطة عمل الجيش الإسرائيلي للأعوام 2012- 2016 والتي استكملت في تلك الفترة تحديدًا. وبموجب ما كشفته بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية فإن المقصود: سرب طائرات من طراز إف 35 (الشبح) والتي يبلغ سعر كل طائرة منها 100 مليون دولار؛ غواصة جديدة من طراز دولفين سعرها 500 مليون دولار؛ سفينة صواريخ سعرها 125 مليون دولار؛ دبابات ميركافاه وسيارات نصف مجنزرة من طراز نيمر ومنظومات مضادة للصواريخ (يديعوت أحرونوت، 13 آذار/ مارس 2011).

ووفقًا لصحيفة معاريف فإنه جرت في قيادة الجيش الإسرائيلي ووزارة الدفاع في الآونة الأخيرة عملية تقدير موقف إزاء التغيرات التي حدثت في الشرق الأوسط، وخصوصًا في الدول التي لديها حدود مع إسرائيل، وذلك بهدف بلورة الخطوات المطلوب اتخاذها كي يتكيّف الجيش الإسرائيلي مع هذه التغيرات. ومن المتوقع أن تسفر عملية تقدير الموقف هذه عن بلورة خطة أمنية جديدة شاملة سيجري رفعها إلى الحكومة الإسرائيلية للمصادقة عليها. وقال مصدر عسكري إسرائيلي رفيع المستوى لصحيفة معاريف إن التغيرات الأخيرة في الشرق الأوسط تستلزم استعدادات خاصة من طرف الجيش الإسرائيلي، الأمر الذي يتطلب زيادة الميزانية الأمنية كثيرًا. وأضاف أن الجيش رفع مؤخرًا حالة التأهب في منطقة الحدود مع سورية في ضوء محاولات اختراق السياج الحدودي (في إطار التظاهرات التي جرت في مناسبة "يوم النكبة"- 15 أيار/ مايو 2011، و"يوم النكسة"- 5 حزيران/ يونيو 2011)، لكن في حال سقوط سلطة الرئيس بشار الأسد فإن ذلك يتطلب اتخاذ خطوات أخرى في المنطقة نفسها. وأكدت مصادر في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن سقوط سلطة حسني مبارك في مصر تستلزم هي أيضًا حالة تأهب جديدة في صفوف الجيش الإسرائيلي، ولا سيما في ضوء الصعوبات التي تواجهها السلطة المصرية الجديدة في إحكام السيطرة على شبه جزيرة سيناء، وفي ضوء احتمال أن تكون هذه السلطة أكثر عداء لإسرائيل (معاريف، 15 حزيران/ يونيو 2011).

وفي واقع الأمر فإنه حتى قبل "اتساع دائرة التهديدات الأخيرة" كان الأمن هو القضية المركزية (بل وحتى الوحيدة) التي تقف في رأس جدول أعمال سلطات الدولة الإسرائيلية، وبتأثير هذه السلطات الحاسم، لا ينفك الأمن في رأس أجندة مواطني الدولة أيضًا. وقد كان واضحًا في كل مرة يتمّ فيها بحث تخصيص الموارد أن المؤسسة الأمنية والعسكرية ستحصل على الميزانية التي تطلبها.  وتجدر الإشارة هنا إلى أن أي جهة- بمن في ذلك ذوو اليد الطولى من كبار موظفي وزارة المالية- لا تستطيع تفحص تفصيلات طلب الميزانية العسكرية- الأمنية، ولا تستطيع مراقبة كيفية إنفاق الأموال.

وفي رأي أحد أساتذة العلوم السياسية في إسرائيل فإن إيثـار الجيش وأجهزة الأمن على باقي أجهزة الدولة (وخصوصًا جهاز الرفاه الاجتماعي) نجم بالدرجة الأولى عن قدرة رجالات المؤسسة الأمنية على إقناع المواطنين الإسرائيليين بأن الدولة تواجه تهديدات مصيرية، وأن المؤسسة الأمنية هي مؤسسة ناجعة ورادعة وقادرة على أن تتصدى بنجاح لهذه التهديدات. وعلى الرغم من أنه بات من الواضح الآن أن هذه المؤسسة عاجزة عن توفير الردع الذي تتحدث عنه لأنها ليست ناجعة، ولأن أفرادها غير منزهين أو أبرياء من الفساد ومن السعي نحو تحقيق مآربهم ومنافعهم الشخصية، إلا إن معظم مواطني الدولة ما زال يكنّ التأييد والتقدير للجيش وللمؤسسة الأمنية. وهذه الحقيقة، فضلاً عن السيطرة المطلقة للمؤسسة الأمنية على التفكير والتخطيط العسكريين، يتيحان لهذه المؤسسة مواصلة التمتع من تخصيص الموارد وفقاً لرغباتها، وليس بموجب "الاحتياجات الواقعية".

