31/10/2010 - 11:02

بجرّة قلم "العالم الحر" / د. مجيد القضماني

بجرّة قلم

في محمية بيلوفيجية الواقعة وسط الغابات البيلاروسية، اجتمع عام 1991 قادة ثلاث جمهوريات سوفياتية: الرئيس الروسي، يلتسين والرئيس الأوكراني، كرافتشوك ورئيس برلمان بيلاروسيا ( لم يكن فيها منصب رئيس الجمهورية ) شوشكيفيتش وبعد مناقشات لم تستغرق سوى ساعات وقع الثلاثة اتفاقا يقضي بتفكيك الدولة السوفياتية! هكذا أعلن عن إلغاء كيان امتد تاريخه مئات السنين وتم تجاهل إرادة 75% من سكان الاتحاد السوفيتي الذين كانوا قبل تسعة اشهر فقط قد صوتوا لصالح بقاء الدولة الموحدة ..هكذا، بجرة قلم، قلبت موازين القوى والمعادلات الاستراتيجية..!

وها نحن الان نتابع مشهدا مشابها بنتائجه وان اختلفت حيثياته: يتم تجاهل رغبة أغلبية سكان أوكرانيا عبر التشكيك في مصداقية الانتخابات بهدف تسليم السلطة للمعارضة..! الديمقراطية كما تفهمها واشنطن خلقت لخدمة " العالم الحر " وما أن تتوقف عن تلبية هذه المهمة حتى تصبح " عبئا " ونتائجها باطلة وزائفة. فـالديمقراطية لهم وحدهم..!

النموذج الأوكراني يكشف مجددا ان "جشع" الولايات المتحدة لا يعرف الحدود وان التنازلات التي قدمتها كييف غير كافية. فالسياسة الاستعمارية الأمريكية تتجاوز فرض السيطرة المطلقة على أوكرانيا وإخضاع قدراتها الجيوسياسية للمصحلة العليا الأمريكية، فهزيمة " الإصلاحيين " في روسيا اخذ بإرساء بداية تحولات كبرى في الفضاء المتخلف عن انهيار الاتحاد السوفيتي وفي حال تمكنت القيادات الجديدة في موسكو من استعادة إرادتها وتدعيمها بإستراتيجية واضحة وشجاعة فان التكامل بين الجمهوريات السوفياتية السابقة قد يصبح في غضون سنوات واقعا فعليا وقد يتحول إلى كونفدرالية ولكن لتحقيق التكامل يقتضي في المقام الأول استقرارا سياسيا وتحركا اقتصاديا وتهيئة نفسية هادئة مدروسة..وهذا هو بالضبط ما لا تريده واشنطن. وهنا تبرز أهمية أوكرانيا فهي ثاني اكبر جمهورية بعد روسيا والنزعات السلافية الموجودة داخلها في المنطقة الشرقية سوف تدفع باتجاه المزيد من التقارب مع روسيا ولما كانت الأخيرة قد قادت عملية التفكيك عام 1991 فإنها قادرة على تزعم حركة في الاتجاه المعاكس وتكوين نواة تضم الجمهوريات القريبة منها جغرافيا أو اقتصاديا.

حاليا الكثيرون يتناسون ان الدولة الأوكرانية المعاصرة هي نتاج السلطة السوفياتية ووحدة الشعب الأوكراني تمت بعد انقطاع دام مئات السنوات، وفقط في إطار الاتحاد السوفياتي أصبحت أوكرانيا دولة في الأمم المتحدة واليوم وبعد 13 سنة على تفكك الدولة السوفياتية اصبح واضحا ان بقاء أوكرانيا في شكلها الحالي بات إشكالي ولهذا يعد لها دور "حصان طروادة" في أوروبا لتطبيق وتجسيد مصالح الولايات المتحدة الأمريكية.. فعدم انصياع ألمانيا وفرنسا لسياسة واشنطن تدفع بالأخيرة للإصرار على إسقاط أوكرانيا وضمها لنادي "أوربا الجديدة" المؤلف من الدول الاشتراكية السابقة برئاسة بولندا وليس صدفة أن يكون رئيس بولندا السابق وزعيم حركة التضامن "الشهير" ليخ فالنسا هو أول من وصل إلى العاصمة الأوكرانية "لادارة المفاوضات بين المتنازعين على السلطة!" ليتبعه لاحقا الرئيس الحالي لبولندا كفاسنفسكي .

بولندا التي جهدت بتسويق نفسها كحليف مواظب للولايات المتحدة في الحرب على العراق تؤكد مجددا أنها راس الحربة وعرّاب السياسة الأمريكية في أوكرانيا. وليس سرا أن سيناريو أزمة ما بعد الانتخابات الأوكرانية اعد في البيت الأبيض وان أموالا أمريكية هائلة تصرف على هذه العملية وحول هذا يتحدثون في الصحافة الروسية والأجنبية بصراحة وبدون أي مواربة وافضل من بولندا لن يجد الأمريكان من يقوم بتنفيذ هذه السياسية.

توق شعوب الاتحاد السوفياتي السابق للوحدة يبدو جليا. بسطاء الناس يعرفون أن الروس والأوكرانيين والبيلاروس هم شعب واحد تجمعهم ذاكرة تاريخية مشتركة وحضارة واحدة وانتصارات مشتركة توجت بالانتصار التاريخي في مايو 1945 ضد الفاشية الألمانية. ومن جهة أخرى، القوى الخارجية وحلفاؤهم في الداخل يبذلون ما بوسعهم للإساءة لهذه الذاكرة التاريخية المشتركة بهدف إعاقة هذه الشعوب من توحيد دولها وإمكاناتها ومن الواضح انه بدون سياسة اندماجية لن تتمكن هذه الدول من استعادة عافيتها وهو ما تريده واشنطن لتثبت خططها في الهيمنة على خيرات ومقدرات هذا العالم.

الدراما الانتخابية في أوكرانيا تؤكد أن القوى التي لعبت الدور الأكبر في تفكيك الاتحاد السوفيتي لا تزال مستمرة في حربها ضد الشعوب التي لا تخدم مصالحها استراتيجيتهم. فالولايات المتحدة التي غدت القوة الأعظم الوحيدة في العالم لا تريد، بالتأكيد، قيام تحالف إقليمي يغدو محورا منافسا لها، خاصة وان واشنطن لعبت دورا كبيرا في إنهاك هذه الدول وعملت في داخلها على زعزعة الوحدة الداخلية وتنشئة ودعم نخب موالية لها. كل هذا يحدث في دول لها كياناتها المستقلة، فما الذي ستتمخض عنه الانتخابات في العراق و فلسطين وهي تخضع للاحتلال المباشر..!؟

التعليقات