يهودية الدولة: الفكرة، الدولة، وإشهارها../ عبد الحفيظ محارب *

لا يمكن للطرف الفلسطيني، ومن المتعذّر عليه، تلبية ما يطالب به رئيس الحكومة الإسرائيلية، لكون "الحق" الذي يطالب به نتنياهو، يشمل الأراضي الفلسطينية جميعها، والأردن بكامله، فضلاً عن مناطق تابعة لخمس دول عربية أخرى

يهودية الدولة: الفكرة، الدولة، وإشهارها../ عبد الحفيظ محارب *
 أخذ مفهوم يهودية الدولة – إسرائيل دولة يهودية، منذ نحو عقد من الزمن، يتردد على ألسنة عدد من المسؤولين الإسرائيليين، ويشغل اهتمام وسائل الإعلام، ويحتل حيّزاً في أوساط الباحثين والأكاديميين.
 
ومن الملاحظ بوضوح أن ارتفاع وتيرة تردده وتداوله ترافق مع مسار عملية التفاوض بين الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي. كما وأنه يطرح، عادة، من جانب الطرف الإسرائيلي، كطلب، أو اشتراط، موجه إلى الطرف الفلسطيني. ويطفو على السطح، في بعض الأحيان، خلال الصراع الداخلي بين التيارات السياسية الإسرائيلية حول النشاط الاستيطاني في المناطق الفلسطينية المحتلة والتقدم في عملية السلام.
 
ففي أعقاب تقديم الإدارة الأميركية خطة خريطة الطريق، أرفقت إسرائيل قبولها للخريطة المقترحة جملة من التحفّظات والتعديلات والإضافات – مع أنها نسّقت معها في رسم معالم الخريطة – وضرورة اعتراف الطرف الفلسطيني بيهودية الدولة – إسرائيل دولة يهودية (أيار – 2003). وهدفت من وراء ذلك الالتفاف حول حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
 
لقد حرص رؤساء الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بدءاً بأرئيل شارون، وانتهاء ببنيامين نتنياهو، على ترديد المطالبة بيهودية الدولة. ففي الرابع من حزيران 2003، ألقى شارون خطاباً في مدينة العقبة الأردنية، طالب فيه الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية.
 
وسار الرئيس الأميركي السابق جورج بوش على منواله، ولم يترك فرصة تمر دون الإعلان عن إسرائيل كدولة يهودية حيوية. وفي مؤتمر أنابوليس، عاد رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت وأكّد ضرورة الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية (27/11/2007). ولم يفوّت الرئيس الأميركي باراك أوباما الفرصة، حيث أكّد هو الآخر ما سبق لسلفه ما تفوّه به، وأيد الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وكرّر ذلك أمام لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك) في العام 2008، وكذلك في أيلول من العام 2010 في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حين أكّد التزام الولايات المتحدة بالاعتراف بإسرائيل بصفتها دولة يهودية.
 
تجدر الإشارة هنا إلى أن لافتة يهودية الدولة تستثمر في الصراع الداخلي بين القوى السياسية في إسرائيل، وبخاصة بين المؤيدين والمعارضين للنشاط الاستيطاني في الأرض الفلسطينية المحتلة، حيث يعمد المعارضون إلى إشهار سلاح يهودية الدولة في وجه خصومهم، تحت ذريعة أن النشاط الاستيطاني من شأنه نسف عملية السلام، ما يستتبع سقوط حل الدولتين، وتمهيد الطريق أمام الحل الآخر المعتمد على قيام دولة ثنائية القومية، وما ينطوي عليه من مخاطر على يهودية الدولة. وقد سار عدد من المسؤولين في الإدارة الأميركية على منوال المعارضين الإسرائيليين للنشاط الاستيطاني، عند انتقادهم لهذا النشاط، لمسّه يهودية الدولة، وتعريض طابعها اليهودي للخطر.
 
وكما بزّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو جميع من سبقوه على سدّة الحكم في إسرائيل، برفع لافتة "الارهاب الفلسطيني" أمام عملية السلام بهدف عرقلتها ونسفها، فإنه أحرز قصب السبق في رفع لافتة يهودية الدولة، مشترطاً على الطرف الفلسطيني رفعها معه، ليتسنى التقدم في إرساء السلام المنشود. ورد الطرف الفلسطيني – الذي وجد نفسه أمام مطلب غريب يركز على طابع الدولة وليس على الدولة نفسها – مرة تلو الأخرى بالرفض وبأشكال وصيغ مختلفة.
 
ارتفعت وتيرة هذا المطلب الإسرائيلي في أثناء توجّه الطرف الفلسطيني للأمم المتحدة للحصول على اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية على حدود العام 1967، واتخذ نوعاً من التحدي. فبتاريخ 28/6/2011 توجّه نتنياهو، في كلمة له أمام أعضاء من الوكالة اليهودية في القدس، إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس مطالباً إيّاه بأن يردّد على لسانه جملة لا تتعدى كلمات أربع "أنا أقبل دولة يهودية". وما لبث أن جاء الرد على لسان الرئيس الفلسطيني، في الجلسة الافتتاحية للمجلس المركزي الفلسطيني الذي عقد في رام الله بتاريخ 27 تموز (يوليو) 2011 تضمّنت جملة قصيرة لم تتجاوز هي الأخرى كلمات أربع، تعبّر عن الرفض المطلق للاعتراف بالدولة اليهودية، أو يهودية الدولة "لن نقبل بها مطلقاً".
هنا نجد أنفسنا أمام تساؤلات عديدة. لماذا لا يكف صاحب القرار الإسرائيلي، عن مخاطبته الطرف الفلسطيني الاعتراف بدولة إسرائيل وفق الصيغة التي اعترفت بها سائر الدول؟ ولماذا الإصرار على صفة أو طبيعة الدولة، أي على يهوديتها؟ وهل القصد من وراء ذلك يقتصر على وضع عقبات أمام المفاوضات بغية نسفها، تهرّباً من الاستحقاقات المتأتية عنها؟ وما هي الأهداف الكامنة وراء الاعتراف العربي أو غيره، في تعريف إسرائيل لذاتها، وفق فهمها هي، بأنها دولة يهودية؟ ألم ترد هذه الصفة في قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1947؟ وما الأسماء المقترحة، عقب صدور قرار التقسيم، للدولة التي بشّر بها زعيم الحركة الصهيونية ثيودور هرتسل؟ وماهي الأخطار الكامنة وراء الاعتراف والمتأتية عنه؟ ولعلّ السؤال الأهم، والأبسط في الوقت نفسه يتمثل في التالي: هل يحق لصاحب القرار الفلسطيني المخوّل، الاعتراف بيهودية الدولة، وفق تعريف أو مفهوم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لها؟
 
