التوراة والمكتشفات الأثرية: صدام الروايات التاريخية

ما مدى صحة الرواية التوراتية لتاريخ البلاد، وهل تنسجم مع التاريخ والمخطوطات التي دوّنها موظفو فرعون؟ ما هي حقيقة الخروج من مصر والتيه في سيناء واحتلال أريحا على جيش جرار بقيادة يهوشع بن نون، وأين "الهيكل"؟ وماذا وجد علماء الآثار؟

التوراة والمكتشفات الأثرية: صدام الروايات التاريخية

نفخوا بالأبواق فانهارت أسوار أريحا

يكتسب علم الآثار أهمية بالغة في دراسة التاريخ القديم. وتزداد أهمية هذا العلم عندما تصطدم الأساطير، التي تضخم وتمجد روايات وشخصيات ومباني، بواقع الموجودات الأثرية في أعقاب حفريات مكثفة. وتواجه الشعوب صعوبة في استيعاب 'التاريخ الجديد' الذي يرويه علماء الآثار، كونه يناقض الأساطير التي عاشت قرونا تتغذى من أساطير تاريخية. ويصبح الأمر أصعب بكثير عندما تتعلق الأساطير بديانات أو بـ'مجتمعات متخيلة'، فما بالك عندما تصطدم حقائق علم الآثار بديانات و'مجتمعات متخيلة' تم بناء 'أمّة' على أساطيرها.  

ورغم أن الصهيونية هي حركة علمانية، إلا أنها بنت نفسها بالاستناد إلى التوراة. واعتاد أحد كبار قادة الحركة الصهيونية ومؤسس دولة إسرائيل، دافيد بن غوريون، على التأكيد باستمرار أن التوراة هي 'الكوشان الذي يثبت ملكيتنا للبلاد'، أي لفلسطين.

لكن علم الآثار، إلى جانب الباحثين النقديين للتوراة، توصلوا إلى بناء تاريخ آخر للبلاد غير التاريخ الذي ترويه التوراة، والأهم من ذلك، أن تدوين التوراة جرى بعد قرون عديدة من الأحداث التي تصفها، وأنه كانت لدى كتبة التوراة مصلحة في تضخيم الأحداث والواقع وتمجيد شخصيات وبناء سلالات، مثل سلالة داود وسليمان، بعد مرور قرون عديدة لخدمة أهداف آنية.

إلا أن هذه ليست مسألة سهلة وبسيطة، ورغم أن الحديث يدور عن أبحاث ودراسات أكاديمية، إلا أن صراعا مريرا يدور حولها. ويشار بداية إلى أن علماء الآثار الأوائل الذين توصلوا إلى استنتاجات تتناقض مع الرواية التوراتية هم علما أوروبيون وأميركيون، أجروا حفريات في فلسطين، في بداية القرن الماضي، ثم لحق بهم علماء آثار إسرائيليين في مرحلة متأخرة. والصراع المرير حول الرواية التوراتية ونقدها يدور في إسرائيل، وكذلك في العالم الغربي. وبطبيعة الحال فإن هذا الصراع شديد في إسرائيل بين مدرستين: المدرسة التي تقرأ التوراة وتجري حفريات من أجل إثبات صحة أساطيرها؛ والمدرسة التي تجري حفريات، وبعدها تعود إلى التوراة لتنقض أساطيرها.

في هذا السياق، كتب عالما الآثار، الإسرائيلي البروفيسور يسرائيل فينكلشطاين، والأميركي البروفيسور نيل آشر سيلبرمان، في مقدمة كتابهما 'بداية إسرائيل – علم الآثار، التوراة والذاكرة التاريخية'، أن 'الغالبية العظمى من الباحثين درس التاريخ الإسرائيلي القديم بصورة متواصلة، من المبكر إلى المتأخر، ومثلما يصفه النص التوراتي... وتوجهنا نختلف على الإطلاق.لا نحاول أبدا إعادة كتابة تاريخ متواصل. ونحن نحدد بداية فترة كتابة النص، وعندها ندرس الظروف التاريخية، الاجتماعية والثقافية لفترة كتابة النص... وبدلا من دراسة التاريخ من المبكر إلى المتأخر، ننظر إليه بطريقة معاكسة، من المتأخر إلى المبكر؛ ونتابع تاريخ إسرائيل من نقطة البداية للكتابة (كتابة النص التوراتي) إلى الماضي الذي يصفه النص'.

آثار صادمة: أسطورة الخروج من مصر والتيه في سيناء

بعد نشر علماء آثار  لأبحاثهم واكتشافاتهم لآثار الأقدمين التي وجدوها في الحفريات، التي أجريت في البلاد وشبه جزيرة سيناء، كانت صادمة. لم تكن صادمة لليهود فقط، وإنما للمسيحيين أيضا، ولو اطلع عليها المسلمون لصدموا هم أيضا. إذ أن الديانات السماوية التي تلت اليهودية، المسيحية والإسلام، تبنت أجزاء من الرواية التوراتية.  

