31/10/2010 - 11:02

العمليات الاستشهادية وتأثيراتها على القضية الفلسطينية/ د.السيد عوض عثمان*

العمليات الاستشهادية وتأثيراتها على القضية الفلسطينية/ د.السيد عوض عثمان*
تتأهب انتفاضة الأقصى والاستقلال وحق العودة ، لدخول عامها الرابع فى 28 سبتمبر 2003 ، بتواصل وثبات واستمرارية ، وصمود شعبى اسطورى ، رافضاً الإذعان للقبول بالإملاءات الإسرائيلية ، لتسوية يائسة ومذلة تنتقص من " الحد الأدنى " للحقوق الوطنية المشروعة . وتجذرت الانتفاضة فى كل الاتجاهات ، وأصبحت نمط حياة لشعب أكثر تصميماً على مواصلة النضال ، مهما كبرت التضحيات والمعاناة . وفشلت خيارات شارون الأمنية ، فشلاً ذريعاً ، على الرغم من حرب الإبادة الشاملة ، ضد كل ما هو فلسطينى ، من بشر وشجر وحجر ، فى وأد الانتفاضة ، حيث تنتصر إرادة المقاومة فى صراع " حرب المعنويات والإرادات " على آلة الحرب العسكرية الصهيونية ، رغم خلل موازين القوى .

-1-
تجسد الاصطفاف الوطنى الفلسطينى فى استراتيجية مقاومة طويلة الأمد ، تحيد بعضاً من خلل موازين القوى . الأكثر من ذلك ، وفى ظروف وسياقات غير مواتية ، محلياً ، وإقليمياً ودولياً ، تبنى الفلسطينيون سياسة " تكسير عظام العدو " ، عبر ردود موجعة ومؤلمة ضد الاحتلال وأدواته المباشرة : الجيش ومؤشراته الاستيطانية . وباتت المقاومة طريق الحرية والاستقلال ، وأصبح واضحاً أن لا شئ يخمد منطق المقاومة طالما بقى الاحتلال ، وأن خيار المقاومة ، بكافة صورها وأشكالها ، هو رد فعل طبيعى وتلقائى على رافع هذا الاحتلال إيماناً بأى أى مقاومة لا تؤلم ولا توجع العدو ، ليست بمقاومة ، وما دون ذلك من أشكال المقاومة اللاعنفية ، يوفر له إمكانية التعايش معها ، والتكيف مع مردودها لأطول فترة ممكنة ، مما يزيد من أمد الاحتلال وتجلياته . وتمكنت الانتفاضة ، وبرغم قصر عمرها الزمنى ، من أن تشكل ، ولأول مرة فى التاريخ الصراع ، تهديداً وجودياً حقيقياً ، على مختلف الأصعدة لطبيعة الكيان الصهيونى ، وجوهر مشروعه ، ورفض مشروعيته ، بالاعتماد على الذات . ولا يتوهم أحد أن بمقدور الانتفاضة تحقيق الانتصار العسكرى ، بالمعنى المطلق ، وحسم الصراع بالقوة ، بيد أنها تسعى باتجاه تآكل إرادة العدو والنيل من معنوياته وقدراته ، ورفع كلفة احتلاله ، وصولاً لطرح السؤال حول مدى جدوى استمرار الاحتلال ، عبر استنزاف طويل الأجل ، وتأكيد الإيمان بمشروعية مقاومة الاحتلال . حسبما تؤكد المواثيق والأعراف الدولية ، تحت مظلة حق الشعوب التى ترزح تحت نير الاحتلال فى تقرير مصيرها بحرية ، وبإتجاه التحرر الوطنى ، ورفض الخلط الوظيفى بينها وبين الإرهاب الأعمى ، خاصة بعد أحداث 11 سبتمير ، ووفق رؤية أحادية الجانب ، بأجندتها ومشروعها الخاص .