 

عودة إلى البدايـة

 

إذا ما عدنا قليلاً إلى الوراء، لا بدّ من القول إن الأنظار في إسرائيل سرعان ما أصبحت مشدودة نحو ما شهده الشرق الأوسط من حُراكات جماهيرية تداعت في إثر أول الثورات الشعبية في كل من تونس ومصر وليبيا، والتي وصفتها على لسان رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو وغيره من قباطنتها بأنها زلزال يهزّ الوضع القائم، وينبئ بواقع مغاير وبنشوء شرق أوسط جديد.

وفي هذا الإطار فإن مركز الزلزال من ناحية إسرائيل تمثل في ثورة 25 يناير المصرية، ذلك بأن مصر كانت في نظر الأولى على مدار العقود الثلاثة الفائتة بمنزلة "عنوان الاستقرار الإقليمي"، لكنها غدت بين عشية وضحاها أشبه ببركان لا يعرف أحد متى يخمد، أو أين سيلقي حممه. وعليه كان من الطبيعي أن تحظى بالاهتمام الأكبر.

ومهما تكن الاستنتاجات الكثيرة التي طُرحت في البداية، في شأن مترتبات هذه الثورات على آفاق الصراع العربي- الإسرائيلي، فإن أبرزها تمثل في استنتاج إستراتيجي مؤداه أن إسرائيل لا يمكنها لضمان مستقبلها سوى أن تنحو نحو مزيد من النزعة الإسبارطية، أي تدجيج قوتها العسكرية وترسانة أسلحتها، الأمر الذي يستلزم زيادة الميزانية الأمنية الإسرائيلية، كما قال نتنياهو نفسه.

باستثناء ذلك فإن السيناريوهات التي جرى تداولها تراوحت بين التفاؤل الرغبي والتشاؤم المتسرّع. والسيناريو الأكثر تشاؤمًا كان أن "حالة عدم الاستقرار في مصر ربما تتيح لعناصر إسلامية إمكان السيطرة على السلطة، الأمر الذي من شأنه أن يلحق ضررًا كبيرًا باتفاق السلام مع إسرائيل".

في موازاة هذا، أجمعت أولى ردات الفعل الرسمية السياسية والعسكرية في إسرائيل، وكذلك معظم التحليلات الإعلامية، على أن الثورة المصرية دشنت عهدًا جديدًا في هذا البلد سينعكس على الشرق الأوسط برمته. كما أجمعت على أن ملامح هذا العهد الجوهرية لن تتضح سريعًا، فضلاً عن وجود احتمالات قوية بأن تؤجج الثورة في مصر ثورات أخرى في المنطقة تهدف إلى إحداث تغيير في أنظمة الحكم القائمة.

وما يجب ملاحظته هو أن الموقف الإسرائيلي الرسمي اتسم في البداية بتأييد سلطة الرئيس السابق حسني مبارك، وجاء مفارقًا لموقف الإدارة الأميركية وسائر الدول الغربية بل ومؤنبًا له- كما سنوضح في سياق لاحق- لكنه سرعان ما ضبط خطاه على إيقاع الموقف الأميركي والغربي مؤكدًا أن أي تغيير نحو مزيد من الديمقراطية لا يتعارض مع مصلحة إسرائيل. ومع ذلك فإن المسؤولين السياسيين والعسكريين في إسرائيل ظلوا يؤكدون أن الأمر الأهم بالنسبة إليهم هو الحفاظ على اتفاق السلام مع مصر الذي يعتبرونه رصيدًا إستراتيجيًا بالغ الأهمية، نظرًا لكونه عنصرًا مركزيًا في استقرار المنطقة والذي يعتبر بنظرهم في نهاية المطاف أهم كثيرًا من الديمقراطية. ولذا فإن ترحيب الحكومة الإسرائيلية ببيان المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية الذي أعلن أن مصر ستستمر في التزام اتفاق السلام مع إسرائيل كان كبيرًا، وثمة من رأى أنه يشف عن تنفسّهم الصعداء.  