جذور فكرة الدولة اليهودية
 
يستدعي مفهوم، أو مصطلح، دولة يهودية وما ينطوي عليه من مضمون، وقفة قصيرة، مع محاولة عدم الابتعاد عن فكرة الدولة اليهودية، حول ثلاث شخصيات، تعكس ثلاث ظواهر أوروبية، كان لها الفضل في خلق فكرة الدولة اليهودية، ومن ثم تجسيدها على الأرض في المشرق العربي.
 
وهذه الشخصيات هي:
1.     جوزيه إيشتوسي.
2.     بنيامين ثيودور هرتسل.
3.     آرثر جيمس بلفور.
 
قبل التطرق إلى أدوار هذه الشخصيات في التبشير لفكرة الدولة، والجهود المبذولة لتجسيد ما بشرت به في شكل دولة قائمة، تجدر الإشارة هنا إلى أن أتباع الديانة اليهودية كانوا، خلال سياق تاريخي طويل، يعتبرون من وجهة نظر الآخرين ومن وجهة نظرهم هم أيضاً، بمثابة أبناء لطائفة دينية، تماماً كما يعتبر أبناء أتباع الديانات الأخرى. ولكن، مع ظهور عصر القوميات في أوروبا، عقب الثورة الصناعية في العصر الحديث، أخذ المناهضون لأتباع الديانة اليهودية (الأوساط اللاسامية) الذين لا يألون جهداً في ملاحقة اليهود وإلحاق الأذى بهم، بأشكال مختلفة، والذين تصدوا لاندماج أتباع هذه الديانة في النسيج الوطني والاجتماعي لبلدانهم، يعتبرون أتباع الديانة اليهودية بمثابة أمة وجنس وقومية، لا يمكن لهم التماثل والاندماج في مجتمعاتهم وأوطانهم. وقد لجأ هؤلاء إلى تبرير أعمال ملاحقة اليهود ومطاردتهم، وامعنوا التفكير في كيفية التخلص منهم، وقطعوا شوطاً لا بأس به في هذا المجال.
 
وكرد فعل على أفكار هذا الوسط الأوروبي، وما يترتب عليها من ملاحقات، لم يكن غريباً أن يظهر بين اليهود، وبخاصة بين الوسط اليهودي المندمج، بعد أن عانى من حائط الصد الذي شكلته الأوساط اللاسامية الأوروبية أمام الراغبين من اليهود في الاندماج في نسيج مجتمعاتهم، من يقول إن اليهودية فضلاً عن كونها معتقداً دينياً، هي أيضاً أمة وجنس وقومية. ومن بين من نادى بذلك ودعا إليه ثيودور هرتسل زعيم الحركة الصهيوينة. وقد نجحت حركته فيما بعد في إحداث انقلاب في الفهم تجاه اليهودية، إذ لم تعد كالسابق بمثابة دين واتباعها طائفة دينية، وإنما غدت وفق الفهم الجديد بمثابة دين وقومية في الوقت نفسه. لذا، اعتبرها البعض، لنجاحها في إحداث انقلاب في الفهم، بمثابة ثورة.
 
تعد الحركتان، الصهيوينة واللاسامية، من المنظور التاريخي، بمثابة ظاهرتين أوروبيتين، منسجمتين إلى حد كبير بالأهداف، وإن كانتا متناقضتين بالدوافع. فقد التقتا عند ضرورة إيجاد حل لمجموع التجمعات اليهودية في العالم، ولم تكتفيا بوضع حلول منفردة لهذا التجمع أو ذاك، واعتبرتا أتباع اليهودية أمّة وجنساً وقومية، وعملتا على عدم اندماجهم في النسيج الوطني لمجتمعاتهم. وتمخضت معاناتهما الفكرية عن خلق فكرة "الغرس"، أي جمع اليهود من مختلف الأصقاع في منطقة ما من العالم. وكان للمفكرين من الوسط اللاسامي الأوروبي الفضل في بلورة هذه الفكرة، فقد استبق أحدهم هرتسل نفسه، وقدّم اقتراحاً لحل المسألة اليهودية لا يختلف في شيء عن طرح مشاهير قادة الفكرة الصهيونية.
 
ففي العام 1878 عرض جوزيه إيشتوسي، وهو من مشاهير المعادين لليهود، مشروع قرار على البرلمان المجري، يدعو فيه إلى تأييد ودعم إقامة دولة يهودية في فلسطين. وعرض مشروع القرار نفسه في مؤتمر برلين المنعقد في تلك الفترة، بهدف دفعه إلى حيّز التنفيذ، وكسب جهات أوسع إلى جانبه.
 
لقد أفاض صاحب مشروع القرار جوزيه إيشتوسي في امتداح "الأمة اليهودية" وقدرتها على إقامة "دولة نموذجية"، تماماً كما فعل مواطنه النمساوي المجري ثيودور هرتسل (1860 – 1904).
 
نظر هرتسل إلى اللاسامية، كمعطى قائم لا يمكن تغييره، وتعامل معه دون إدانة أو شجب، على الرغم مما لحق به جرّاء هذا المعطى من معاناة: أثناء دراسته الجامعية، وخلال عمله الصحفي وتغطيته قضية "درايفوس" الشهيرة في فرنسا. فضلاً عن كون هذا المعطى هو العامل الأساسي، إن لم يكن الوحيد، لتحوّله من شخص علماني، ذي ثقافة ألمانية، مندمج في مجتمعه، ولا يولي اليهودية شأناً يذكر، إلى صهيوني. ففي العام 1896 فرغ هرتسل من تأليف ونشر كتيّب حمل عنوان: "دولة اليهود. محاولة لإيجاد حل عصري للمسألة اليهودية"، توصل فيه إلى الدعوة نفسها التي كان قد أطلقها، قبل نحو عقدين من الزمن، مواطنه المجري جوزيه إيشتوسي، دون أن يكون بينهما اتصال أو سابق معرفة. وليس من الغرابة في شيء أن يكون أول ترحيب يتلقاه هرتسل، بمناسبة صدور كتابه، جاء من جانب عضو البرلمان المجري إيفان سيمون، الذي اجتمع به، وعبّر له عن تقدير مجموعة إيشتوسي للحل الذي توصل إليه.
 
