تفتُّتُ التَّضامن العالميّ.. آثار التقلّبات الماليّة على الاقتصاد الدّوليّ

إذا كانت هناك إشارة واضحة أطلقها قادة العالم في اللقاء الأول لمجموعة العشرين في أبريل (نيسان) 2009، فمفادها أن حل الأزمة الاقتصادية العالمية يمكن أن يتحقق فقط من خلال استجابة منسقة من جانب رؤوس الأموال الرئيسية في العالم. لكن هذا «العمل الجماعي» سرعان ما تفككت خيوطه واستبدل «بالعمل الفردي» المعتاد ممثلا بتحركات غير منسقة على نحو متزايد في صناعة السياسات المالية. وهذا الفشل في إيجاد جبهة مشتركة يكون أكثر إشكالية عندما يدرك المرء أن التقلبات العالمية التي تسببت بنشوب الأزمة قد تركت دون معالجة وعلى نطاق واسع. وفي الوقت الذي تكون فيه هذه المواقف مفهومة من الناحية السياسية فإنها من ناحية ثانية مزعجة بالنسبة لمستقبل الاقتصاد العالمي.

تفتُّتُ التَّضامن العالميّ.. آثار التقلّبات الماليّة على الاقتصاد الدّوليّ

 

 
إذا كانت هناك إشارة واضحة أطلقها قادة العالم في اللقاء الأول لمجموعة العشرين في أبريل (نيسان) 2009، فمفادها أن حل الأزمة الاقتصادية العالمية يمكن أن يتحقق فقط من خلال استجابة منسقة من جانب رؤوس الأموال الرئيسية في العالم. لكن هذا «العمل الجماعي» سرعان ما تفككت خيوطه واستبدل «بالعمل الفردي» المعتاد ممثلا بتحركات غير منسقة على نحو متزايد في صناعة السياسات المالية. وهذا الفشل في إيجاد جبهة مشتركة يكون أكثر إشكالية عندما يدرك المرء أن التقلبات العالمية التي تسببت بنشوب الأزمة قد تركت دون معالجة وعلى نطاق واسع. وفي الوقت الذي تكون فيه هذه المواقف مفهومة من الناحية السياسية فإنها من ناحية ثانية مزعجة بالنسبة لمستقبل الاقتصاد العالمي.
عندما التقى قادة مجموعة العشرين في لندن في أبريل من العام الماضي 2009 في خضم الأزمة الاقتصادية العالمية أفصحوا حينها عن غاية مشتركة مثيرة للإعجاب وتعهدوا باتخاذ إجراءات تحفيزية منسقة وسريعة لمواجهة التدهور الاقتصادي. وقد أثمرت سياساتهم لإنعاش النمو لفترة وجيزة. ولكن بعد مرور سنة بالكاد ومع تزايد تهديد الاضطراب في منطقة اليورو بالانتشار إلى مناطق أوسع تبين أن التضامن العالمي يتعثر.
في يونيو (حزيران) 2010 سارع وزراء مالية مجموعة العشرين إلى قلب سياساتهم على الفور ودعوا إلى اتخاذ إجراء حاسم للحد من عجز موازناتهم. لكن إعلانهم المشترك لم يستطيع إخفاء الخلافات العميقة بينهم من خلال إصرار الولايات المتحدة على أن الحفاظ على تزايد معدل النمو أكثر أهمية من تخفيض عجز الموازنة بينما بقيت عملية الإنعاش الاقتصادي هشة وضعيفة. الأسوأ من ذلك أنه لم يكن اتفاق حول ماهية البلدان التي يتعين عليها تخفيض العجز وكم هو حجم التخفيض ومتى يجب أن يتم.
ومنذ ذلك الحين فإن المخاوف من أن أسواق الائتمان ستتعطل عند مستويات مرتفعة من الديون الرئيسية قد دفعت بكثير من دول أوروبا واليابان إلى المباشرة بالحد من الإنفاق ورفع الضرائب من غير مهادنة وبشكل جاد. وحتى الآن فإن سلوكيات الأسواق توحي بأن التهديدات بالنسبة لمعظم البلدان تبقى وهمية أكثر منها حقيقية. لكن اندفاعهم غير المدروس للخروج من الأزمة ينطوي على خطورة تحويل الهبوط الاقتصادي إلى ركود اقتصادي مضاعف وهو الخطر الذي حذر منة البنك الدولي الشهر الماضي.
