13/07/2006 - 21:59

دحض "نظرية المؤامرة" لا ينفي وجود مؤامرات..

دحض
تتحول النزعة لتشخيص مؤامرة توجه كل خطوة سياسية وتقبع وراء كل تصريح وتشكل خلفية لكل حدث تاريخ إلى ثقافة غير عقلانية كامنة في "نظرية مؤامرة"، أو للدقة حكاية مؤامرة تفسر كل شيء، وهي لشدة لا عقلانيتها عصية حتى على التفنيد، مثلما لا يمكن إثبات خطأ الخيال أو دحض ما هُيِّئ له، بالضبط لأنه خيال. وتحجب نظرية المؤامرة الواقع عن الرؤية، فتمنع تحليل دور عوامل موضوعية اجتماعية واقتصادية في التحكم في سلوك البشر، كما تجنب المناضل أو الناشط السياسي فحص مسؤولية وأخطاء الطرف الذي ينتمي اليه أو يدافع عنه، أو يتعصب له.

أخيراً صدرت طبعة جديدة من نظرية المؤامرة. وتتلخص هذه الطبعة المقلوبة بنفي أي تخطيط او نيات لدى الخصم إلا إذا كان عربياً، أو «إرهابياً» طبعاً. ولا يساق على صحة هذه النظرية دليل في ما عدا الابتسامة الجاهلة المتظاهرة بالمعرفة التي ترافق السخرية من نسب أي تفكير أو تخطيط لأميركا أو إسرائيل، يستلها ويرميها في وجوهنا بعض صغار وصبية ومراهقي أميركا الجدد في المنطقة الذين قرأوا مقالاً عن كتاب أو سمعوا معلقاً أميركياً يتحدث عن نظرية المؤامرة عند العرب. ولا تغادر وجوههم فرحة الاكتشاف وهم يرشقون المارة والمستمعين بعبارات مثل: "هذه خطابات الخمسينيات"، و "هذه نظرية مؤامرة"، و"في بعد حدا بحكي عن إسرائيل؟". هذا هو الوجه الآخر لنظرية المؤامرة، وهو يبزّ في لاعقلانيته وجهها الأول.

حتى ثقافة الأطباء النفسيين عبرت عن عبثية الموقف وشفعت لمن يؤمن بأن هنالك مؤامرة عليه بعبارة شهيرة لا نعرف لها نسباً: «حتى لو كنت أعاني من جنون الملاحقة، الباراناويا، فإن هذا بحد ذاته لا ينفي أن أحداً يلاحقني»، فما بالك بمن ليس يصاب بنظرية المؤامرة، ألا يصح أن يكون هنالك من يتآمر عليه رغم كل شيء؟

وقد سبق أن كتبت باربرا توخمان التاريخ كله كتداعيات وكوارث كبرى ناجمة عن سلسة من الأخطاء وحتى الحماقات والأفعال الغبية وسوء التقدير وخطأ التشخيص لدى قادة أو سياسيين، وكلها لا تمت بصلة للتخطيط أو التآمر، او أن صلتها مقلوبة، أي أنها نجمت عن تآمر فاشل أو غبي. ورغم الرعب من العبثية الكامنة في هذه النظرية التي تعتبر غباء زعيم واحد أعظم أثراً وأكبر فعلاً من حيث التأثير التاريخي من إيديولوجيات وقوى اجتماعية، إلا أننا لا نستبعد هذه النظرية كإحدى زوايا النظر إلى التاريخ، كزاوية تثري التحليل، ولكن ليس كزاوية وحيدة تقصي غيرها أو تستثني العوامل الموضوعية.