في العام 1999، نشر عالم الآثار من جامعة تل أبيب، البروفيسور زئيف هرتسوغ، مقالا في صحيفة 'هآرتس'، كتب فيه أن 'ثورة حقيقية حاصلة في العشرين عاما الأخيرة بتعامل باحثين إسرائيليين مع التوراة كمرجع تاريخي. وغالبية المنشغلين بدراسات علمية في مجال التوراة، علماء الآثار ومؤرخي شعب إسرائيل، الذين بحثوا حتى الآن عن إثباتات حول صحة قصص التوراة، متفقون الآن أن مراحل تشكل شعب إسرائيل كانت مختلفة كلبا عن الأوصاف الواردة فيها'.

وأردف أنه 'يصعب القبول بذلك، لكن بات واضحا للباحثين اليوم أن شعب إسرائيل لم يمكث في مصر، ولم يتنقل في الصحراء (تيه سيناء)، ولم يحتل البلاد بحملة عسكرية ولم يورثها إلى أسباط إسرائيل الإثني عشر. ويصعب أكثر هضم الحقيقة المتضحة، أن مملكة داود وسليمان المتحدة، التي تصفها التوراة كدولة عظمى إقليمية، كانت في أفضل الأحوال مملكة قبلية صغيرة. إضافة إلى ذلك، سينزعج كل من يضطر إلى العيش مع فكرة أنه كانت ليهوى، إله إسرائيل، زوجة، وأن الديانة الإسرائيلية القديمة تبنت التوحيد فقط في نهاية الفترة الملكية وليس في جبل سيناء' على أيدي موسى.   

وبخصوص الإله 'يهوى'، فإن الكاتب والصحافي الإسرائيلي بوعاز عيفرون، في كتابه 'الحساب القومي'، أشار إلى دراسات وضعها باحثون يهود إسرائيليون وغير إسرائيليين وباحثون غربيون، يؤكدون فيها على أن 'بني إسرائيل' تبنوا 'يهوى' إله الحرب الوثني، إلى جانب عبادة عدد من الآله، وأن 'يهوى' تحول إلى مرادف للرب في فترة متأخرة، ويتجلى هذا بشكل واضح في التوراة.

كما ذُكر آنفا، تنفي الحفريات الأثرية قصة الخروج من مصر بقيادة موسى. فهذه القصة، التي يفترض أنها حدثت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ليست موجودة أبدا في المخطوطات القديمة، وفي مقدمتها مخطوطات تل العمارنة المصرية، كما يؤكد فينكلشطاين وسيلبرمان. ولو أن حركة كالتي تصفها التوراة، تجمع حشد كبير وخروجه من مصر وعبوره البحر الأحمر إلى سيناء، حدثت لما تجاهلتها المخطوطات التي دُوّنت آنذاك.

ووفقا للباحثين، فإنه 'كانت الحدود بين كنعان ومصر هاضعة لمراقبة شديدة. ولو أن حشدا كبيرا من بني إسرائيل عبر في الاستحكامات الجدودية للنظام الفرعوني، لتم ذكر هذا الأمر في المخطوطات. لكن في وفرة المراجع المصرية التي تصف فترة المملكة الجديدة في بابل، وخاصة القرن الثالث عشر قبل الميلاد، لا يوجد ذكر لبني إسرائيل، ولا حتى بالتلميح'.

وأضاف أنه 'ليس لدينا عن بني إسرائيل القدماء داخل مصر أي رمز، ولا أي كلمة، لا في المخطوطات ولا على جدران المعابد ولا بالكتابات على القبور ولا على ورق البردى. (مصطلح) إسرائيل غائب، كعدو محتمل لمصر، كصديق أو كشعب مستعبد. ولا يوجد في مصر أية موجودات بالإمكان ربطها مع مجموعة إتنية أجنبية ومختلفة سكنت في الدلتا الشرقية في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، كالتي تظهر في القصة التوراتية حول بني إسرائيل الذين عاشوا في أرض الكنانة'.   

كذلك يؤكد الباحثان أن قصة تيه بني إسرائيل في سيناء لا يمكن أن تكون حقيقية. وبحسب القصة التوراتية، فإن بني إسرائيل مكثوا في مكان واحد في سيناء مدة 38 عاما من أصل فترة التيه كلها وهي أربعين عاما. لكن الحفريات الأثرية لم تجد أي أثر أو دليل على أن بني إسرائيل أقاموا في هذا المكان، أو في أي مكان آخر في شبه الجزيرة.