ومن غير الواضح على الإطلاق إلى أي مدى ستكون عملية الانتعاش مرتكزة على الطلب الحقيقي للقطاع الخاص كنقيض للضخ الحكومي الرئيسي. وإن خفض الإنفاق المالي المتسرع وغير المنسق سيكون بمثابة هزيمة للذات إذا ما انتهى بتقويض عملية النمو. إذ إن مثل هذا الأمر سيضعف العوائد الضريبية ويزيد من حجم الضغوط على الإنفاق الأمر الذي يستوجب الطلب على تخفيضات أعمق وقد تنذر بمزيد من الانكماش والركود المالي.
وبدلا من أن يكون هذا الاحتمال بعيدًا عن تهدئة الأسواق، فربما يعمل على تأزيمها بشكل أكبر، وبالفعل عندما عملت مؤسسة «فيتش»، وهي إحدى وكالات تصنيف معدلات الائتمان، على تخفيض مرتبة التصنيف الرسمي لإسبانيا، فإنما أعطت سببًا آخر للقلق بأن تدهور معدلات النمو سيجعل من العسير القيام بالمهمة الملحة لتخفيض حجم الدين الخارجي والخاص.
وبالنسبة لحكومات مجموعة العشرين فهي ليست منقسمة بخصوص السياسات المالية وإنما أيضا تعمل كل واحدة منها منفردة وبطريقتها الخاصة فيما يتعلق بضبط وتنظيم السوق المالية. فالولايات المتحدة مثلا مضت قدمًا في التشريعات الخاصة بها بينما الاتحاد الأوروبي يخطط لتضييق الخناق وفرض ضرائب على البنود ولاتخاذ إجراءات أكثر تشديدًا وسيطرة على رؤوس الأموال المحمية، وألمانيا من جانبها تواصل فرض حظر أحادي الجانب على صفقات ما يسمى «بيع النسيئة» أي بيع أوراق مالية لا يملكها البائع عند عقد الصفقة لكنه يكون قد اقترضها من طرف ثالث يكون في العادة سمسارًا ويتم تسليم هذه الموجودات فيما بعد أملا من البائع بأن السعر سينخفض وبالتالي سيحقق ربحًا أعلى. إن ذلك لا يجدي إذ إن كثيرا من هذه الإجراءات يبدو أنها صممت للتركيز أكثر على كسب إعجاب الرأي العام محليا منها على المحاولة الجادة للتقليل من حدة المخاطر المنتظمة.
ولكن عالميًا فإن سياسات الاقتصاديات الضخمة غير المتناغمة تبقى مصدر القلق الأكبر إذ إن اقتصاديات مثل الصين وألمانيا واليابان تسعى لزيادة صادراتها للتعويض عن أثر سياسات الأحكام على الطلب محليًا. الذهاب بعيدًا في مثل هذه الإجراءات قد يتسبب في إحداث حركة ارتدادية تتمثل بسياسة الحماية واللجوء إلى سياسة تحقيق المكاسب محليًا على حساب اقتصاديات بلدان أخرى. ومن شأن ذلك أيضا أن يزيد من محنة وجود اقتصاد أضعف مثقل بالديون. ويجعل من الصادرات الأمل الوحيد في تحقيق النمو خاصة بالنسبة لاقتصاديات دول تناضل بشدة في منطقة اليورو مثل اليونان وإسبانيا وأيرلندا التي لا يساعدها الانخفاض في قيمة اليورو على المنافسة أمام المصدرين الأقوياء والقديرين في ألمانيا.
وهذا ما لا يتماشى مع السحب المتسرع للحوافز في الاقتصاديات الأضخم والأقوى. لكن الانتعاش الذي يتصف بالديمومة يعتمد على أكثر من مجرد القيام بتنسيق أفضل لسياسات الضبط والتنظيم وتخفيض الآثار الاجتماعية للأزمة الاقتصادية. ودون اللجوء إلى إجراء فاعل لمعالجة التشوهات الهيكلية المتأصلة فإن من المرجح أن يتكرر عدم الاستقرار المالي والاقتصادي وربما يكون أكثر حدة.