كذلك بدا واضحًا أن من المتوقع أن تشدّد إسرائيل أكثر شيء على ما يلي:

أولاً، أنه في حال فسح المجال أمام "قوى متطرفة" (إسلامية) لاستغلال عمليات ديمقراطية من أجل السيطرة على السلطة ودفع غايات غير ديمقراطية، كما حدث في إيران ودول أخرى، فإن النتيجة ستكون إلحاق أضرار بالسلام والاستقرار؛

ثانيًا، أن إيران ستحاول تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، وأول إشارة إلى ذلك تمثلت في قيام سفينتين حربيتين إيرانيتين في آخر أسبوع من شباط/ فبراير 2011 بعبور قناة السويس نحو البحر الأبيض المتوسط في طريقهما إلى سورية، وذلك بعد أن تم تجنّب القيام بخطوات من هذا القبيل منذ اندلاع الثورة الإسلامية فيها العام 1979 (ردًا على ذلك قال نتنياهو في الاجتماع الذي عقدته الحكومة الإسرائيلية يوم 20 شباط/ فبراير 2011: "إن ما نستطيع أن نتبيّنه الآن هو حقيقة أننا نعيش في منطقة غير مستقرة، حيث تحاول إيران استغلال الوضع الناشئ لزيادة نفوذها من خلال نقل سفينتيْن حربيتيْن عن طريق قناة السويس" إلى البحر الأبيض المتوسط. وأضاف: "إن إسرائيل تنظر بخطورة إلى الخطوة الإيرانية هذه، وشأنها شأن خطوات وتطورات أخرى فإنها تعزّز صحة ما قلته مرارًا وتكرارًا خلال الأعوام الفائتة من أن حاجات إسرائيل الأمنية سوف تزداد مما يقتضي زيادة الميزانية الأمنية الإسرائيلية")؛

ثالثًا، أن حاجات إسرائيل الأمنية سوف تزداد، الأمر الذي يقتضي زيادة الميزانية العسكرية الإسرائيلية، وإجراء تعديلات على جهوزية الجيش الإسرائيلي في ضوء احتمال "تجدّد خطر الجبهة الجنوبية" (مع مصر) إلى جانب ما يلوح من أخطار في "الجبهة الشرقية" بتأثير ما يحدث في العراق.

وعبّر الرئيس السابق لهيئة الأركان العامة في الجيش الإسرائيلي غابي أشكنازي، في آخر اجتماع لهيئة الأركان عقد برئاسته (يوم 10 شباط/ فبراير 2011)، عن موقف المؤسسة العسكرية الإسرائيلية قائلاً: "إننا نشهد في الآونة الأخيرة تغيرات كبيرة تحدث من حولنا، وهذه التغيرات تزيد سحب الضباب المتلبدة في سماء الشرق الأوسط، وإزاء ذلك فإن واجبنا الأساس كامن في الحفاظ على دولة إسرائيل قوية وجاهزة".

