جريمة أزاريا: من أصدر أمر إعدام الشريف؟

يدل تقرير بثته القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي على أن الجيش الإسرائيلي أحدث فراغا في موقع استشهاد الشريف والقصراوي، وأن جهات أخرى دخلت لتعبئة هذا الفراغ وسيطرت على المكان، بعدما أخذت لنفسها صلاحيات ضباط الجيش

جريمة أزاريا: من أصدر أمر إعدام الشريف؟

موقع الجريمة في مدينة الخليل المحتلة

كثيرا ما يُطرح السؤال حول الجهة التي تصنع القرار الإسرائيلي، ليس بما يتعلق بإسرائيل فقط وإنما في الضفة الغربية المحتلة أيضا. ويتبين أن الصهيونية الدينية، أي تيار المستوطنين، يسهم بشكل كبير في قرارات الحكومة، ليس بسبب مشاركة كتلة 'البيت اليهودي' برئاسة نفتالي بينيت في الائتلاف، وإنما بسبب وجود عناصر كثيرة من الصهيونية الدينية في حزب الليكود الحاكم بزعامة رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو.

لكن المشكلة ليست قرارات الحكومة فقط، في حال الحديث عن الضفة الغربية المحتلة، حيث يمسك الجيش الإسرائيلي بزمام 'السيادة' بحسب القانون. وبات تأثير الصهيونية الدينية بالغا في الجيش، بكافة مستوياته، وخصوصا في الوحدات التي تنشط في الضفة. وليس هذا وحسب، وإنما منح الجيش، بمصادقة الحكومة، الحاخامية العسكرية، التي يتولها حاخام من الصهيونية الدينية دائما، صلاحية تمرير دورات للجنود والضباط حول الهوية القومية اليهودية. وتستدعي الحاخامية العسكرية، وكذلك سلاح التربية والتعليم، جمعيات وحركات يهودية يمينية متطرفة لتمرير هذه الدروس والدورات، لتنفذ ما يمكن وصفه بأنه غسيل دماغ وهيمنة فكرية على الجيش.

وتنظر الغالبية العظمى من الإسرائيليين إلى المشروع الاستيطاني على أنه شرعي، وإلى المستوطنين على أنهم مجموعة طليعية. ولذلك فإن تغلغلهم في مراكز صناعة القرار السياسي والأمني والعسكري، وتأثيرهم في هذه المجالات، هو الخط الرسمي – المركزي في إسرائيل حاليا. ويدل على ذلك، على سبيل المثال، الدعوات إلى قتل أي فلسطيني يحاول تنفيذ عملية طعن أو دهس، أو من يشتبه أنه ينوي تنفيذ عملية كهذه، حتى لو كان طفلا صغيرا أو بالإمكان منع عملية من دون إطلاق نار. وقد أطلق المستوطنون وقادتهم هذه الدعوات أولا ثم كررها باقي المسؤولين. كما أن دعوة رئيس أركان الجيش، غادي آيزنكوت، إلى عدم إفراغ ذخيرة بندقية أوتوماتيكية بجسد فتاة في الرابعة عشرة من عمرها وتحمل مقصا، لم تلق آذانا صاغية في صفوف قوات الأمن الإسرائيلية.

متضامنون مع أزاريا خارج المحكمة العسكرية بيافا (أ.ف.ب.)

وهذه القوات، من شدة العنصرية والكراهية في أعقاب عملية غسيل الدماغ، لم تكتفِ في حالات كثيرة بإصابة منفذ عملية، وإنما تعمد أفراد فيها إعدام فلسطينيين جرحى، إما بمنع وصول مسعفين إليه ونقله إلى المستشفى أو بإطلاق رصاصة قاتلة، مثلما حدث في حالة الجندي القاتل، إليئور أزاريا، الذي أعدم الشاب عبد الفتاح الشريف في تل الرميدة في الخليل، بعد إطلاق الجنود النار عليه بينما كان ممددا على الأرض ومصابا بجراح حرجة، وذلك بادعاء أنه نفذ عملية طعن جندي سوية مع صديقه رمزي القصراوي، الذي استشهد على الفور.

فوضى

ما ذُكر أعلاه تجلى بالكامل في قضية الجندي القاتل والبيئة المحيطة به في الخليل، وخاصة في الدقائق التي سبقت وتلت عملية إعدام الشريف. ويؤكد ذلك تقرير بثته القناة الثانية للتلفزيون، التي تعقبت، بواسطة أشرطة فيديو، سلوكيات الجندي القاتل والمستوطنين وضباط وجنود الجيش الإسرائيلي.