تتلخص الفكرة، التي توصل إليها هرتسل، في أن مناهضة اليهود، في مختلف المجتمعات وبخاصة الأوروبية هي معطى قائم بذاته. ومن الأفضل لليهود و"الأغيار" ولمصلحتهم، التخلص من ذلك عن طريق سلخ يهود العالم من نسيج مجتمعاتهم، عن طريق الهجرة، وجمعهم في منطقة خاصة بهم. واعتبر الفريق الصهيوني فلسطين وجوارها (أرض إسرائيل) منطقة التجمع المرجوّة. ويتناغم ذلك مع رؤية الفريق الآخر الذي يرحّب بأي بقعة يستوطن فيها اليهود، شريطة أن تكون خارج تخوم أوطانهم.
 
وقد أضفت الحركة الصهيونية، فيما بعد، على عملية جمع معظم يهود العالم في المنطقة، التي أطلقت عليها اسم "أرض إسرائيل"، طابعاً قومياً، واعتبرتها بمثابة تحرّر قومي، وصولاً إلى اعتبار ذاتها بمثابة حركة تحرّر قومي للشعب اليهودي.
 
تجدر الإشارة هنا إلى أن "التحرر القومي" في الحالة الصهيونية لا يعني من قريب أو بعيد، الانعتاق من واقع احتلال أو هيمنة استعمارية أو أجنبية، بل التحرر والانعتاق من "الشتات". فقد اعتبرت الحركة الصهيونية التجمعات اليهودية في مختلف البلدان "جاليات" تعيش خارج وطنها، لذا سعت وهدفت إلى إلغاء "الشتات" أو "المنفى". ومن هنا جاءت مقولة "نفي المنفى" عن طريق هجرة اليهود من أوطانهم إلى ما يسمى بأرض إسرائيل (فلسطين وجوارها)، ما يستدعى بالضرورة "نفي القائم" (وصل عدد سكان إسرائيل من اليهود نحو ستة ملايين، في حين وصل عدد الفلسطينيين الذين يعيشون في الشتات – المنفى نحو ستة ملايين).
 
في العام 1897 نجح هرتسل، مع مجموعة من أنصاره، في عقد مؤتمر في مدينة بازل في سويسرا، تردّدت بين جنباته الدعوة لإقامة دولة يهودية نموذجية، تشكل ملجأ آمناً لليهود. وتمخّض عن توصيات بإقامة هيئات ومؤسسات لاخراج الفكرة إلى حيّز التنفيذ في "أرض إسرائيل".
 
رأى هرتسل في واقع نجاحه بعقد المؤتمر، بمثابة تدشين مضمون الجملة الأخيرة التي اختتم بها كتابه قبل عام : "اليهود الذين يريدون ستكون لهم دولتهم".
 
بيد أن معظم اليهود، وقفوا في شكل أو بآخر ضد ما ذهب إليه، في حين وقف معظم غير اليهود، في أوروبا، وبخاصة الوسطين اللاسامي والاستعماري، مع الفكرة الجديدة.
 
ورغم انعقاد المؤتمر، وما تمخض عنه من قرارات وتوصيات، بقي مشروع إقامة الدولة اليهودية، متعذر التطبيق، لكون المنطقة التي يراد إقامة المشروع عليها، بعيدة عن متناول اليد. ولكن، من حسن حظ أصحاب الدعوة الجديدة التي رفع لواءها وسطان أوروبيان، أن تفجّرت في العالم الحرب العالمية الأولى 1914 – 1918، وتأتّى عن ذلك سقوط فلسطين وجوارها تحت هيمنة الاستعمارين البريطاني والفرنسي، ما شكل رافعة قوية لتجسيد الفكرة على الأرض.
 
هنا برز دور الشخصية الثالثة، التي انتشلت الفكرة التي كانت قد انطلقت على لسان إيشتوسي، ووجدت مستقراً لها في كتاب هرتسل "دولة اليهود"، حين أصدر جيمس بلفور وزير خارجية بريطانيا في الثاني من نوفمبر 1917، تصريحاً عرف باسم "وعد بلفور". وهو بمثابة مذكّرة قصيرة، بعث بها وزير الخارجية البريطاني إلى اللورد روتشيلد، جاء فيها أن حكومة بلاده تنظر بعين العطف لتأسيس "وطن قومي" لليهود في فلسطين. ووجد هذا الوعد سنداً داعماً له في صك الانتداب على فلسطين في العام 1922، الذي نص على أن دور الجهة المنتدبة، يتمثل في إخراج الوعد إلى حيّز التنفيذ، أي تحويل فلسطين إلى "وطن قومي" لليهود.
 
تحت كنف الظاهرة الاستعمارية البريطانية التي بسطت هيمنتها على فلسطين خلال ثلاثة عقود ونيّف (1917 – 1948)، وبحكم تماثل المصالح بين بريطانيا كأكبر دولة استعمارية في ذلك الحين والحركة الصهيونية، نما وتعزز التجمع اليهودي في فلسطين، كمجتمع مهاجرين ومستوطنين، ووصل من القوة درجة مكّنته من تحويل الفكرة إلى دولة في العام 1948. وكان من المتعذّر عليه الوصول إلى ذلك، لولا وقوع فلسطين تحت هيمنة الاستعمار البريطاني، لسبب بسيط يتمثل في رفض الشعب الفلسطيني للفكرة الصهيونية، لوعيه المبكر بخطورتها عليه، وقدرته على وضع حد لها وهي في مهدها. وقد وجد اليشوف اليهودي في بريطانيا القوة التي أعفته من مواجهة "المسألة العربية" في فلسطين، حيث قامت هي بهذه المهمة خير قيام.
 