كما أشار أشكنازي إلى أن جبهات المواجهة في الشرق الأوسط قد اتسعت في الآونة الأخيرة، مؤكدًا أن التغيرات التي تحدث في مصر ودول أخرى في المنطقة "تتطلب من الجيش الإسرائيلي أن يكون على أهبة الاستعداد للحرب المقبلة التي ستكون شاملة في بضع جبهات"، وأن "السلام مع مصر هو رصيد إستراتيجي بالنسبة لإسرائيل". وشدّد على أن "مستجدات الواقع الذي يحيط بإسرائيل، وفي مقدمها تعزّز قوة المعسكر الراديكالي في كل من لبنان وتركيا، تنطوي على مخاطر جمّة، وبالتالي فإنه يتعين على إسرائيل أن تكون مستعدة في أكثر من جبهة، الأمر الذي يحمل دلالات مهمة بالنسبة للجيش. في الوقت نفسه فإنه يجب تجهيز الجبهة الإسرائيلية الداخلية كي تصبح أفضل مما كانت عليه في أثناء حرب لبنان الثانية (صيف 2006)". ولفت إلى أن أحد الدروس المستخلصة من تلك الحرب الأخيرة كامن في "ضرورة تهيئة الجيش لخوض حرب تقليدية، ولذا فإننا اعتمدنا خطة متعددة السنوات لتدريب جنود الجيش الإسرائيلي على خوض حرب تقليدية، فلم يعد كافيًا أن يملك الجيش قدرات على إطلاق نيران دقيقة من الجو صوب العدو الذي ينتشر في مناطق آهلة، وإنما يجب أيضًا أن تكون لديه قوة بريّة تملك القدرة على المناورة وعلى توجيه ضربات مكثفة إلى العدو، فضلاً عن حماية مناطق الحدود".

وطبقًا لتقديرات شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) بشأن العام 2011، والتي نُشرت بالتزامن مع الثورة المصرية، فإنه سيكون عام زلازل سياسية وأمنية في الشرق الأوسط، ولذا فإنه عام إستراتيجي، أي عام تغيرات إستراتيجية دراماتيكية في المنطقة ستبلغ مرحلة النضوج عشية انتهائه. ومن المعروف أن هذه التقديرات السنوية تقف عادة في صلب خطط العمل التي يعتمدها الجيش الإسرائيلي. وتوقعت هذه التقديرات أن تمرّ السلطة الفلسطينية بتغيرات كبيرة، وأن تؤثر الثورة المصرية في جوهر لهجة السلطة وتعاملها إزاء موضوع الاتصالات مع إسرائيل، وكانت ثمة توقعات بأن يحدث تراجع في العلاقات الأمنية بين السلطة وإسرائيل، كي تتجنب النظر إليها باعتبارها سلطة عميلة لإسرائيل. من ناحية أخرى، فإن التقديرات توقعت أن يسقط لبنان في قبضة حزب الله، وأن تصبح شبه جزيرة سيناء منطقة أكثر إشكالية لأنها ستكون بمثابة ثغرة لعلاقات تعاون مع سلطة حماس في قطاع غزة (أليكس فيشمان، يديعوت أحرونوت، 10 شباط/ فبراير 2011).

ورأى معلقون عسكريون إسرائيليون أن هذه التقديرات تستلزم إقدام إسرائيل على استعدادات سياسية وعسكرية يكون هدفها منع هذه التغيرات من أن تتحوّل إلى تهديدات إستراتيجية. كما أشاروا إلى أن التقديرات السائدة في إسرائيل تؤكد أنه لن تحدث تغيرات جوهرية في سياسة مصر الخارجية والأمنية حتى شهر أيلول/ سبتمبر 2011 (موعد انتهاء ولاية السلطة الحالية في مصر)، وحتى ذلك الحين سيكون لدى المسؤولين في إسرائيل متسع من الوقت للتفكير بما يجب اتخاذه إزاء التطورات المقبلة في مصر.

وبرأي غيورا أيلاند، الجنرال في الاحتياط والرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) و"مجلس الأمن القومي"، فإنه على مدار الأعوام الـ 32 الفائتة (أي منذ توقيع اتفاق السلام الإسرائيلي- المصري في 1979) كان في إمكان إسرائيل أن تشن حروبًا وعمليات عسكرية على أطراف عربية، بما في ذلك شن حربين على لبنان (في 1982 و2006) وعملية "السور الواقي" في الضفة الغربية في 2002، من دون أن تخشى ردة فعل عسكرية مصرية، لكن في حال ازدياد نفوذ الإسلام المتطرف داخل السلطة في مصر فإن هذا الأمر لن يحدث في المستقبل، كذلك فإنه كان في إمكان الجيش الإسرائيلي أن يجازف قليلاً في كل ما يتعلق بمجال بناء قوته العسكرية ما دامت مصر لا تشكل خطرًا كبيرًا عليه، غير أن الوضع الجديد ربما سيضطر إسرائيل إلى زيادة ميزانيتها الأمنية وتغيير سلم أولويات جيشها. وفي قراءته فإن "العزاء الوحيد لإسرائيل الآن هو أنه حتى في حال تحقق مثل هذا السيناريو فإن السلطة الجديدة في مصر ستكون بحاجة إلى بضعة أعوام كي تجعل مكانتها مستقرة داخليًا. وبكلمات أخرى: إذا ما حدث تغير إستراتيجي نحو الأسوأ فسيكون لدى إسرائيل متسع من الوقت لدراسته والاستعداد له كما يجب" (يديعوت أحرونوت، 31 كانون الثاني/ يناير 2011).