مثل هذه التشوهات تعتبر متعمقة في الفروق بين معدلات الادخار الوطنية التي تنعكس من خلال الاستمرار الثابت في حالات العجز والفائض في الحسابات الجارية ففي غالبية السنوات العشرين الماضية كانت المدخرات المفرطة في دول الفائض وعلى رأسها الصين وألمانيا واليابان تمول الاستهلاك المفرط في الاقتصاديات التي تعاني العجز. مثل الولايات المتحدة وبريطانيا.
 ومن خلال إغراق العالم برأسمال غزير وأكثر من رخيص فقد ساهمت هذه المدخرات في عمليات الإقراض الطائشة في الغرب وكذلك في تنشيط ممارسات السوق المالية التي بدورها فجرت الأزمة الحالية.
صحيح أنه ومنذ نشوب الأزمة، ارتفعت معدلات الادخار في دول العجز بينما تقلص الفائض التجاري في عدد من البلدان ذات الفائض الكبير، إلا أن هذه التغيرات قد تثبت أنها مؤقتة فقط. فالفائض التجاري الصيني قفز من خلال شهر مايو (أيار) الماضي في الوقت الذي اتسعت فيه دائرة العجز التجاري في الولايات المتحدة مؤخرًا.
معالجة هذه التقلبات العالمية تستدعي القيام بعمل من قبل كلا الطرفين، مدخرات مرتفعة واستثمارات منتجة في بلدان العجز وزيادة الاعتماد على الطلب المحلي وخاصة من حيث الاستهلاك في بلدان الفائض. مثل هذا الأمر لن يتحقق من خلال رصاصة سحرية وإنما من خلال إجراءات غالبًا ما ستكون صعبة سياسيًا وتتباين ما بين دولة وأخرى.
 وفي اقتصاديات العجز، فإن ذلك يعني قبول الناس مستويات معيشة أقل لبرهة من الزمن يرافق ذلك تغير في الحوافز مثل التنظيم وسياسات الضرائب. أما في دول الفائض، فإن الحلول تشمل إصلاحات هيكلية تفتح الباب أمام مصادر جديدة من الطلب المحلي وفي الصين يتطلب الأمر مرونة أكثر في العملة وحالة من الاسترخاء الثابت في التحكم برأس المال وتحديث في النظام المالي وتحسين الأمن الاجتماعي إضافة إلى إجراءات للحد من ادخار الحكومة والمؤسسات.
تلك أجندة ضخمة تصل مستوى القيام بإعادة هندسة أساسية للأنماط الاقتصادية القائمة منذ أمد بعيد وهي أيضا الأجندة التي تفتقر بشكل واضح إلى إجماع دولي. إذ لا يوجد سياسي أميركي واحد مهيأ للدعوة لإنهاء الحكم الأميركي بمستويات معيشة وأنماط استهلاك ترتفع بشكل متواصل. وتتساوى في ذلك ألمانيا التي تستمر بالدفاع بقوة عن وضعها المريح كدولة مصدرة وعن امتيازات نظامها المالي الرزين والقوي بينما الصين ترفض بشكل قاطع الاعتراف بأن سياساتها ربما كانت قد ساعدت في نشر بذور الأزمة المالية.
مثل هذه المواقف يمكن فهمها سياسيًا والتمتع بالتأييد الشعبي على الصعيد المحلي. ولكن ما لم تنهض الحكومات وترتفع إلى مستوى أعلى من ذلك لتواجه تحمل مسؤولياتها في الجهود المبذولة لإيجاد سياسة تنسيق عالمية جادة ستبقى تعاني من الإعاقة الشديدة. ويكون العالم بأسره هو الأفقر في ذلك.
 
جاي دي جونكيرز - كبير أعضاء المركز الأوروبي للاقتصاد السياسي الدولي وعمل سابقا لدى صحيفة «الفايننشيال تايمز».

التعليقات