يظهر من هذا التقرير أولا أن الجنود يصفون الشهيدين، في اتصالاتهم اللاسلكية مع الضباط المسؤولين عنهم، بـ'الوسخين'. إذ يقول قائد القوة الميدانية في اتصال مع قائد الكتيبة أن 'الوسخ الثاني يجري وسط الجنود حاملا سكين... في الوقت الذي كان فيه الجنود منشغلون بالوسخ الأول'. ويعني ذلك أن الكلمة التي يستخدمها جيش الاحتلال لوصف فلسطيني استشهد في أعقاب عملية طعن هي 'الوسخ'.

وأشار التقرير الصحفي إلى أن الجندي المطعون أصيب بجروح متوسطة، وكان يرتدي درعا واقيا، وأنه في أحداث مشابهة وقعت في الخليل تم فيها 'تصفية المخربين'، علما أنه حتى الآن، ورغم التوثيق المصور للأحداث في هذه الواقعة، لم يتم نشر توثيق لعملية الطعن نفسها. ووفقا للتقرير، فإن 'تثبيت القتل (قتل الشريف) من جانب الجندي المطعون ببساطة لم ينجح'.

بعد ذلك يظهر في شريط الفيديو قيام جنود الاحتلال بإبعاد المواطنين الفلسطينيين من موقع استشهاد القصراوي والشريف، وفي المقابل السماح بدخول المستوطنين بحرية إلى المكان. ويدخل قسم من المستوطنين إلى المكان كسائقي سيارات إسعاف أو مسعفين، والقسم الآخر منهم لا توجد له أية صفة.

 ويؤكد التقرير أنه في هذه المرحلة لا أحد يشعر بوجود أي خطر، ويظهر ضابط يقلب بقدمه جثة الشهيد القصراوي. وفي موازاة ذلك، يقترب المستوطن شموئيل إلكيام، من الشريف، بينما يُبعد الضابط سكينا قريبة من الشريف. ويحاول إلكيام لمس السكين، لكن الضابط يمنعه.

ويقول شاهد الدفاع في محاكمة الجندي القاتل، العميد في الاحتياط شموئيل زكاي، للقناة الثانية حول هذا المشهد، إنه 'يبرز في هذه الحلبة انعدام النظام. وليس واضحا لي ماذا يفعل في حلبة الحدث هذا العدد الكبير من الأفراد (المستوطنين) الذين لا يسهمون بشيء. هكذا يحدث عندما تتواجد قوة عسكرية قرب جهات مدنية لفترة طويلة. يوجد خلط. توجد معرفة بين الأفراد وليس لطيفا أن تقول لأحد: ’أغرب عن هنا فورا’'.

إلا أن هذه الفوضى لا تهدأ عندما يصل إلى الموقع قائد القوة، الضابط توم نعمان، الذي يتعين عليه أن ينظم الأمور. وهو يأمر جنديا بحراسة الشريف الجريح والممدد على الأرض. لكن هذا الجندي يقول إنه 'خشيت أن يكون عليه عبوة ناسفة، لكن لم يكن واضحا لي ماذا عليّ أن افعل بموجب تعليمات إطلاق النار. وأنا على الأقل، وعلى ما يبدو باقي جنود السَرية، لم يدربونا ماذا يحدث عندما نخشى من وجود عبوة ناسفة على جسد مخرب'.

وقالت القناة الثانية أن هناك عزلة تامة بين 'مقلقة' بين القيادة العليا والقيادة الميدانية، إذ أن قائد الكتيبة، دافيد شبيرا، أمر بواسطة اتصال لاسلكي عزل المكان وإخلاء المصابين بسرعة.

ويعقب زكاي على ذلك بالقول إن 'إبقاء مخربين في المكان يمكن أن يؤدي إلى حالة غليان وأعمال شغب وحتى لتنفيذ عملية إطلاق نار. والسؤال هو كيف نُفذت تعليمات قائد الكتيبة'. لكن هذه التعليمات لم تنفذ، بل أن قائد السرية، توم نعمان، وضابط آخر يغادران المكان لبضع دقائق، اتضح بعدها أنها كانت مصيرية.