واتفق مع هذا الرأي إفرايم سنيـه، العميد في الاحتياط الذي شغل في السابق مناصب وزارية متعددة ومنصب نائب وزير الدفاع، والذي دعا إلى بناء قوة الجيش الإسرائيلي بمنأى عن الفرضية السائدة منذ أكثر من 30 عامًا وفحواها أن مصر لم تعد عدوًا عسكريًا لإسرائيل، وإلى تسريع عملية بناء الجدار في منطقة الحدود مع مصر، وإلى إعادة احتلال "محور فيلادلفي" (محور صلاح الدين) في منطقة الحدود بين قطاع غزة ومصر، وإلى تعزيز المحور الإسرائيلي- الأردني- الفلسطيني، مؤكدًا أن مصر ما بعد الثورة لن تستمر في إتباع السياسة التي كان الرئيس مبارك يتبعها إزاء إسرائيل، كما أنها ستحسن علاقاتها مع سلطة حماس في غزة، وبناء على ذلك فإن المقاربة التي تتعامل مع إسرائيل باعتبارها خطرًا إستراتيجيًا سوف تتعزّز (يديعوت أحرونوت، 1 شباط/ فبراير 2011).

وربط مسؤولون عسكريون آخرون، منهم الجنرال في الاحتياط داني روتشيلـد، رئيس "مؤتمر هرتسيليا حول ميزان المناعة والأمن القومي في إسرائيل"، بين التغيرات المتوقعة برسم الثورة المصرية وبين تغيّر سلم أولويات الولايات المتحدة، في ضوء تراكم إشارات تشي بأن الرئيس الأميركي باراك أوباما بات على قناعة- في ضوء نتائج انتخابات التجديد النصفية للكونغرس في تشرين الثاني/ نوفمبر 2010- بأن الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2012 ستحسم بناء على أدائه في السياسة الداخلية الأميركية لا بناء على إنجازاته أو إخفاقاته على صعيد السياسة الخارجية. وعليه فإنه، بوعي تام، سيوجّه اهتمام إدارته كي ينصب على التحديات الداخلية. وقد عبر خطاب أوباما حول "وضع الأمة"، في أواخر شهر كانون الثاني/ يناير 2011، عن هذا التوجه بشكل واضح وجلي، ولعل سلوك إدارته تجاه الرئيس المصري السابق جاء ليؤكد ذلك قولا وعملا. بالإضافة إلى هذا فإن التركيز على الانسحاب من العراق، والانتقال إلى الدفاع في أفغانستان، وجهود إصلاح الاقتصاد الأميركي، تعتبر كلها خطوات مهمة حاليا من أجل بقاء أوباما السياسي أكثر بما لا يقاس من أهمية العملية السياسية في الشرق الأوسط. وفي قراءة روتشيلد فإن الرؤية السائدة في المنطقة بشأن ضعف الولايات المتحدة وتضعضع مكانتها الإقليمية، تضعف إسرائيل والدول المعتدلة في الشرق الأوسط، وتصب في مصلحة تعزيز تمدّد الهيمنة الإيرانية على بقاع آخذة في الاتساع، بدءًا من محور حماس- حزب الله- سورية وتركيا، مرورا بدول الخليج، وانتهاء بمصر والسعودية. وهذه العملية ما زالت تكتسب زخما، بل ويمكن أن تزداد خطورة ما لم يحدث تغير جوهري في السياسة الخارجية الأميركية (خطابه في "مؤتمر هيرتسليا الـ 11"، كانون الثاني/ يناير 2011).

 

[للبحـث صلـة]

التعليقات