أسطورة احتلال أريحا؛ أين 'الهيكل'؟

تصف التوراة جيشا جرارا بقيادة قائد عظيم اسمه يهوشع بن نون، قادما من الصحراء، بعد التيه، لاحتلال أرض كنعان، 'الأرض الموعودة'. لكن التاريخ المدوّن وكذلك الحفريات الأثرية تؤكد أن لا شيء من هذا حدث.

ووفقا لفينكلشطاين وسيلبرمان، فإن الأدلة على احتلال تاريخي لكنعان على أيدي بني إسرائيل معدومة. 'ومثلما حدث في قصة الخروج من مصر، كشفت علم الآثار هنا أيضا عن فجوة دراماتيكية بين القصة التوراتية والوضع في كنعان بين العامين 1230 و1220 قبل الميلاد، وهو التاريخ المتوسط للاحتلال... والأدلة على المشهد السياسي والعسكري لكنعان يشير إلى أن احتلالا خاطفا على أيدي مجموعة جاءت من الخارج هو أمر لا يقبله العقل أبدا'.

وخلافا لوصف التوراة بأن مدينة أريحا، مثلا، كانت محصنة ومحاطة بسور وأن هذا السور انهار بعدما نفخ بن نون وجنوده بالأبواق، فإن الحقيقة التاريخية العلمية تنفي هذه القصة جملة وتفصيلا. 'لم تكن المدن الكنعانية الهائلة المذكورة في قصة الاحتلال محصنة بأسوار؛ وبما أن حراسة المقاطعة كلها ملقاة على المصريين، فإنه لم تكن هناك حاجة إلى أسوار دفاعية كبيرة، وربما أيضا أن الجهاز الإداري المصري منع إقامة حصون كهذه'.

ليس هذا وحسب، بل أنه 'كان هناك سبب اقتصادي لعدم وجود الأسوار. بما أن أمراء كنعان اضطروا إلى دفع ضرائب كبيرة لفرعون، فإنه لم تكن بحوزتهم الإمكانيات لتنفيذ مشاريع عامة هائلة. وعمليا، لم تكن كنعان في الفترة البرونزية المتأخرة سوى ظل شاحب للمجتمع المزدهر الذي عاش قبل ذلك بمئات السنين، في الفترة البرونزية الوسطى. فقد هُجِرت مدن كثيرة، وتقلص حجم أخرى، وإجمالي عدد السكان في البلاد كلها لم يزد عن مائة ألف نسمة. ودليل رمزي على ضعف هذا المجتمع يمكن رؤيته بطلب أرسله ملك القدس إلى فرعون في إحدى رسائل (مخطوطات تل) العمارنة، بتزويده بخمسين رجلا من أجل الدفاع عن بلاده. وفي رسالة أخرى، طلب ملك مجيدو من فرعون أن يرسل مئة جندي ليدافعوا عن مدينته من جاره العدواني، ملك نابلس'.

وكتب الباحثان حول أسطورة احتلال أريحا أنه 'ليس معقولا أبدا الاعتقاد أن القوات المصرية وقفت جانبا وسمحت لمجموعة لاجئين جاءت من الصحراء أن تدمر أملاك فرعون في كنعان. وليس معقولا أن دمار مدن محافظات مخلصة للغاية على أيدي غزاة كهؤلاء لا يبقى منه أي أثر في التوثيق الموسع للإمبراطورية المصرية'.

أما بالنسبة للقدس، 'مدينة داود'، التي كانت عاصمة الملك داود في القرن العاشر قبل الميلاد، إن كان داود شخصية حقيقية، فإن عالم الآثار من جامعة تل أبيب، دافيد أوسيشكين، أكد أن 'الحفريات في مدينة داود وأجزاء أخرى من القدس التوراتية لم تسفر عن العثور على أدلة حقيقية على وجود أثر لبلدة في القرن العاشر، وليس فقط أنه لم يتم العثور على آثار بناء هائل، وإنما الأدوات الفخارية التي تم اكتشافها كانت بكميات صغيرة نسبيا'. وكتب فينكلشطاين وسيلبرمان أن 'حجم القدس في القرن العاشر كان متواضعا جدا، وقد لا تكون أكثر من مجرد قرية جبلية عادية'.

وفيما يتعلق بـ'هيكل سليمان'، أشار الباحثان إلى أنه كان من الصعب في القرون الماضية إجراء حفريات أثرية في موقع الهيكل المزعوم، بسبب بناء الحرم القدسي، حيث يتواجد المسجد الأقصى وقبة الصخرة. إلا أن سلطة الآثار الإسرائيلية وعلماء آثار أجروا حفريات في المكان وبالقرب منه، لكن فينكلشطاين وسيلبرمان يؤكدان أنه إلى جانب العدد القليل جدا للسكان في القرن العاشر وحتى الثامن قبل الميلاد، فإنه 'لم يتم العثور على أي دليل أثري' على وجود الهيكل.

للحديث تتمة..    

التعليقات