-2-
ومن الأهمية بيان أن ثمة " تجريدة " دولية ، وعبر أبواق محلية وإقليمية تستهدف تجريم فكرة وخيار وثقافة المقاومة . ونالت العمليات الاستشهادية والفدائية النصيب الأكبر من حملات الهجوم والإدانة . وبهذا الشأن ظهرت كتابات عديدة واتجاهات وتيارات ، تنتقد حالة طغيان المقاومة المسلحة على فاعليات الانتفاضة " وعسكرتها " ، وتغييب البعد الشعبى والضمور الجماهيرى ، وأشكال المقاومة السلمية التى اتسمت بها الانتفاضة الأولى منذ 1987 وحتى 1993 ، وذهب أنصار هذه الرؤية إلى أن العمليات الفدائية المسلحة وذات الطابع الاستشهادى أدت إلى تشويه صورة النضال الفلسطينى ، وأن الكفاح المسلح لا يمكن أن يكون بديلاً عن الدبلوماسية الدولية والرأى العام العالمى فى إدارة الصراع وحله ، واستفزاز إنسانية الرأى العام العالمى والتقدمى . كما أن هذه العمليات تمثل أحد الأمثلة على الاستهتار بالموارد البشرية الفلسطينية ، والتى ساهمت فى التعجيل بانهيار " اليسار الليبرالى الإسرائيلى " وتهميش حركات السلام الإسرائيلية بشكل لم يسبق له مثيل منذ عام 1967 ، والذى تزامن مع جنوح المجتمع الإسرائيلى إلى اليمين المتطرف فى التعامل مع القضية الفلسطينية ، ودفع الرأى العام الإسرائيلى للاحتماء بمجرم الحرب شارون ، ومن ثم الوقوع فى فخ تكتيك " الاستفزاز " الشارونى ، التى يتلوها ردود أفعال فلسطينية أكبر ، تصب فى صالح سياسات شارون وإطالة عمره السياسى .
وفى داخل السلطة الوطنية ، وجد تيار يرى عبثية المسار العسكرى للانتفاضة ، بل عبثية عملية العنف برمتها ، وأن هناك ضرورة للعودة إلى المسار السياسى بوصفه الوحيد القادر على تحقيق قدر من الإنجازات مهما بلغت ضآلتها ، ويمكن بلورة حجج هؤلاء فيما يلى :

· أن استخدام عملية العنف يزيد من إصرار إسرائيل على رفض التفاوض فى ظل " العنف " المتصاعد والمتبادل .

· أن المقاومة المسلحة فرضت صراعاً غير متواز لا تتوافر فيه للمقاتلين الفلسطينيين ، على رغم شجاعتهم وبسالتهم ، الفرصة فى الصمود فى وجه القوة العسكرية الإسرائيلية فى " حرب " غير متكافئة ، تولد ردود فعل إسرائيلية هائلة .

· أنه لا يتوافر للشعب الفلسطينى وسائل تحقيق الانتصار العسكرى ، ومن الصعوبة تصور تحرير الأراضى الفلسطينية وإقامة الدولة المستقلة ، فى ظل موازين القوى الراهنة .

· أن الاستمرار فى المقاومة المسلحة يوفر لإسرائيل والمتعاطفين معها فى الخارج الذرائع والوسائل لتبرير الرد " القاسى والوحشى " للجيش الإسرائيلى ، وتحويل اهتمام العالم عن القضية الحقيقية ، أى الظلم الذى يعانى منه الفلسطينيون ، وهو ما يؤدى إلى تصويرهم على أنهم شعب " عنيف " فى الأساس ، و " غير مسئول " ، ولا يمكن تحقيق السلام معه .

· أن المقاومة مع التفاوض كما فى الحالتين الجزائرية والفيتنامية ، نوع من " القياس الفاسد " ، وأن الاهتداء بتجربة مقاومة حزب الله اللبنانى لا تتناسب مع خصائص الساحة الفلسطينية ، حيث انسحبت إسرائيل لأسباب تكتيكية ، فى حين تعتبر الأراضى الفلسطينية المحتلة جزءاً من مشروعها التاريخى سياسياً وأيديولوجياً ، وقومياً ودينياً ، فضلاً عن النواحى الأمنية والمائية والاستيطانية . كما أن المقاومة اللبنانية الوطنية كانت تتطلق من بلد له " وجود على الخريطة " السياسية ، وقدرة إسرائيل على توجيه الضربات له ، مهما كانمت موجعة ، تظل محدودة ، وأن حزب الله يحظى بالغطاء السياسى من الحكومة اللبنانية التى تبنته داخلياً وخارجياً ، كحركة مقاومة مسلحة ، وبدعم سورى وإيرانى ملحوظ .