شهدت الساحة الفلسطينية في تلك الفترة أربع موجات من الهجرة، تأتّى عنها ارتفاع حاد في عدد المستوطنين اليهود، إذ قفز من 55 ألفاً عند بداية الاحتلال البريطاني لفلسطين (أقل من عُشر السكان) إلى 550 ألف مستوطن، وتضاعف في الوقت نفسه عدد المستوطنات. فقد ارتفع من عشرات معدودة، إلى مئات المستوطنات المنتشرة في أماكن مختلفة، ولعل أخطرها ما عرف باستيطان "سور وبرج" في أواخر الثلاثينات. ورافق ذلك نمو وتطور القوة العسكرية اليهودية، وتبلورها في تنظيمات ثلاثة: هاغاناه، إتسل، ليحي، فضلاً عن "الفيلق اليهودي" العامل ضمن القوات البريطانية، وبلغ مجموع أفرادها مجتمعة نحو 60 ألفاً.
 
عند بداية الاحتلال البريطاني لفلسطين، الذي ما لبث أن أخذ شكل انتداب، كانت قيادة الحركة الصهيونية تعتبر مشروعها رديفاً للتواجد البريطاني الاستعماري، ومعتقدة أن دور الإدارة البريطانية الأساسي يقتصر، استناداً إلى وعد بلفور وصك الانتداب، على تحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود. لذا، لم يكن غريباً، في تلك الفترة المبكرة، أن يصدر عن أبرز قادتها، حاييم وايزمان، تصريح يعتبر فيه "فلسطين يهودية كما بريطانيا بريطانية"، ليطالب بإقامة دولة يهودية في فلسطين، على الرغم من ضآلة النسبة السكانية التي يشغلها اليهود وسط سكانها العرب. ولم يكن غريباً، كذلك، الاستياء العام الذي ساد أوساط الحركة الصهيونية، بمختلف تياراتها، جرّاء إقرار بريطانيا ترسيم الحدود في العام 1922 بين فلسطين وشرق الأردن، وإقامتها إمارة شرق الأردن. فقد اعتبرت تلك الأوساط هاتين الخطوتين بمثابة "خيانة" ترتكبها بريطانيا بحق "الوطن القومي" اليهودي الوارد في وعد بلفور وصك الانتداب، وذلك لما يترتب عليهما من فصل لـ" أرض إسرائيل الشرقية" (شرق الأردن) عن "أرض إسرائيل الغربية" (فلسطين)، اعتقاداً من تلك الأوساط أن "الوطن القومي" اليهودي يضم فلسطين والأردن معاً، علماً أن شرق الأردن، الذي تضاهي مساحته ثلاثة أضعاف مساحة فلسطين، كان خالياً تماماً من السكان اليهود. ولم يكن غريباً أيضاً أن يتحدث زئيف جابوتنسكي، الأب الروحي لحزب الليكود الذي يتزعمه بنيامين نتنياهو، في تلك الفترة عن أوجه الشبه والتماثل بين مجتمع المستوطنين البيض الذي ترعاه بريطانيا في روديسيا، وبين اليشوف اليهودي في فلسطين الذي أخذ ينمو ويتطور بسرعة كمجتمع مهاجرين ومستوطنين، تحت كنف الانتداب البريطاني.
 
خلال سنوات العشرينات والثلاثينات، وبخاصة خلال الفترة التي كانت تعلو فيها وتيرة النضال الوطني الفلسطيني ضد الاستعمار البريطاني في فلسطين، أخذ مطلب قيام دولة يهودية يخفت ويخبو على ألسنة قيادة اليشوف اليهودي، خشية من أن يؤدي التصريح العلني بمطلب الدولة، إلى تأجيج مشاعر الشعب الفلسطيني الذي يشكل أكثرية السكان. وشذّت عن ذلك العناصر الأكثر تطرفاً في الحركة التصحيحية المنضوية تحت لواء "عصبة الأشدّاء" (بريت هابريونيم) برئاسة آبا أحيمئير التي تأسست في العام 1931، وتصدّت عناصرها للإحصاء السكاني العام في فلسطين في العام نفسه، في حين بقيت قيادة الحركة الصهيونية، حريصة في شكل أو بآخر، على عدم التصريح علانية بإقامة الدولة، وعمدت إلى تغطية هذا المطلب بتعابير يكتنفها الغموض، كالمطالبة بتحقيق "الوطن القومي" أو الدعوة إلى "تأسيس فلسطين ككومنولث يهودي" التي أقرها مؤتمر صهيونيي الولايات المتحدة في "بلتيمور" في العام 1942، المعروفة بـ"خطة القدس".
 
تمخّضت الحرب العالمية الثانية عن حدوث متغيرات كبيرة في الساحة الدولية، كان لها نتائجها الخطيرة على عدد من البلدان، من بينها فلسطين. فمثلما تأتّى عن الحرب العالمية الأولى تقسيم أجزاء من الوطن العربي بين الدولتين الاستعماريتين، بريطانيا وفرنسا، وقيام الأولى بمنح فلسطين "كوطن قومي" لليهود، ودعمها للمشروع الصهيوني، بمختلف الوسائل، حتى غدا، في أواخر الثلاثينات، يمتلك مؤسسات مدنية وأمنية متطورة، أضفت عليه صفة "الدولة في الطريق" ( تعبير ساد الأدبيات الصهيونية خلال العقد السابق لقيام الدولة)، تأتّى عن الحرب العالمية الثانية تمهيد الطريق أمام "الدولة في الطريق" لتغدو دولة يهودية رسمية معترفاً بها دولياً.
 
