وعد بلفور: من مركز ثقافي إلى وطن قومي

إدوين مونتاغو: وعد بلفور وثيقة لاسامية تسيء لليهود والمسلمين.. * ماغنوس اقترح نصا لوعد بلفور: إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مركز ثقافي يهودي في فلسطين

وعد بلفور: من مركز ثقافي إلى وطن قومي

* ماغنوس: إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مركز ثقافي لليهود في فلسطين

* مونتاغو: وعد بلفور وثيقة لاسامية تسيء لليهود والمسلمين

* عندما تصبح فلسطين وطنا قوميا لليهود ستتحول إلى غيتو

* لا توجد أمة يهودية، وما يجمع اليهود في العالم هو الدين فقط


في ذكرى مرور 99 عاما على وعد بلفور المشؤوم، وعد من لا يملك لمن لا يستحق، الذي منح أرض فلسطين التاريخية لليهود لإقامة 'وطن قومي' لهم فيها، سلطت دراسة جديدة الأضواء على المراسلات التي جرت قبيل صدور الوعد بين الحكومة البريطانية وبين عدد من الزعماء اليهود.

ويتضح من المراسلات أنه كانت هناك معارضة لإقامة 'وطن قومي لليهود' في فلسطين، انطلاقا من أن اليهودية هي دين وليست قومية، وأن البيت الوطني لليهودي هو حيث يقيم، إضافة إلى تحذيرات من جر المنطقة إلى صراعات نتيجة إقامة كيان غريب عن المنطقة على حساب السكان الأصليين.

كما تشير المراسلات إلى تصميم الحكومة البريطانية على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وفي الوقت نفسه ضمان عدم حصول ردود فعل سلبية تجاه اليهود في العالم، بحيث شددت على أن إقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين لا تعني المس بحقوق اليهود في سائر دول العالم.

وبحسب الدراسة، فإنه لو كان الأمر منوطا بعضو البرلمان البريطاني، فيليب ماغنوس، لكان نص وعد بلفور كالتالي: 'إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مركز ثقافي يهودي في فلسطين'، بدلا من 'وطن قومي'.

ويتضح أن ماغنوس كان أحد الزعماء اليهود الذين طلب منهم البريطانيون إبداء رأيهم في مسودة التصريح/  الوعد قبل أسابيع من نشره في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1917. ولكن ماغنوس، وخلافا لبعض أصدقائه اليهود في بريطانيا، لم يكن صهيوينا متحمسا، في أقل تقدير، حيث كان يرى بيته الوطني في بريطانيا، وليس في فلسطين.

وكشف تقرير نشرته صحيفة 'هآرتس' عن بعض المراسلات المثيرة بين ماغنوس وبين الحكومة البريطانية بشأن مسودة وعد بلفور، والتي يحتفظ بها في 'المكتبة الوطنية' الإسرائيلية في القدس، وأعاد اكتشافها مجدد، هذا الأسبوع، د. حوزي عميئور.

وتبين أنه كان هناك شريك لماغنوس في مواقفه المعادية للصهيونية، وهو سياسي بريطاني يهودي يدعى إدوين  صموئيل مونتاغو، وهو ابن عم هربرت صموئيل، وهو المندوب السامي البريطاني الأول في فلسطين. وكان قد أرسل مونتاغو، الذي عين عام 1917 وزيرا للخارجية للهند، قد أرسل في الثالث والعشرين من آب/ أغسطس من العام نفسه مذكرة للحكومة البريطانية، حاول أن يمنع فيها نشر وعد بلفور، بادعاء أن الحديث عن 'وثيقة لاسامية، تسيء سواء لليهود أم للمسلمين'.

وكتب أيضا 'أخشى أن يكون اعتراضي متأخرا أكثر من اللازم.. ولكني أعتقد، كوزير يهودي في الحكومة، أنه من حقي أن يتاح لي للتعبير عن مواقف متميزة'. وشرح لاحقا في رسالته مخاطر منح اليهود وطنا قوميا في فلسطين، وأولها الخشية من قيام دول العالم بطرد اليهود الذين يعيشون في أراضيها وسحب حقوقهم بذريعة وجود وطن لهم. وكتب: 'عندما يصبح لليهود وطن قومي... ستتحول فلسطين إلى غيتو العالم'. وتساءل: 'لماذا سيمنح الروس المساواة لليهود؟ فوطنهم القومي هو فلسطين'.