المستوطنون يسيطرون على موقع الحدث

يحضر إلى موقع الحدث، خلال هذه الدقائق المصيرية، مستوطن يدعى أوري عوفر حاملا بندقية أوتوماتيكية من طراز 'ام 16'، ومستوطن آخر يدعى عوفر أوحانا، وهو متطوع في خدمة الإسعاف الأولي 'نجمة داود الحمراء'. وتعرض القناة الثانية فيلما قصيرا عن اعتداءات أوحانا على فلسطينيين، وشتمهم، بعد أن أوقفهم جنود الاحتلال للتدقيق في هوياتهم. كما يظهر أوحانا في هذا الفيلم وهو يعتدي على ناشطي سلام إسرائيليين. كما تصل إلى المكان سيارة إسعاف أخرى يقودها مستوطن يدعى إليميلخ كرزا.

في الدقائق التالية يسيطر المستوطنون على المكان، ويصدرون أوامر لجنود الاحتلال. عوفر يقف قرب الشريف، الجريح، ويصوره. عندها يقوم الشريف بحركة صغيرة برجله، فيصرخ المستوطن عوفر باتجاه الجندي الذي يحرس الجريح: 'توجد عبوة ناسفة عليه. هذا مؤكد'. وسأل الجندي المستوطن عوفر عما ينبغي فعله بعد مشاهدة الشريف يحرك رجله.

الجندي القاتل ومحاموه (أ.ف.ب.)

ويقول عوفر إن 'شل حركة المخرب يعني أحد أمرين: إما أن يبقى بسرواله الداخلي، أو إطلاق رصاصة على رأسه'.

في هذه الأثناء ينشغل المسعفون في الاعتناء بالجندي الجريح، بينما لا يزال الجنود يمتنعون عن تنفيذ أوامر قائد كتيبتهم بإخلاء الجندي والشهيد القصراوي والجريح الشريف. ويرفض المستوطنون المسعفون تنفيذ أوامر هذا الضابط، فيما سيارة الإسعاف العسكرية تأخرت.

وقال المستوطن أوحانا 'أنا لا أتلقى أوامر من قائد كتيبة، ولا أخضع لصلاحياته هنا وفي هذه الحالة. ولست بحاجة إلى مصادقة قائد كتيبة من أجل نقل جندي جريح، والفلافل (الرتبة العسكرية على شكل نجمة) والسيوف لا تؤثر عليّ، وأنا لا أسأل قائد الكتيبة أبدا حول ما سأفعله، ولن أسأل ضابطا برتبة لواء ولا حتى رئيس أركان الجيش. هذا لا يعنيني. لن أنقل المخرب... ولن أشكل خطرا على نفسي'. يشار إلى أن سياسة 'نجمة داود الحمراء' تدعم هذا الموقف الذي عبر عنه أوحنا حول نقل فلسطيني جريح.

وبعد مرور قرابة عشر دقائق على إطلاق النار على القصراوي والشريف، كان لا يزال المستوطنون، سائقو سيارات الإسعاف الثلاث المتواجدة في المكان، يديرون المكان وإلى جانبهم الجندي القاتل أزاريا. وأظهر تقرير القناة الثانية أن أزاريا كان يتواجد في المكان قبل خمس دقائق على الأقل من إطلاقه الرصاصة على رأس الشريف.

وبعد تحميل الجندي الجريح، بقي أزاريا الجندي الوحيد بين مجموعة المستوطنين، أبرزهم عوفر، الذي يصدر الأوامر: 'هذا المخرب ما زال حيا، ويبدو أن عليه عبوة ناسفة، انتبهوا... لا أحد يلمسه حتى يصل خبير متفجرات'.

ويتبين أن مصدر 'صلاحيات' أوحانا وسيطرته على الجنود يكمن في 'الركن الدافئ'، وهو مكان في إحدى البؤر الاستيطانية في الخليل، التي يدخل إليها الجنود لشرب الماء أو كوب شاي أو قهوة والحصول على طعام أيضا. ويوجد لديه مخزن مليء بمعجون الأسنان والمناشف التي توزع على الجنود. كل شيء بالمجان.

الأخطر من ذلك أن المستوطنين علقوا في 'الركن الدافئ' لافتات لحركة 'حنونو' التي تدافع عن المستوطنين المتطرفين الذين ينفذون اعتداءات وعمليات إرهابية ضد الفلسطينيين. وتحاكي هذه اللافتات الجنود: 'ربما يتم فتح تحقيق ضدك في حال نفذت مهمتك بإصرار. عليك الاحتفاظ بحقك بالصمت أثناء تحقيق الشرطة العسكرية معك. لا تقل شيئا حتى لو استعرضوا أمامك أدلة وإثباتات'.