ويصر أنصار هذ الرؤية على أن قوة الانتفاضة تكمن فى حقها وليس فى قوتها العسكرية ، وفى مطالبها العادلة وليس فى عنفها ، وفى إنسانيتها وليس فى شدتها ، وذلك عبر إبراز التناقض بين الموقف الإنسانى الفلسطينى من خلال إعادة هيكلة خيال الرأى العام العالمى وفق صورة معركة غير متكافئة وغير أخلاقية بين المقلاع والدبابة ، وبين آلة العدو العسكرية واللحم البشرى ، وجهاً لوجه ، الأمر الذى يبرز الوجه القمعى الإسرائيلى ويكرس السقوط الإخلاقى لوجود إسرائيل واحتلالها الضفة والقطاع ، يتلوه سقوط إخلاقى " لدولة " إسرائيل نفسها ، وثالثاً سقوط أخلاقى للمشروع الصهيونى برمته ، وأن ما يحقق هذه التحولات هو المواجهات عند حواجز الاحتلال ومواقع المستوطنات والبيوت المهدمة ، وأشجار الزيتون المقتلعة لجذب التعاطف الدولى ، وفتح ثغرة فى جدار التأييد الغربى الإسرائيلى .

ويخلص هذا التيار إلى أن العمليات الاستشهادية ومظاهر العسكرة تضع الشعب الفلسطينى أمام خطر تبديد وخسارة العديد من " الإنجازات " والمكاسب السياسية المهمة التى حققها فى السنوات القليلة الماضية . ومن منطلق أن " الوقوف الفورى " للانتفاضة سيبدو وكأنه انتصار لحكومة شارون ، الأمر الذى سيؤكد أن القمع الوحشى للانتفاضة كان له مبرر ، ومن ثم فإن المقاومة السلمية هى السبيل لإنهاء المأزق الراهن ، لأن هذا النمط قادر على أن يحدث شرخاً فى الرأى العام الإسرائيلى ، ويظهر " لا إنسانية " إسرائيل وبشاعة ووحشية الاحتلال ، ويحرم إسرائيل من منطق " حق الدفاع عن النفس " بالأسلوب الذى تراه .

-3-
على الجانب الآخر ، انطلق انصار المقاومة المسلحة من ضرورة عدم الوقوع فى براثن تداعيات 11 سبتمبر ، والخلط غير البرئ بين المقاومة والإرهاب . ولما كانت المقاومة مشروعة بكل المقاييس القانونية والإنسانية والسياسية ، فمن الضرورى عدم وضع فواصل تعسفية بين هذا الحق وممارسته . فطالما يوجد الاحتلال ستوجد مقاومة ، وأن القمع يولد مقاومة ، وهذه معادلة لا فكاك منها ، مهما كان الأمر .

فالانتفاضة هى حركة منطقية فى سياق التاريخ وليست مصطنعة أو فردية ، لرد العدوان والاحتلال وهى ليست بدعة أو اختراعاً فلسطينياً ، وهى ليست حرباً بين دولتين ، كما يروج البعض ، ولا مجرد نزاع حدود ، ولكنها هبة شعبية ضد واقع واحتلال استيطانى استئصالى ، ومواجهة مستمرة لجريمة إسرائيل فى اقتلاع الشعب الفلسطينى من أرضه وتشريده خارج وطنه . وهى حالة نضالية فى الزمن العربى الردئ ، تعزز قناعة الشعب الفلسطينى أن خيار المقاومة المسلحة بمقدوره انتزاع الحقوق الوطنية المشروعة . كما أن الضغوط الإسرائيلية – الأمريكية المزدوجة هدفها فرض الاستسلام على السلطة والشعب الفلسطينى ، وإجبار عرفات على الإذعان للمطالب والشروط الإسرائيلية ، والانزلاق إلى هوة تقديم التنازلات ، فى مسلسل لا نهاية له .