وشدد مونتاعو على أنه بالنسبة له 'لا يوجد أمة يهودية'. وشرح ذلك بقوله 'إن عائلتي، على سبيل المثال، التي تعيش في بريطانيا منذ أجيال، ليس لها أية علاقات مع أي عائلة يهودية في أي بلد آخر، باستثناء حقيقة أنهم ينتمون، إلى حد ما، إلى نفس الدين'. ولتوضيح ما يقصده، كتب أن اليهود الذين يعيشون في موقعين مختلفين يكونون مثل 'مسيحي إنجليزي' و'مسيحي فرنسي'، فهما يعتنقان نفس الدين، ولكن ليس لهما نفس القومية.

وحذر مونتاغو أيضا من المصير الذي سيواجهه العرب الذين يعيشون في فلسطين مع تحويل فلسطين إلى وطني قومي لليهود. وكتب 'أفترض أن مغزى القرار هو أن يخلي المسلمون والمسيحيون مكانهم لصالح اليهود الذين سيحصلون على تفضيل، ويتمتعون بعلاقة خاصة بفلسطين بنفس الشكل الذي ترتبط فيه إنجلترا بالإنجليز وفرنسا بالفرنسيين، وسيتحول المسلمون في فلسطين إلى أجانب، بالضبط مثلما سيتحول اليهود إلى أجانب في كل دول العام باستثناء فلسطين'.

وبحسب ما توصل إليه د. عميئور، فإن المراسلات كانت جزءا من منظومة كاملة من تبادل الآراء والأفكار التي كانت تجري في تلك الفترة بين البريطانيين وبين اليهود، بعضهم يتبنى الصهيونية وبعضهم لا، وذلك حول بلورة النص النهائي لوعد بلفور.

ويقول إن هناك من يعتقد أن هذا التوثيق ليس ذا صلة، وأنه قد عفا عليه الزمن، في حين يرى آخرون أن إعادة مناقشة وعد بلفور قد أعاد الاهتمام البحثي لهذه المراسلات بعد 99 عاما، خاصة في ظل التهديدات الفلسطينية بتقديم دعوى ضد بريطانيا بسبب الوعد.

ويشير د.عميئور إلى أنه تم استبدال مسودات وصياغات مختلفة في صيف العام 1917، كما ناقشت 'الهستدروت الصهيونية' بشكل محموم عملية صقل أفضل صيغة للوعد الذي سعوا للحصول عليه من البريطانيين. وبعد كتابة صياغات مختلفة، وتبادل آراء مختلفة، وفي النهاية، وفي الثالث عشر من تموز/ يوليو، تم التوقيع على مسودة تتمحور على 'إقامة فلسطين كاملة (an integral Palestine) كدولة يهودية، وكوطن قومي للشعب اليهودي'.

وشدد  الزعماء الصهاينة في هذه المسودة على أن 'المواطنين في الدولة اليهودية لن يكونوا يهودا فقط، وإنما يكون طابعها الوطني السائد (it’s dominant national character)، مع تحقق آمال المؤسسين، يهوديا، مثلما أن الطابع الوطني السائد في إنجلترا هو إنجليزيا، وفي كندا كنديا، وفي أستراليا أستراليًا'. ولم يرد البريطانيون بالإيجاب على طلب الزعماء الصهاينة، وفي تشرين أول/ أكتوبر 1917، لم يكن في صياغة المسودة التي أرسلت إلى عدد من الزعماء اليهود، بينهم ماغنوس، أي ذكر لمحاولة تهويد فلسطين كلها.

ويشير د. عميئور إلى أنه كل كلمة كانت مهمة، وكل فارق بسيط له تأثير، وكل فاصلة أدت مع مرور الأيام إلى خلافات لم تنته حتى اليوم. ويشير في هذا السياق إلى أن النص 'حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين'، وليس 'دولة قومية'، مثلما طلب الزعماء الصهاينة. وبحسبه فإن اختيار مصطلح 'وطن/ بيت قومي' ليس بالصدفة، فـ'البيت القومي' ليس له قضائيا أي معنى واضح وملزم، وإنما كان الهدف هو خلق حالة من الضبابية حول مصير البلاد.

ويشير إلى أن التعبير 'عرق يهودي' الذي ظهر في المسودة مثير للاهتمام، رغم أنه أهمل لاحقا لصالح 'شعب يهودي' في النص النهائي لوعد بلفور. وبحسب البروفيسور شلومو أفنيري فقد كان من المتبع استخدام كلمة 'عرق' في القرن التاسع عشر بدلالة مماثلة لكلمة 'شعب'، وبدون الشحنة السلبية المعروفة للكلمة اليوم.