ويعلق العميد بالاحتياط زكاي على ذلك بالقول إن 'هذا ليس منطقيا. في المكان الذي يتواجد فيه الجنود بمهمة عسكرية، يقولون لهم إن عليهم الاستماع إلى أوامر حركة وليس لأوامر وتعليمات وروح الجيش الإسرائيلي. والأمر الآخر غير اللائق هو أن الضباط، الذين تواجدوا في هذه المنطقة أيضا، لا يأمرون الجنود بأنه ممنوع أن يدخلوا إلى الركن الدافئ'.

لكن ضباطا كبار أيضا، مثل قائد كتيبة مظليين، لا يقاطعون 'الركن الدافئ' ويقيمون علاقات متينة مع المستوطنين في الخليل.

وقال محامي أزاريا للقناة الثانية إن موكله سمع صراخ المستوطنين وأنه لم يعرف أنهم مستوطنون أو مسعفون.

لكن زكاي أكد أن 'ما أشاهده في هذا الفيلم هو غياب مطلق للقيادة العسكرية، التي كان يتعين عليها أن ترى صورة الوضع وإصدار تعليمات للجنود حول ما ينبغي فعله. ودخل المستوطنون إلى هذا الفراغ الحاصل'.

وحتى بعد عودة الضابط توم نعمان إلى ساحة الحدث، يستمر بروز المستوطنين أوحانا وعوفر في قيادة الوضع الميداني. ولا أحد يلتفت إلى أن أزاريا تراجع عدة خطوات إلى الخلف، فيما يطلق المستوطنون الشتائم باتجاه الفلسطينيين الممدين على الأرض، وفي ظل هذه الجلبة، يجهز أزاريا بندقية ويطلب من ضابط في المكان بالتراجع قليلا ثم يطلق رصاصة على رأس الشريف.

لماذا تراجع نعمان إلى الخلف، فيما كان صوت تجهيز السلاح لإطلاق النار مسموعا؟ يقول نعمان: طلا أعرف. لم يكن هناك سببا. كنت أتحدث باللاسلكي وكان هناك ضجة كبيرة'.

وشهد المستوطن إلكيام أنه بعد سأل أزاريا عن سبب إطلاق النار، قال له الأخير: 'المخرب تحرك'. وتعني هذه الإجابة أن أزاريا نفذ ما استوعبه من الأجواء التي أثارها المستوطنون واعتبرها بمثابة أمر ينبغي تنفيذه.

لكن الضباط في المكان لم يأخذوا السلاح من أزاريا، بل أن هذا السلاح بقي بحوزته لمدة ساعتين إضافتين، إلى حين اتصال مراسل من وكالة رويترز بقائد اللواء الذي يخدم فيه الجندي القاتل وسأل عن إطلاق نار غير قانوني. عندها بدأ الجيش الإسرائيلي يدرك أن تفاصيل الجريمة بدأت تنتشر في العالم.

وظهر أزاريا في أشرطة الفيديو يقف مع المستوطنين، بعد إطلاق النار، وأن بعضهم يربت على كتفه، ثم يحضر إلى المكان زعيم المستوطنين المتطرفين في الخليل، باروخ مارزل، الذي صافح أزاريا. وبعد ذلك قال مارزل: 'لم أكن أعلم أنه هو الذي أطلق النار. لو علمت لما تمالكت نفسي... كنت سأعانقه وأقبّله'.

بعد انتشار النبأ، وخاصة الفيديو الذي وزعته منظمة 'بتسيلم'، أدرك المستوطنون أن أزاريا في ورطة، وكشفت الشرطة عن كمية اتصالات كبيرة جدا على الهواتف المحمولة لأزاريا وأوحانا.

فور اعتقال أزاريا وجهت الشرطة العسكرية الإسرائيلية له شبهات القتل المتعمد، واستنكر وزير الأمن حينها، موشيه يعالون، وكذلك رئيس أركان الجيش، غادي آيزنكوت، الجريمة ووصفوا تصرف أزاريا بأنه مفسدة، لكن بعد الضجة التي أقامها المستوطنون واليمين المتطرف، وانضم إليها رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، جرى تخفيف الاشتباه، والاتهام لاحقا، إلى القتل غير المتعمد.   

التعليقات