تقيس إسرائيل يومياً مستوى العنف الموجه ضد غزة ونتائجه. ولا نبالغ أو نسرف بالقول أنها تغير عنوان الحملة وأجندتها خلال دحرجتها تبعاً للتطور والتجربة والخطأ ورد الفعل الدولي وغيره. من هذه الزاوية لا توجد مؤامرة، وتوجد دولة تتصرف من دون ضغط، «آخدة راحتها»، وتسمح لنفسها بأن تسمي عمليتها بالمتدحرجة، لأنها تصعدها تدريجاً وفقاً للتطورات. أو دولة عصبية، إذ قد تولد القذائف الفلسطينية على بلدات جنوبية ضغطاً من الرأي العام الإسرائيلي على حكومته لتفعل شيئاً، وقد تفقد الحكومة أعصابها بعد عملية فلسطينية ناجحة واسر جندي فتندفع الى التصعيد قبل أن تعد سلماً ينزلها عن الشجرة، وقبل أن تجهز حجة توقف بها حملة لا نهاية لها لأنها لن تنجح بالقضاء على المقاومة. وقد تقع مذبحة تولد رد فعل عالمي غير مونديالي.

لا علاقة لهذا كله وغيره بالمؤامرة. ولكن اندفاع إسرائيل في عدوانها على غزة نتيجة أزمة أو ارتباك أو حتى نتيجة لصلف وشعور بالتفوق لا يستثني أن هنالك خطة سياسية قد تستفيد وقد تتضرر من فشل أو نجاح هذا الهجوم. وكما عودنا صغار أميركا ومراهقوها في المنطقة فإذا فشلت الخطة يفسرون الفشل بأنه غياب خطة، أما إذا نجحت فيسود تقدير للتخطيط الإسرائيلي، لا التآمر طبعاً، وتأنيب للعرب على غياب التخطيط لديهم.

والحقيقة أنه لا يوجد من صناع القرار في إسرائيل من يخفي الرغبة بأن يشكل الضغط على المجتمع الفلسطيني محركاً لضغط الأخير على قياداته السياسية، وذلك جرياً على عادة التآمر الذي يسمى إرهاباً لأنه يخطط لأن يمس بالمدنيين لكي يشكل هؤلاء ضغطاً على قيادتهم. إرهاب إسرائيلي تآمري يخطط عن سبق الإصرار والترصد. ولا يبذل أحد من صناع القرار في إسرائيل جهداً لإخفاء الخطط السياسية التي يفترض أن تخدمها الحملة الهمجية على غزة والتي تبدو كأنها عملية تكسير هوجاء لا هدف ولا منطق يحكمها، وربما ينتظر بعضهم أن تجد إسرائيل تفريغا لحقدها أو «أن تفش غلّها» ثم تعود الحال إلى ما كان، وكأنها بريئة من النيات والأهداف السياسية.

وتبغي إسرائيل التوصل إلى وقف سقوط القذائف العابرة للجدار على بلداتها الجنوبية إما بأن يستوعب مطلقوها الثمن الذي يكلفه إطلاقها، أو يفهمهم مجتمعهم الذي يعاني من النتائج، أو تجد من تفاوضه على وقفها بعد العملية. الهدف العسكري هو إذا تغيير قواعد اللعبة بحيث لا يسمح بإطلاق النار على إسرائيل بعد فك الارتباط في غزة، وفي الضفة مستقبلاً، وإذا أطلقت النار فسيكون الرد الإسرائيلي مبرراً وغير عادي في شدته. وقد سبق ان كتبنا هنا عن هذا النموذج من الإغارة الإسرائيلية الدورية على مناطق انسحبت منها إسرائيل من دون اتفاق، وباتت تحرسها من الخارج، كجزء عضوي من خطة فك الارتباط.

أما الأهداف السياسية من العملية فتتجاوز هذا الهدف إلى كسر الحكومة المنتخبة وعزلها شعبياً تمهيداً للتفاوض مع طرف يقبل بالشروط الإسرائيلية، او تمهيداً لفك ارتباط مبرر بغياب مل هذا «الشريك»، وكأن العدوان هو استمرار الحصار بأساليب أخرى.