كذلك فإن عمليات المقاومة المسلحة هى التى ساهمت فى رفع كلفة الاحتلال ، وكبدت إسرائيل خسائر مستمرة ، وشبة يومية ، ومتصاعدة ، لا يمكنها التعايش معها طويلاً . ومثل هذه العمليات هى التى حيدت الاختلال الحاصل فى الموازين العسكرية التقليدية لمصلحةو أهداف الانتفاضة والمشروع التحررى الفلسطينى . وهذا هو جوهر " توازن الرعب " الذى يستند إلى عدم قدرة إسرائيل على الصمود طويلاً أمام نزيف الخسائر . فى مقابل قدرة غير محدودة للطرف الفلسطينى ، على تحملها ، والتعايش معها ، مما يعزز إمكان تحويل الخسائر الفلسطينية ، البشرية والسياسية والاقتصادية إلى مكاسب فى المدى المنظور . ناهيك عن أن مأساوية الأوضاع الفلسطينية الراهنة تتضاءل بجوار مأساوية الأوضاع الناجمة عن الذهاب لمدى التنازلات المطلوبة . فالشعب الفلسطينى وحركته التحررية يخسر مصدر قوته الأساسى إذا تحولت قضيته إلى قضية " كيان " ينفذ أو لا ينفذ الزاماته الأمنية ، وإذا تحولت من قضية ضمان أمن الواقعين تحت الاحتلال ، إلى ضمان أمن المحتلين ، وإلى قضية إرهاب أو عنف ، بدلاً من أن يكون قضية مجابهة عنف الاحتلال واستمراره .

ويؤكد أنصار المقاومة المسلحة على أنه رغم أهمية مسألة الرأى العام العالم واستقطابه لصالح القضية ، فمن الضرورى عدم المبالغة فى هذا الدور . فطوال عقود ماضية ، لم يقدم الكثير للشعب الفلسطينى ، حتى مع اتضاح الحجم الهائل فى مساحة العنف والعنصرية فى بنية العقيدة الصهيونية ، وما تستخدمه إسرائيل من قدرات قتالية عسكرية . وما ترتكبه من جرائم حرب يومية بحق الشعب الفلسطينى ، وتعريض قرابة ثلاثة ملايين فلسطينى لعقاب جماعى عسكرى محكم ، وحرمانهم من حرية الانتقال . ثم أن جنازات الشهداء هى الأكثر جماهيرية ، ووسيلة التوليد الذاتى لإدامة الانتفاضة واستمراريتها ، وإنه إذا رحل الاحتلال ومستوطنوه ، ولم يعد الاحتلال مستهدفاً المدنيين الفلسطينيين ، فالمقاومة لن تكون معنية بمهاجمة المدنيين الإسرائيليين . وأخيراً فإن الانتفاضة فرضت حرب استنزاف ، سياسية وعسكرية وبشرية واجتماعية واقتصادية ، تنذر باستمرارها بإحداث تغييرات وتحولات نوعية عميقة داخل الكيان الصهيونى ، فللمرة الأولى ، منذ النكبة ، ينظر الإسرائيليون إلى المستقبل بتوجس وقلق ، ويتزايد الشعور بالخوف وافتقاد الأمن والحياة الطبيعية ، وينخفض الأداء الاقتصادى ، ويتحول المهاجرون إلى الخارج بدلاً من التوجه إلى الداخل . وهكذا باتت الانتفاضة ، دون تهويل ، أكبر تهديد وجودى للدولة العبرية ، سواء على مستوى الاستيطان أو نقل المواجهة إلى داخل العمق الإسرائيلى .

ومن المؤشرات التى تدعم ذلك ما يلى :

1. أن ضربات المقاومة المسلحة ضد المستوطنات أدت إلى اضطرار إسرائيل إلى توجيه قوات إضافية وتقديم سيارات مصفحة لعائلات المستوطنين لحمايتهم من ضربات المقاومة . وبدلاً من أن يمارس المستوطنون دور الحصون المتقدمة والريادية فى حماية الدولة العبرية ، باتوا ، رغم ارتفاع مستوى تسليحهم عبئاً على الدولة ، مما يصب عملياً فى اتجاه فشل المشروع الاستيطانى والإحلالى الصهيونى وإفلاسه .

2. تكدير الحياة الطبيعية ، حيث لم يعد هناك مقهى أو مطعم أو محل تجارى فى إسرائيل ، إلا وهو تحت الحراسة الأمنية طيلة 24 ساعة ، بكل ما يعنيه ذلم من أعباء وتوتير للحياة اليومية .

3. تصاعد منحنى الخسائر البشرية الإسرائيلية ، فمنذ بدء الانتفاضة فى 28 سبتمبر 2000 وحتى الآن ، بلغت قتيلاً ، ما بين جنود ومستوطنين ومدنيين ، وبنسبة 1 : 4 على الجانب الفلسطينى ، رغم تفاوت موازين القوى .