مع انقشاع غيوم الحرب في الساحة الأوروبية، وما تأتّى عن ذلك من اتضاح لهول المجازر النازية التي لحقت بالتجمعات اليهودية، أخذ يسود الأجواء السياسية، وبخاصة الأوروبية والأميركية، مناخ ينطوي على تسهيل وتسريع مطلب إقامة الدولة اليهودية. وقد استغل قادة ما يعرف بـ "اليشوف المنظم" الأجواء الجديدة واستثمروها لصالح مشروعهم. ولا شك بأن بصمات الجرائم النازية بحق التجمعات اليهودية في أوروبا، تنافس بصمات بلفور في مجال خدمة الفكرة الصهيونية، والتسريع بتجسيدها على الأرض في شكل دولة. فقد استغلت الحركة الصهيونية هذه الأجواء المريحة لها، وبذلت نشاطاً سياسياً ملحوظاً داخل الأوساط الأوروبية والأميركية، فضلاً عن استثمارها قضية إنسانية تتمثل بوجود مئة ألف يهودي داخل معسكرات الاعتقال النازية التي ضمّت أيضاً نحو عشرة ملايين شخصاً مقتلعين من أوطانهم.
 
وما لبثت قضية الملايين العشر أن وجدت حلاً لها بإعادتهم إلى أوطانهم، ولم يبق داخل المعتقلات سوى المئة ألف يهودي، لإصرار الوكالة اليهودية على جلبهم إلى فلسطين على الرغم من كونهم مواطني دول أخرى. وقد تمكنت الوكالة اليهودية من جلب أعداد من هؤلاء، وتمكين عشرات الآلاف من دخول فلسطين بطريقة "غير شرعية"، ما يتعارض وسياسة الكتاب الأبيض الصادر في العام 1939، الذي نصّ أيضاً على التزام بريطانيا بدعم قيام دولة فلسطينية بعد مضي عشر سنوات.
 
ولكن بدل أن تقام الدولة الفلسطينية المستقلة، وفق ما جاء في الكتاب الأبيض لعام 1939، لتمثل مواطنيها عرباً ويهوداً، اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة في التاسع والعشرين من تشرين الثاني 1947 قراراً تم بموجبه تقسيم فلسطين، وحصل اليشوف اليهودي، الذي يشكل أقلية تقارب ثلث السكان على مساحة تزيد على النصف بقليل، في حين حصل العرب، الذين يشكلون أكثرية السكان على نسبة تقل عن النصف بقليل.
 
كان من الطبيعي أن يرفض العرب قرار التقسيم، ليس لكونه ظالماً وغير منصف فقط، وإنما لكونهم أيضاً يرفضون ويقاومون من حيث المبدأ تقسيم وطنهم، ويسعون لإبقاء فلسطين موحدة، يحظى فيها مواطنوها، بغض النظر عن أصولهم العرقية أو الدينية، بالحرية والمساواة.
 
جرّاء تعارض الموقفين، اندلعت اشتباكات ما لبثت أن تطوّرت إلى حرب بين الطرفين، كانت نتيجتها وبالاً على الشعب الفلسطيني، وقد اصطلح على تسميته بـ "النكبة"، ففي الخامس عشر من أيار العام 1948 تم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، وجرى تفريغها من معظم سكانها العرب. وما لبثت الدولة الوليدة أن توسعت عقب أن أقدمت على بسط سيطرتها على مناطق خارج تخوم المنطقة المخصّصة لها، حسب قرار التقسيم، وقامت بافراغها من معظم سكانها العرب، سواء عن طريق الطرد أو جرّاء حالات الهلع المصاحبة للحرب. وغدت عند إعلان الهدنة تهيمن على 78% من مساحة فلسطين، ولم يبق للشعب الفلسطيني من وطنه سوى 22%. وحتى هذه وجدت نفسها تحت إدارة بلدين عربيين، لتسقط في العام 1967 تحت الاحتلال الإسرائيلي. ولا زالت رهن المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي التي دخل في قاموسها الجديد مصطلح يهودية الدولة.
 
عند صدور قرار التقسيم عن الأمم المتحدة في العام 1947، الذي يدعو إلى قيام دولتين في فلسطين، عربية وأخرى يهودية، لم يكن قادة اليشوف اليهودي قد اعتمدوا اسماً للدولة التي يسعون لإقامتها، وكانوا كالآخرين يرددون الاسم المتداول على ألسنة الكثيرين داخل الإطار الصهيوني أو خارجه، والذي يحمل صفة أو كنية مشتقة من الهويتين السائدتين داخل اليشوف اليهودي: اليهودية والعبرية، ما يقتضي وقفة قصيرة حول مفهوم العبري قبل الحديث عن الاسم الذي اعتمده قادة اليشوف اليهودي عشية إعلان الدولة، ومضمونه.
 
مفهوم العبري
       
 رافق الفكرة الصهيونية وتجسيدها في شكل هجرة واستيطان، خلال الهجرة الثانية (1903-1914) بخاصّة، ظهور مصطلحات ومفردات تتعلق بهوية مجتمع المهاجرين والمستوطنين وتوجهاته، وهو في بداية التشكًل، مثل الدعوة إلى عبرنة العمل (العمل العبري)، وتداول الإنتاج العبري، فضلاً عن اعتبار عملية الحصول على الأرض بأية طريقة كانت بمثابة "إنقاذ الأرض".
 
خلال العقد الأخير السابق لإعلان قيام الدولة، ارتفعت أسهم الهوية العبرية، ففي تلك الفترة كثر استخدام تعابير ومصطلحات مستمدّة من الهوية العبرية مثل: الشبيبة العبرية، حركة العصيان العبري، الوطن العبري، القوات العبرية، الحكومة العبرية، الدولة العبرية، الجامعة العبرية.
 
من الواضح أن مفهوم العبري "الحديث" المنبثق من هذه التعابير يحمل بعداً إثنياً أو قومياً أكثر مما يحمل مفهوم اليهودي الذي اكتسب حديثاً البعد القومي، أو الإثني، إلى جانب البعد الديني.
 
وكما اكتسب مفهوم اليهودي بعداً جديداً يتلاءم والفكرة الصهيونية، اكتسب مفهوم العبري البعد نفسه، ما يتناقض مع أصول مفهوم العبري. فإذا تجاوزنا التفسيرين الواردين في التوراة لمفهوم العبري: (1) نسبة إلى "عابر" أحد أبناء سام .(2) نسبة إلى عابر النهر (نهر الفرات)، نجد أن مفهوم العبري في العصور القديمة، وحسب ما كشفته المصادر المصرية والكنعانية القديمة، لا يدل على الانتماء الإثني لشعب معين، وإنما يتعلق بالمكانة الاجتماعية لشخص أو قطاع من الناس، فهو بالأصل مفهوم ذو معنى طبقي، ينطوي على معنى لمكانة اجتماعية متدنية في السلّم الاجتماعي. والشعوب، أو القبائل، التي تحمل صفة أو كنية "العبري"، هي تلك المتنقلة من سكان البادية، أي القبائل البدوية. وقد لصقت هذه الصفة في العصور القديمة، بقبائل بني إسرائيل، مع أنها لا تقتصر عليها فقط.
 