إلى ذلك، يتضح أن ماغنوس لم ترق له المسودة التي أرسلها البريطانيون إليه، لأنه كان يعتقد أن لا يوجد لليهود طموحات وطنية مشتركة. ويضيف أنه منذ الاحتلال الروماني لفلسطين توقف اليهود عن كونهم 'جسما سياسيا'. وبنظره، فإن المشترك بين اليهود في البلاد المختلفة هو الدين فقط، مؤكدا أنه 'لا يوافق على مقولة أن اليهود ينظرون إلى أنفسهم كأمة، فذلك ليس مرغوبا وليس دقيقا'.

واقترح ماغنوس الصيغة التالية كبديل: 'إقامة مركز ثقافي يهودي في فلسطين'. وفي هذا السياق يقتبس عميئور ما تسمى 'الصهيونية الروحانية' التي وضعها 'أحاد هعام'، الذي ادعى أن 'أرض إسرائيل ليست لحل المسألة الوجودية لليهود كأفراد، وإنما المشكلة الروحانية والثقافية للشعب اليهودي'.

ولم يكتف ماغنوس بذلك، وإنما حذر البريطانيين من أن الإعلان عن استعدادهم لإقامة 'بيت/ وطن قومي لليهود فقط في فلسطين' سيفسر على أنه دعم لنقل السلطة على البلاد ليد اليهود. وحذر ماغنوس من أن هذا السيناريو سيؤدي إلى اندلاع العنف في المنطقة.

ولكي يعزز ادعاءه بأن اليهود لا يستحقون 'بيتا/ وطنا قوميا'، بحسب عميئور، حاول ماغنوس التقليل من قيمة الحركة الصهيونية، ووصفها بأنها هيئة جديدة نسبيا قد أقيمت لأن يهود روسيا لم يتمتعوا بحقوق متساوية، ولم يسمح لهم بممارسة تقاليدهم الدينية. وكتب ماغنوس أن 'يهود إسبانيا والبرتغال، وفي أوج ازدهارهم، لم يحاولوا استغلال نفوذهم كي يضمنوا لأنفسهم وطنا قوميا في فلسطين. ولم يفعلوا ذلك حتى بعد طردهم من بلادهم'.

ودعا ماغنوس في رسالته الحكومة البريطانية إلى التشاور مع السكان الموجودين في فلسطين (الفلسطينيون سكان البلاد الأصليون – عــ48ـرب) بشأن السلطة التي يفضلون العيش في ظلها، وذلك بهدف الحفاظ على التوازن العادل بين الطوائق المسيحية واليهودية والإسلامية.

ويقول عميئور إنه بالرغم أن ماغنوس لم يقنع البريطانيين بتبني مصطلح 'مركز ثقافي يهودي'، إلا أنه يستطيع أن ينسب لنفسه تمكنه من التأثير على النص النهائي لوعد بلفور، والذي اشتمل على توضيح موسع، بموجبه فإن إقامة 'وطن قومي لليهود' في فلسطين لا تعني المس بالحقوق المدنية لليهود في دول أخرى، وبذلك تكون الحكومة البريطانية قد استجابت لطلب اليهود المعارضين للصهيونية، وبضمنهم ماغنوس.

وفي نهاية المطاف، وفي الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1917، وبعد شهور من الاتصالات بين الحكومة البريطانية، وبين البعثة الصهيونية برئاسة حاييم وايزمن، منح اللورد أرثور جيمس بلفور، وزير خارجية بريطانيا، اللورد روتشيلد الوعد السياسي المشهور 'حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي لليهود في أرض إسرائيل'.

تجدر الإشارة إلى أن وعد بلفور، الذي تعتبره إسرائيل الوثيقة المؤسسة التي مهدت الطريق لإقامتها، غير محفوظ في البلاد. وفي العام 1924 سئل روتشيلد عما إذا كان يحتفظ بالرسالة الأصلية لوعد بلفور، أجاب أنه بسبب الأهمية التاريخية للرسالة، فقد رأى من الصواب أن يودعها في مكان يحفظها جيدا، في المتحف البريطاني.

اقرأ/ي أيضًا | في مثل هذا اليوم: وعد بلفور المشؤوم وطرد مصر من جامعة الدول

التعليقات