4. زيادة مؤشرات الإنهاك داخل الجيش الإسرائيلى ، حيث ازدادت نسبة الاحتياط ، وهو ما يكلف ملايين الدولارات ، ويؤثر على استعدادات الجيش القتالية لخوض أى معارك مقبلة على جبهات أخرى . فضلاً عن تزايد أعداد رافضى الخدمة العسكرية الإلزامية فى جيش الاحتلال فى المناطق المحتلة لأسباب ضميرية .

5. دفعت الانتفاضة الكيان الصهيونى إلى استخدام أقصى العنف ضد المدنيين وبما أثر على صورة إسرائيل وادعاءاتها بالخارج ، وأظهر طبعيتها العنصرية والتمييزية ، وهز من مصداقية دعايتها ضد الفلسطينيين .

6. زيادة خسائر الاقتصاد الإسرائيلى ، حيث تعرض لأزمة حادة غير مسبوقة ، تجلت مؤشراتها على انخفاض الناتج المحلى الإجمالى ، وقطاعات الاقتصاد ، من زراعة وصناعة وتجارة وسياحة وخدمات ، وعلى سعر صرف الشيكل ، وانخفاض الدخل الفردى ، وارتفاع معدلات البطالة ، نتيجة فقدان الأمن والاستقرار ، وللمرة الأولى منذ عام 1953 .

-4-
نالت العمليات الاستشهادية والفدائية النصيب الأكبر من حملات الهجوم والإدانة ، بفعل قدرتها على تحقيق ما يمكن تسميته " بتوازن الرعب " المقابل ، أو الردع المتبادل ، حيث منطق أن كل خسارة تلحقها إسرائيل بالجانب الفلسطينى يترتب عليها خسائر مقابلة فى " الداخل " الصهيونى ، وأن الفلسطينيين يمتلكون القدرة على الايلام والإيذاء ، واعتماد استراتيجية الاعياء التى تعمل على تآكل إرادة العدو الصهيونى على الصمود والنيل من معنوياته ، حتى يرضخ بالتنازلات ، لاسيما وأن هذا الكيان الصهيونى ، فعلاً ، ليس بمقدوره تحمل حرب استنزاف طويلة الأمد ، مهما حاول الإيحاء بغير ذلك ، كما أن الفلسطينيين لن يكونوا وحدهم الضحايا ، وأن " أمن " الدولة العبرية لن يتحقق إلا عبر كفالة أمن الآخرين ، خاصة فى ظل قدرة المقاومة على هز اليقين الصهيونى ، وأن منطق الإستقواء بالسلاح وإفرازات وتجليات القوة لا يوفر الأمن والسكينة الداخلية بالمطلق ، حيث صدرت المقاومة الخوف إلى العمق الصهيونى ، وأن الذى يتمدد فوق جثة شعب أخر وأشلائه ، لن يستقيم له الأمان . وتعاظمت شعبية فصائل المقاومة ومنطقها وبرنامجها ، وجدوى هذه العمليات من منظور القدرة على التصدى لصلف وعنجهية المستوطنين وجنود الاحتلال ، وأنها أكبر مصدر للقوة الفلسطينية فى هذه المرحلة من مراحل الصراع . والثابت أن الانتفاضة والمقاومة المسلحة قدر وخيار وجودى للشعب الفلسطينى فى حرب شرسة فرضت عليه . وتلتاع إسرائيل اليوم بجزء يسير فما أذاقه الصهاينة للفلسطينيين ، ومازالوا ، وكأن على الضحية الفلسطينى أن يطعن .. ويذبح ، ويموت فى هدوء ، ومن دون أنين أو مقاومة ، حفاظاً على سكينة الجزار وهدوء أعصابه !!

ويتوجب التصدى لدعوى " أخلاقيات العمل المقاوم " ، بتعمد إعمال مبدأ التبادلية ، بالحديث عن أخلاقيات دولة الاحتلال ، وانتهاكاتها وخروقاتها المتواصلة لقواعد القانون الدولى والإنسانى . وفى ظل حقيقة أن القداسة تظل وحدها لهدف تحرير التراب الوطنى ، وعدم سحب بعض من خصائص وسمات الهدف على الوسائل وبعض أشكال النضال وأدواته ، وهى التى تتسم بالتنوع والتعدد والمرونة والقدرة على التكيف مع مستجدات الأحداث ، من حيث الحصانة والتماسك والاستمرار وعدم القابلية للتغيير .