في أعقاب استقرار القبائل الإسرائيلية في أجزاء من أرض كنعان، واكتساب أبنائها مدنية وحضارة من سكنوا بين ظهرانيهم، اخذ هؤلاء ينفرون من تلك الصفة (العبري – البدوي) لأنها تذكرهم بحياتهم الأولى، حياة البداوة والخشونة. بيد أن هذه الصفة غدت في العصر الحديث بعد اكتسابها بعداً قومياً، محبّذة لدى أبناء اليشوف اليهودي الذي تشكل كمجتمع مهاجرين ومستوطنين، وكان أحوج ما يكون إلى الرموز التي تمنحه أحاسيس ومشاعر مشتركة، تساعده في تحقيق المشروع الذي يسعى لتحقيقه، بغض النظر عن حقيقة تلك الرموز.
 
عقب قيام الدولة أخذ مفهوم العبري المنافس القوي لمفهوم اليهودي كهوية، يفقد مع مرور الوقت البعد القومي الذي أضفي عليه، ويكتسب محتوى لغوياً في أعقاب إحياء اللغة "العبرية". ومما يجدر ذكره هنا أن هذه اللغة ليست تلك التي لهجت بها قبائل بني إسرائيل عشية قدومها، إلى جانب قبائل أخرى من شمال غرب الجزيرة العربية، إلى أرض كنعان، فتلك اللغة انمحت واندرست، وإنما هي اللغة الكنعانية في شكلها القديم.
 
مع ضمور البعد القومي، الذي أُضفي على المفهوم العبري وبهوته، خلافاً لمفهوم اليهودي، لم يعد ما يستدعي اشتقاق تعابير منه كـ "عبرية الدولة" لمطالبة الطرف الفلسطيني الاعتراف بها، كشرط للتقدم في عملية السلام.
 
ولكن، ألا يكفي الاعتراف بالدولة، كاعتراف دول كثيرة بها، وفق الاسم الذي اختارته وارتضته لنفسها؟، علماً أن الدولة – المشروع هي وليدة الفكرة الصهيونية وتجسيد لها.
 
الاسم والمضمون
 
في الرابع عشر من أيار العام 1948، قبل يوم من انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، أعلن بن غوريون رئيس الوكالة اليهودية، قيام "دولة إسرائيل" وفقاً لقرار الأمم المتحدة (29/11/1947) القاضي بإقامة دولتين في فلسطين،عربية وأخرى يهودية.
 
قبل ذلك بيومين (12/5/1948)، وفي أثناء عقد الإدارة القومية (غدت بعد الإعلان حكومة مؤقتة) اجتماعاً في تل أبيب، لتدارس موضوع إعلان الدولة، ووضع اللمسات الأخيرة عليه، دارت نقاشات مطولة حول الاسم الذي ستحمله الدولة، وهي بمثابة الحلقة الأخيرة للنقاشات التي كانت تدور بين الحين والآخر، قبيل صدور قرار التقسيم، وفي أعقابه حول اسم الدولة، دون التوصل إلى نتيجة.
 
طرح على جدول أعمال الإدارة عدد من الأسماء، مستمدّة من مفاهيم ورموز توراتية، أهمها أربعة:
1.     دولة يهودا.
2.     دولة صهيون.
3.     دولة أرض إسرائيل.
4.     دولة عابر.
 
خضعت هذه الأسماء لنقاشات مطولة، واستبعدت الواحدة تلو الأخرى، لكونها تحدث خلطاً في المفاهيم، فضلاً عن إثارتها مشاكل تتعلق بالمواطنة والأيدولوجية. فقد استبعد مصطلح "دولة يهودا" لكون "يهودا" منطقة تقع خارج تخوم الدولة المقترحة وفق قرار التقسيم، فضلاً عن الخلط في المفاهيم بين الدين والمواطنة. فغير اليهودي يصبح في هذه الدولة مواطناً يهودياً. واستبعد أيضاً مصطلح "دولة صهيون" لكونه لا يميّز بين الفكرة الصهيونية وبين حامل الجنسية.
 
ولم يقبل مصطلح "دولة أرض إسرائيل" لطمسه الحدود بين المنطقة التي تشغلها الدولة وسائر أرض إسرائيل واسعة الإرجاء. أما مصطلح "دولة عابر" فقد استبعد لتداخله مع مصطلح العبري.
 
حسم رئيس الوكالة اليهودية، دافيد بن غوريون، الأمر عندما طرح أمام أعضاء الإدارة اقتراحاً بأن يكون اسم الدولة التي سيعلن عن قيامها، رسمياً "دولة إسرائيل" واختصاراً "إسرائيل". وقد حظي الاقتراح بأكثرية الأصوات.
 
يماثل الاسم، الذي تبنته القيادة الصهيونية، إلى حد كبير، الاسم الذي اختاره ثيودور هرتسل لكتابه "دولة اليهود"؛ ذلك أن إسرائيل، كمفردة، ليس فقط الاسم الثاني ليعقوب حفيد إبراهيم، وفق الرواية التوراتية، وإنما أيضاً كنية تطلق عادة على اليهود عامة.
 
كان من الطبيعي أن يحدث تماثل بين الدولة كفكرة "دولة اليهود" والدولة كتجسيد "دولة إسرائيل"، لكونهما يحملان معنى واحداً: دولة لليهود قصراً أينما كانوا وحيثما وجدوا، داخل إطارها أو خارجه.
 
بعد مضي نحو عامين على قيامها، أقدمت إسرائيل، بصفتها دولة اليهود حيثما وجدوا، ولتشكلها كمجتمع مهاجرين ومستوطنين، تبلور من خلال ست موجات من الهجرة، على إصدار قانون العودة (5/7/1950) بعد مصادقة الكنيست عليه، وينص على أن من حق اليهودي "العودة" إلى إسرائيل، واكتساب جنسيتها بمجرد وصوله إليها.
 
