03/06/2006 - 08:31

فكرة صومالية..

فكرة صومالية..
لم يكن توماس هوبس ليحظى بأدوات تصويرية لكتاب "لفيتان" أفضل مما يجري في بعض المناطق العربية حاليا.

وللتذكير فقط: علل المنظر المذكور استسلام الأفراد بكامل قواهم العقلية وبخيارهم واختيارهم لسطوة الدولة... والأخيرة مطلقة في جوهرها وناجمة عن عقد اجتماعي مبرر بضرورة الخروج من حالة الطبيعة، حالتهم دون دولة، لأنها تعني حرب الكل ضد الكل.

ودافعهم إلى التعاقد هو الخوف من الموت. إنهم يقايضون حريتهم الطبيعية المزعومة، (وهي ليست حرية بل خضوع للغرائز، إذ لا حرية في الطبيعة بل ضرورات) مقابل حياتهم المنظمة في دولة مكونة من تقاطع كافة الإرادات. دولة تحتكر العنف.

منذ ذلك الحين تطورت الحرية الاجتماعية والسياسية في إطار نظرية العقد الاجتماعي وفي الدولة. الحرية السياسية هي الحرية في الدولة ضد الإستبداد وضد عشوائية واعتباطية السلطة، وليس الحرية من الدولة.

كان من الصعب أن نوصل هذه الأفكار في الماضي لطلاب يحملون موقفا سلبيا أصليا من الدولة، ورومانسية تجاه المجتمع والجماهير هي اختلاط ثقافة ريفية أو قبلية تقع على هامش الدولة وعلى هامش المجتمع المدني على حد سواء مع شذرات من أفكار يسارية خارج سياقها تعتبر الدولة أمرا عابرا في تاريخ البشرية لأنها أداة "قمع طبقة ضد طبقة". الهجين الناتج مركب ثقافي غير ديمقراطي يصعب فيه تمرير الفكرة الديمقراطية.

الديمقراطية في النهاية هي نظام حكم في الدولة. والمجتمع المدني ليس قبيلة أو عشيرة في مواجهة دولة ضعيفة. ففي مثل هذه الحالة تكون الدولة أداة قمع قبيلة ضد قبيلة، أو هي أداة متنازع عليها بين قبائل. المجتمع المدني هو مجتمع قوي في دولة قوية، هو مجتمع في علاقة جدلية مع الدولة.

وقد صعب علي عموما كمدرس أن أفهم الطالب بلغة رؤوفة حنونة لا تمس رومانسيته ولا تقلل من عدائه الصحي للظلم والإستبداد، أن الدول عموما وبيروقراطيتها خصوصا أكثر تطورا وعقلانية من المجتمع لو تخيلناه دون دولة، إلى أن أتاك حديث حل الجيش العراقي، وقبله حديث الصومال. وما أدراك ما الصومال؟

إذا كان العراق خبرا لأن فيه وعلى مقربة منه نفط وأميركيون، فالصومال تقع خارج دائرة الخبر، لا نفط ولا أميركيين ولا يحزنون. بل يجزعون.

نذكر هنا أن دارفور دخلت دائرة الأخبار مع اكتشاف مخزون كبير من النفط في السودان. وان الصراع القبائلي قائم ووحشي، لا عرب ولا غير عرب، ولا جينوسايد ضد غير العرب. كلها قبائل من نفس المكان، لوم يكن الصراع يعرف على هذا النحو، أي جينوسايد عرب ضد غير العرب إلى أن دخلت دائرة الأخبار الدولية ومصطلحاتها.

غياب الدولة في الصومال لا ينتج إلا خبرا موسميا يذكرنا أنها موجودة...وعبثا يهتف في وجه المجتمعات الغربية والعربية، نشطاء وموظفون من الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى منسيون هناك منذ سنين. فلا أحد يريد أن يسمع.

اعتقد أن الأمر مفهوم الآن لطلابنا الذين صعب عليهم الفهم في حينه. لا كهرباء ولا ماء ولا مدينة ناهيك عن مدنية. ولا حرية. اقتتال مستمر حتى عندما لا نسمع عنه يختزل الإنسان إلى صراع البقاء ويعيد المجتمع القومي في الدولة الوطنية إلى حالة قبائل. والقبائل في نفس الحيز متناحرة بحكم تعريفها.

استبداد الضرورة وطغيان صراع البقاء وعشوائية الفوضى واعتباطية القتل...كل هذا دون دولة.
موت البشر خارج الدولة وخارج السياسة والمصالح المتصارعة التي تحوله إلى خبر، كموت الكائنات الأخرى في الحالة الطبيعية. ليس خبرا..

ترد الأخبار في السياسة، في الدولة. موت حيوان أليف عمّر في حديقة حيوانات في دولة متطورة، ومعاناة حيوانات يدافع عنها حزب في برلمان هو أيضا خبر، وكذلك هرب قطة إبنة الرئيس الأميركي. وعندما يصبح أي منها خبرا دوليا فإنه يقيم الدليل العبثي على الهيمنة منعكسة نحو الداخل كتسلية استهلاكية شمولية مسيطرة على عقول الناس ونحو الخارج كهيمنة امبريالية. تسلية بالعظمة!

من يذكر صورة الصحافيين والمصورين رجال ونساء بالغين وبالغات، وهم يوسعون المسافة بين القدمين لكي يتحملوا ثقل الكاميرات على أكتافهم وهم يحاولون بجدية متناهية التقاط صورة للقطة من زاوية أفضل؟ وليس هنالك حاجة للتذكير بعدد الصوماليين الذين حظوا بهذا العدد من الكاميرات..

ليس فقط في غياب الدول، بل أيضا على حدود الدول وفي مناطق التخوم، تخوم الشرعية، تنشأ حالات طبيعة دون دولة، وإن بنسب متفاوتة. هنا ينجب الإستبداد حالات طبيعة على تخومه تتناقض بذاتها مع فكرة الدولة. وهو تناقض الإستبداد في الحداثة. فهو يدفع إما نحو الشمولية ليحتويها، وهذه لا تعمر طويلا، أو نحو الإنحلال.

التعليقات