وبالتداعى المنطقى ، فإن العمليات الاستشهادية والفدائية آداة من أدوات المقاومة وشكل من أشكالها ، وتقع ضمن مجموعة من الأشكال والأدوات المتنوعة التى يمكن الاجتهاد فيها ، وإبتداع أشكال اضافية وجديدة منها تتناسب وطبيعة المرحلة التى تمر بها عملية المقاومة ، ورفض اصباغ القداسة عليها ، وعدم التخندق وراء شكل من أشكال النضال المسلح ، شريطة أن تتوافر للبدائل الأخرى القدرة على تحقيق الهدف المركزى وهو دحر الاحتلال .

وبالتالى فإن الأمر لا يتعلق بمحاكمة مبدأ المقاومة وخيارها فى حد ذاته ، ولكن التعاطى مع كل ما من شأنه بلوغ هدف تحرير التراب الوطنى . وتتبدى حقيقة محدودية الخيارات أمام الشعب الفلسطينى ، فإما المقاومة أو الإستسلام والإذعان . ومثلما تتزايد الدعوة إلى أهمية اتفاق الفصائل كافة على استراتيجية مشتركة لدعم قضية التسوية ، فإن الضرورة والمنطق ذاته تقتضى حل إشكالية – المقاومة ، والتوافق على برنامج موحد للانتفاضة والمقاومة فى موازاة جنوح شارون إلى مزيد من التطرف وتضليل صناع القرار فى الساحة الدولية فى ما يتعلق بنياته الحقيقية لدفع عملية السلام مع الفلسطينيين ، وإذا كان الأمر قد احتاج كل هذا الجهد وتلك الضجة لدفع شارون لمجرد القبول بالخارطة ، كإطار للتسوية ، ورغم عوراتها ، فماذا سيتطلب الأمر من شارون لتنفيذها ؟! ونواياه للدخول فى اتفاق مرحلى طويل الأمد ، وفرض مرجعية التفاوض ، بإرادة الطرف الصهيونى وحده ، ومن ثم فرض المزيد من الإملاءات ، وغياب قاعدة التلازم والتوازى فى تنفيذ الاستحقاقات ، وليس التوالى ، ووفق التقييم الصهيونى – الأمريكى ، وحدهما ، لمدى تنفيذ الجانب الفلسطينى لاستحقاقاته، خاصة على الجانب الأمنى ، ومخاطر "وتلحيد " السلطة وقصر دورها على كفالة الأمن المطلق للإسرائيليين ، حتى ولو كان هذا على حساب أمن شعبها وحقه المشروع فى الدفاع عن النفس . ولا يعتد بهذا الخصوص ، بأن موازين القوى لا تتيح للجانب الفلسطينى أدنى أمكانية لفرض شروط أو ملاحظات ، وأن دعاوى الواقعية والعملية تحتم الدخول فى لعبة المفاوضات ومزيد من احراج شارون ، والثابت أن المرونة لا تعنى التنازل الطوعى عن الحقوق المشروعة غير القابلة للتصرف ، وبالتالى إدراك مخاطر إعادة تجربة المجرب خلال نحو عقد سابق ، لم يفرز سوى الفشل الذريع والمزيد من التنازلات .

والقول الخاتم، أن ثمة مسئولية جماعية لتطوير الحوار الوطنى الفلسطينى دون مبادرة ومسعى أى من الأطراف لتجريد الأخرين من خياراتهم وقناعتهم . ومن الخطأ الجسيم التعويل على الذهنية الأمنية لتطويع المقاومة وتفريغها من مضمونها ، ودفعها تحت " طربوش " السلطة ، بدعوى وحدانيتها ، وقرارها ، أى وضع حد للفوضى الأمنية ، فما هو يستحق التركيز وتكثيف التصويب نحوه ، هو وضع حد للاحتلال ودحره ، وتظل المشروعية للمقاومة ، طالما تواجد واستمر الاحتلال.

والشعب الفلسطينى مازال فى مرحلة تحرره الوطنى ، ولم يبلغ مرحلة الدولة المستقلة ذات السيادة الكاملة بعد ، ولا يجوز الخلط بهذا الشأن . وبالتالى ، فكل البنادق نحو العدو ، ومادون ذلك تصويب خارج الهدف .
.

التعليقات