لا شك بأن هذا القانون، وكذلك قانون الجنسية للعام 1952 والتعديلات التي أحدثت عليه لاحقاً، هو بمثابة القانون الأساسي الذي يحدّد في شكل واضح طابع إسرائيل "كدولة الشعب اليهودي" مع إضفاء الشرعية عليه. وهذا يعني أنها دولة اليهود أينما كانوا، ومن ثم دولة مواطنيها شريطة أن تتماثل المواطنة مع الانتماء اليهودي. وإذا لم يكن الأمر كذلك، كما هي الحال بالنسبة لأكثر من خمس سكانها، فإن تعريف الدولة لذاتها، المستمد من الفكرة الصهيونية بأنها "دولة الشعب اليهودي" والذي اكتسب الشرعية عقب مصادقة الكنيست على قانون العودة، يُخرجُ هؤلاء، ومعظمهم من سكان البلاد الأصليين، من إطارها على الرغم من حملهم مواطنتها، ما عرّضهم لمختلف أنواع التمييز في مجالات مختلفة، فضلاً عن أعمال السطو على أراضيهم، التي أخذت شكل مصادرة "لأغراض أمنية" لتقام عليها مستوطنات لصالح "العائدين".
 
لذا، كان من الطبيعي أن تلحق بالصهيونية وتعلق بها وصمة العنصرية، كإدانة ليس من قبل المتأذّين منها فقط، وإنما أيضاً من قبل هيئات ومؤسسات إقليمية ودولية. بيد أن المستغرب والمستهجن في الوقت نفسه، مطالبة رئيس الحكومة الإسرائيلية الضحيّة بالذات، قبول ما يتأتّى عن الاعتراف بيهودية الدولة، كي يكون بالإمكان، وفق وجهة نظره، التقدّم بعملية السلام.علماً أن ما يطالب الاعتراف به هو بمثابة صفة لطبيعة أو طابع الدولة وصبغتها التي تتنازعها مفاهيم عدة، أهمها:
 
1.     دولة يهودية – دولة شريعة.
2.     دولة دينية قومية.
3.     دولة قومية يهودية ثقافية.
4.     دولة الشعب اليهودي.
5.     دولة يهودية.
6.     دولة يهودية وديمقراطية. (اعتمد رسمياً في القانون الأساسي عام 1992).
7.     دولة جميع مواطنيها.
 
يبقى طابع الدولة رهن صراع هذه المفاهيم، التي تتوزع أهواء الكتل والأحزاب في إسرائيل حول البعض منها، حيث يقوم كل منها بتبني مفهوم أو أكثر، بما يتلاءم وتوجهاته السياسية والاجتماعية لطرحه في برامجه السياسية. ومن الملاحظ أن خيارات الأحزاب الإسرائيلية الصهيونية، بمختلف توجهاتها، لطبيعة الدولة المرجوة، تبقى ضمن، ولا تتعدى، دائرة المفاهيم سالفة الذكر من 1-6، في حين يبقى المفهوم السابع، وهو دولة جميع مواطنيها خياراً وحيداً للأحزاب العربية، وبخاصة حزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي عمل كثيراً في مجال الترويج له. ويرى فيه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ويجاريه في ذلك الكثيرون من مختلف التيارات الصهيونية، مفهوماً مدمراً للأسس القائمة عليها إسرائيل كدولة يهودية.
 
البعد القومي وما يترتب عنه من حق
 
يتبدى، من خلال الإطلالة على تصريحات وخطب ومقابلات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في شكل واضح ما يرمي إليه من رفعه لافتة يهودية الدولة: إضفاء الطابع القومي ليس فقط على الدولة كتجسيد، وإنما على الدولة – المشروع كفكرة أيضاً، وما يترتب على ذلك من حق، وفق الفهم الصهيوني.
 
تساءل نتنياهو أمام الكنيست (11/10/2010) بنوع من التذاكي، إذا ما كانت القيادة الفلسطينية مستعدة لتقول لشعبها، إنها على استعداد للاعتراف بإسرائيل "كدولة قومية للشعب اليهودي" مثلما نحن على استعداد للاعتراف بالدولة الفلسطينية "كدولة قومية للشعب الفلسطيني". ودرج على تكرار مقولته هذه مرات عديدة وفي مناسبات مختلفة.
 
من الواضح أن تساؤله هذا ينطوي على مغالطة أساسية، بتصويره المطلب الفلسطيني كأنه يكمن في ضرورة اعتراف إسرائيل بالدولة الفلسطينية كدولة قومية، مع إدراكه بعدم وجود مطلب فلسطيني من هذا النوع. فالمطلب الفلسطيني واضح لا يكتنفه غموض: حق العودة الذي تكفله الشرعية الدولة، وإزالة الاحتلال الإسرائيلي، بشكليه العسكري والاستيطاني، من الأرض الفلسطينية المحتلة في العام 1967، بما في ذلك القدس الشرقية، لكي يكون بالإمكان إقامة "دولة فلسطين" على مساحة تشكل 22% فقط من مساحة فلسطين التاريخية، ومن ثم الاعتراف بها، دون أن تكون حاملة لأية صفة قومية أو غيرها. اعتراف كواقع، كمعطى قائم، كما هو متبع ومألوف لدى سائر الدول.
 
إن ما يسعى إليه بنيامين نتنياهو ويرمي إليه من المطالبة بإشهار يهودية الدولة، إضفاء الطابع القومي عليها، لتصبح "دولة قومية للشعب اليهودي" حيثما وجدوا، سواء داخل دولة إسرائيل أو خارجها، والاعتراف بما يترتب عن ذلك من حق، أو كما ذكر أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة خلال حديثه عن الرفض الفلسطيني للاعتراف بيهودية الدولة، وتعليله له، أن يهودية الدولة تعني كما ورد على لسانه "زخوت عام يسرائيل عال إيرتس يسرائيل" أي، "حق شعب إسرائيل على أرض إسرائيل"، وصولاً إلى القول إن الفلسطينيين "يرفضون الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، لكونهم يرفضون هذا الحق "زخوت" بالذات.
 