ولو كانت القوى السياسية الفلسطينية المنظمة تقف موحدة في رفضها لسياسة القوة الإسرائيلية إلى درجة دفع إسرائيل ثمن عدوانيتها المفرطة، لأمكن القول أنه صحيح أن لدى إسرائيل خطة عسكرية وسياسية متغيرة ومتدحرجة، ولكن مقابلها توجد خطة صمود ومقاومة ستفشلها. لكن العدوان وقع بعد نقاشات فلسطينية، وحتى عربية، طويلة استشف منها تحميل الحكومة المنتخبة مسؤولية الورطة الاقتصادية الناجمة عن حصار دولي. وبنفس واحد يمكن اشتقاق المسؤولية السياسية عما يجري من هذا التحميل ذاته بعد أن ينقشع دخان الانفجارات. ما يمنع هذا الاشتقاق في اللحظة الراهنة هو خجل وحرج البعض من تبرئة إسرائيل في حالة عدوان إسرائيلي، ومن قضية أسرى يطالب بتحريرهم بالتبادل، وقد تم استخدام رمزيتهم للتلويح بوثيقة قبل أسابيع من العدوان.

ولا يجوز ان نتجاهل حقيقة أن البعض ينظر إلى استنزاف قوة المقاومة من زاوية نظر أخرى تقيس مدى إضعافها سياسياً. وإسرائيل ترى ذلك، وهي تجتهد وتتطوع حتى دون أن يطلب منها أحد أن تضعف طرفاً لصالح طرف على الساحة.

ولماذا لا يجوز التفكير بسيناريو كان يبدو واقعياً قبل فترة وجيزة: أن يتم التفاوض مع قيادة منظمة التحرير من دون الحكومة الفلسطينية، حتى التوصل إلى اتفاق. ولا يهم بهذا الغرض أطرحت عناصره من جديد للاستفتاء، أم لم تطرح. وإذا قيل أن وثيقة الأسرى التي توافق عليها الجميع بعد التعديل تتضمن حداً أدنى سياسياً لا يمكن تجاوزه من قبل منظمة التحرير الفلسطينية، فلن يتأخر الرد الذي توقعناه بأن كل ما يهم من الوثيقة هو أن المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد ومن حقها أن تفاوض. أما ما تبقى فليس إلا كلام داخلي فلسطيني لا يلزم إسرائيل ولا يصلح حتى كبداية للتفاوض معها أو مع أميركا وأوروبا. أما الهدف فهو الدولة، وأما أساس التفاوض فهو 242 وخارطة الطريق،وهذا هوالمقصود بالشرعية الدولية، لا أكثر ولا أقل. الجديد إذا هو الانتداب والتخويل المتضمن في الوثيقة، وثانياً استنزاف الشعب الفلسطيني في العدوان حتى يستبشر خيراً من أي تفاوض، والجديد هو رغبة إسرائيل المعبر عنها حالياً في منح تسهيلات إنسانية محصورة بـ «المعسكر المعتدل» فقط كما جرى أخيراً. فعندما فتحت معابر في غزة لساعات معدودة أثناء العدوان، قيل بشكل تظاهري ان ذلك يتم نزولاً عند طلب فلان أو فلان ممن أعلنوا عن هذا «الإنجاز» من رموز هذا «التيار المعتدل» وكأنه وزير يقوم بدوره. وقد لا تستثني هذه «الخدمات» إطلاق سراح أسرى في المستقبل.

الوزير هو، بموجب هذا المنطق الخدماتي، مَن تمكنه إسرائيل من لعب هذا الدور. وطبعاً يتطلب ذلك أن تنسى قطاعات اجتماعية بأكملها سبب المشاكل التي يقوم هو بحلها مع إسرائيل. وهدف النضال الذي أدى الى هذه التضحيات. فالسجناء اسروا في النضال ضد الاحتلال. وكان الهدف تحرير البلد وليس تحريرهم. لقد سجنوا في خضم النضال لتحرير البلد، وإذا تحرروا في إطار تحريره، أو في إطار النضال من أجل تحريره بالتبادل وغيره فهذا هو المطلوب، اما إذا أصبح تحريرهم هدفا قائما بذاته، أو وسيلة تعد مع المحتل للتغطية على عدم تحرير البلد، فهذا أمر آخر. ويسري هذا المنطق على كل «خدمة» أخرى تقدم.

وهذا يذكر بدينامكية العلاقة بين نائب الخدمات والحكومة وجمهوره، حتى في دولة مثل إسرائيل. الحكومة تمنح النائب العربي الذي يتجاوب معها سلوكاً وأخلاقاً وثقافة، أو بانعدام الثقافة والأخلاق، حتى لو كان في حزب عربي، خدمات وردوداً إيجابية على طلباته و «تحرم» «النائب المتطرف» من «وصالها» وتتآمر حتى مع الأول ضد الثاني. الجمهور العربي يحتاج الى الخدمات وينقسم بين من يؤيد التمسك بالمواقف والنضال من أجل المساواة وتحصيل الحقوق من خلال النضال لا الوصال، ومن يضغط لكي يبتعد النائب عن المواقف المبدئية التي لا تصرف على شكل خدمات في بنك حكومة إسرائيل. ولا يهم إسرائيل أن يزايد نائب الخدمات في الإعلام ما دام التفاهم بينها وبينه قائماً. وحال الساسة الفلسطينيين الذين قبلوا هذا النموذج كحال النواب عن شعبهم عند إسرائيل، إنه ليس حال قادة دولة ذات سيادة، وهو بالتأكيد ليس حال حركة تحرر وطني. ولا يجوز أن تنقسم الساحة الفلسطينية بين من ضيع الهدف تماماً، ولم يبق الا أن يتباهى برضا إسرائيل عنه وبقدرته على تحصيل خدمات من إسرائيل، وبين من لا يولي أهمية لحياة الناس اليومية ويتوقع منهم أن يكونوا جيش احتياط.

في أي حال، لا تقوم إسرائيل بتشجيع المعتدلين وضرب المتطرفين إلا لهدف. وقد قلنا أن رائحة مؤامرة بعد العدوان تفوح من القذائف الإسرائيلية. ففي حين يتكلم الإسرائيليون صراحة عن تذمر المجتمع الفلسطيني من نهج المقاومة، يظهر بعض الساسة فجأة كـ «جالبي الذيب من ذيله» على خلفية معزوفات أوركسترا القذائف بقيادة مايسترو يوزع الموت. هذا هو الفرق الثاني البسيط بين هذا العدوان وغيره في السابق: انه في ظل التعرض للعدوان تتنافس قوى سياسية ذات أهداف مختلفة وان العدوان نفسه يعي ذلك.

يفترض في حالة التحرر الوطني أن يتم الاعتماد على الوحدة وعلى الصمود لإفشال العدوان، وليس من مصلحة الفلسطينيين ولا من خصال حركات التحرر أن تعتمد على الفوضى والانهيار، فلا يتبقى لها إلا أن تهدد الخصم بما حصل في العراق. لقد أدى الانهيار في العراق إلى فوضى ونزاعات طائفية وانحلال الحياة المدنية... وطبعاً إلى مقاومة وإلى تورط أميركا. ولكن أميركا تورطت من دون استراتيجية عراقية موحدة، ومن دون افق عراقي موحد، ولا حتى من نوع يجمع حركات المقاومة، وأميركا تورطت بثمن غال يدفعه المجتمع العراقي المتورط أيضاً في غياب مشروع سياسي عند المقاومة. لم تنحل دولة في فلسطين. ولا يريد الفلسطينيون الاعتماد على الفوضى كورطة للمستعمر، بل على مشروع مقاومة موحد يتضمن في ما يتضمن إشارات لحياة ولمجتمع ما بعد المقاومة. لأننا لا نريدها موحلة يعلق المستعمر في وحولها أو مستنقعاً يغرق فيه مع سكانها، بل بلداً يلمح أبناؤه أفقاً للحياة فيه، وبالتالي خياراً نضالياً لمقاومة الموت.

التعليقات