هنا نجد أنفسنا أمام السؤال، ما هي "أرض إسرائيل"؟ وما هي تخومها؟ هل سبق لقبائل بني إسرائيل أن سكنتها، أو هي مجرّد وعد إلهي لشخص أسطوري "أب" ليملأها نسله من بعده بالأبناء؟ هل كان من المألوف في تلك الأزمنة الغابرة، أن تقوم الآلهة (يهوه، كموش، ملكولم ...) بمنح أتباعها ومريديها أراضي ومناطق؟ (للتوسع حول هذا الموضوع انظر الفصل الأول في كتاب "الآباء من جزيرة العرب" للكاتب).
 
إن مفهوم "أرض إسرائيل"، الذي تبنته الحركة الصهيونية، وهو مفهوم توراتي، كان ولا يزال مدار جدل بين مختلف التيارات الصهيونية، لجهة حدود تخوم تلك الأرض، ما حال دون اتفاقها على تعيين حدود نهائية ثابتة للمشروع الذي تعمل على تحقيقه، وأبقى الحدود النهائية رهن صراع ثلاثة مفاهيم:
 
1.     الأول يكتفي بحدود الخريطة الفلسطينية، كما تبلورت عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، ويقف إلى جانبه، في شكل عام، التيار العمالي.
2.     الثاني يرى إن حدود "أرض إسرائيل" هي حدود الإثني عشر سبطاً (سبط تعني قبيلة. والمقصود أبناء يعقوب – إسرائيل الإثني عشر ابناً وفق الأسطورة التوراتية). أي أنه يضيف إلى فلسطين، مناطق من سوريا ولبنان وكامل شرق الأردن. (للنهر ضفّتان، هذه لنا، وتلك لنا. شعار رفعه رئيس التيار التصحيحي في الحركة الصهيونية، الأب الروحي لحزب الليكود الذي يقوده بنيامين نتنياهو).
3.     الثالث ينطلق في منظوره، من الحدود التوراتية، وينقسم إلى فريقين، فريق يرى أن الحدود التوراتية تمتد من نهر مصر (وادي العريش في سيناء) وحتى الفرات. وآخر يرى أنها تمتد من نهر مصر النيل وحتى الفرات. ويقف إلى جانب الفهمين الثاني والثالث، التيارات اليمينية والدينية.
هنا، نجد أنفسنا ثانية أمام تفسير بنيامين نتنياهو ليهودية الدولة كما ورد على لسانه: "حق إسرائيل على أرض إسرائيل"، وأمام مطالبته الطرف الفلسطيني الاعتراف بهذا الحق، أي حق إسرائيل في أراضي بلدين عربيين بالكامل، ومناطق من خمس دول عربية أخرى تقع ضمن تخوم "أرض إسرائيل"، كاشتراط للتقدم في عملية السلام.
 
بيد أن علامة استفهام كبيرة، تطرحها آفاق "أرض إسرائيل" واسعة الأرجاء، حول ما إذا كان صاحب القرار الفلسطيني، يملك حق الاعتراف بالحق الذي يريده صاحب القرار الإسرائيلي؟.
 
قبل الإجابة عن ذلك، سنقف حول مرامي وأهداف الجانب الإسرائيلي من وراء مطالبته الطرف الفلسطيني الاعتراف بطابع إسرائيل كدولة يهودية.
 
إذا استثنينا عامل الرغبة في المماطلة والتسويف في المفاوضات، وصولاً إلى عرقلتها أو نسفها، تهرباً مما قد تتمخّض عنه من استحقاقات يخشاها الطرف الإسرائيلي، نجد أن رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو، إلى جانب مسؤولين إسرائيليين آخرين، يرمي من وراء ذلك تحقيق أهداف أربعة، وهي الأخطار المتأتية عن الاعتراف بيهودية الدولة، اثنان منها مكشوفان، وتعرّضا لأضواء ساطعة من قبل أشخاص عديدين:
1.     التعرّض لحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة الذي كفلته الأمم المتحدة وفق القرار 194، والسعي للالتفاف حوله لإفراغه من مضمونه.
2.     مس مكانة المواطنين العرب في إسرائيل، سواء عن طريق الطرد، أو عبر التبادل السكاني، علماً أنهم مواطنون في دولة، تخرجهم هي من إطارها بتعريفها لذاتها كـ " دولة اليهود". هذا فضلاً عن شرعنة الواقع التمييزي الذي يتعرضون له منذ قيام هذه الدولة.
 
 
والآخران مستتران، لم يحظيا بأضواء ساطعة، وإن كانت بعض الأضواء الخافتة قد لامسته وهما:
1.     الاعتراف بالفكرة الصهيونية.
2.     الاعتراف بالرواية الصهيونية لموضوعة الصراع العربي الإسرائيلي.
 
تحمل بذرة فنائها
 
لا يمكن للطرف الفلسطيني، ومن المتعذّر عليه، تلبية ما يطالب به رئيس الحكومة الإسرائيلية، لكون "الحق" الذي يطالب به نتنياهو، يشمل الأراضي الفلسطينية جميعها، والأردن بكامله، فضلاً عن مناطق تابعة لخمس دول عربية أخرى؛ ذلك، حتى لو افترضنا أن الطرف الفلسطيني يتمتع باستقلال كامل ناجز، وأراد تلبية هذا الحق راضياً مرضياً، فإنه سيجد نفسه لا يملك حق منح حقٍ لفرض "الحق" على أراض لبلدان عربية أخرى.
 
والأمر ذاته ينطبق على سائر الدول العربية الأخرى، فيما إذا طالبها نتنياهو بالاعتراف بيهودية الدولة وفق تفسيره هو.
لذا، فإن دعوته تحمل في ثناياها بذور فنائها، ولا ينفعها أو يشفع لها، وقوف الولايات المتحدة إلى جانب ميكرونيزيا معها، خصوصاً وأن آفاق الوطن العربي أخذت تحمل تباشير ملامح ولادة عصر جديد، يحمل في طياته متغيرات عميقة وتبدلات جذرية، من شأنها حمل الجميع على إعادة النظر في أمور كثيرة، بما في ذلك، وبالأخص، الطروحات التي لا تتماشى مع مسار التاريخ. 

التعليقات