31/10/2010 - 11:02

تقييد حرية الرأي والتعبير/نزار ايوب*

تقييد حرية الرأي والتعبير/نزار ايوب*
تندرج حرية اعتناق الآراء ضمن الحريات المنصوص عليها في معظم الدساتير والقوانين الداخلية للدول، باعتبارها حرية مطلقة تقع خارج نطاق تدخل الدول والأفراد. ولعل ما يكرس هذه الحقيقة ويحمل على الاعتقاد بها، هو السياق الذي صيغت عليه نصوص الدساتير والمواثيق المختلفة التي تناولت هذه الحرية.

لقد أشاد المجلس الدستوري الفرنسي بأهمية الحق في التعبير عن الآراء التي يلجأ عادة لتسميتها حرية المعلومات، فأكد على إن حرية التعبير عن الرأي تعتبر بمثابة "حرية أساسية ذات قيمة، وأن ممارسة هذا الحق هي إحدى الضمانات الأساسية لصيانة حقوق الأفراد والسيادة الوطنية" (قرار المجلس الدستوري الفرنسي الصادر في 19 - 20 أكتوبر 1984).

وبموجب القرار الصادر في 27 تموز/يوليو 1982، اعتبر المجلس الدستوري الفرنسي أن الحق في التعبير عن الرأي "لا يتصف بالشمولية وهو ليس مطلقاً" لأن تحقيقه مرتبط بالإيفاء بمجموعة من المتطلبات" (القرار الصادر عن المجلس الدستوري في تاريخ 18 أيلول/سبتمبر 1986).

هذا ما أكد عليه الدستور الجديد للاتحاد السويسري المعمول به منذ أول يناير 2000، حيث نصت المادة (16) منه على مبدأ حرية الرأي والمعلومات كالتالي:
1- يكفل الدستور حرية الرأي والمعلومات.
2- لكل شخص الحق بتكوين رأيه والتعبير عنه ونشره بكل حرية.
3- لكل شخص الحق في تلقي المعلومات والحصول عليها من مصادر المعلومات العامة ونشرها بكل حرية.

فحرية التعبير هي كغيرها من الحقوق والحريات التي تفرض عليها ضوابط وقيود ترمي لضبطها وذلك للحيلولة دون استغلالها على وجه مغاير للغايات التي أقرت من أجلها. فطبقاً المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، استحدثت بعض القيود التي من شأنها ضبط ممارسة الأفراد لهذه الحرية وذلك في الحالات التي تستدعيها الضرورة، شريطة أن تستند إلى نصوص قانونية محددة. وتهدف الضوابط والقيود المنصوص عليها في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والمقرة وفقاً للتشريعات المحلية لضمان عدم مساس الأفراد حال ممارستهم لحريتهم في التعبير عن آرائهم بالحقوق والحريات الأساسية للآخرين.

تتوضح الإشكاليات عند ممارسة الأشخاص لحرية التعبير عن آراءهم السياسية، حيث تحرص الدول على سن القوانين التي تحول دون ممارسة الأفراد والجماعات لحقها في التعبير عن هذه الآراء في حال تعارضها مع التوجهات السياسية للسلطة، أو مع أيديولوجية الدولة، مما يفقد الممارسة الديمقراطية فحواها.

يشمل الحق في التعبير عن الرأي، حرية الفرد "في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين دون ما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أ‘خري يختارها" (المادة 19 فقرة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية)، فهنالك ارتباط وثيق بين حرية الرأي، وبين الحق في استقاء المعلومات بصفتهما الضمانة الأساسية لحرية التعبير، والأساس لها.

فكي يستطيع الإنسان التعبير عما بداخله يحتاج إلى تكوين هذا الداخل الفكري، ولتحقيق ذلك يحتاج للوصول لمختلف أنواع المعلومات وتلقيها بحرية، سواء أكانت مكتوبة أو مسموعة أو مرئية. ومن هنا فإن احتكار وحجب أو مصادرة مصادر المعلومات بواسطة إغلاق محطات المرئي والمسموع أو التشويش عليها أو منع صدور وتداول المطبوعات يعتبر انتهاكاً لحرية التعبير عن الرأي كون ذلك يهدف لحجز مصادر المعلومات اللازمة لتكوين الرأي بحرية ومن ثم التعبير عنه بحرية أيضاً. كما أن مصادرة حق الإنسان في الكتابة أو الخطابة أو الرسم أو التعبير بطرق فنية أو غيرها يمثل اعتداءً على حرية التعبير عن الرأي.

وتكفل الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لسنة 1950 هذه الحريات، فالمادة العاشرة من الاتفاقية تنص على أنه "لكل إنسان الحق في حرية التعبير. هذا الحق يشمل حرية اعتناق الآراء، وتلقي وتقديم المعلومات والأفكار دون تدخل من السلطة العامة ، وبصرف النظر عن الحدود الدولية وذلك دون إخلال بحق الدولة في أن تطلب الترخيص بنشاط مؤسسات الإذاعة والتلفزيون والسينما"

ووفقاً للاتفاقية الأوروبية، تتطلب ممارسة حرية الرأي والتعبير من الأفراد الوفاء ببعض الواجبات، وتحمل المسؤوليات، وبالتالي جواز إخضاعها لشكليات إجرائية، ولبعض الشروط القيود حسبما تقتضيه الضرورة في مجتمع ديمقراطي، لصالح الأمن القومي، وسلامة الأراضي، وأمن الجماهير وحفظ النظام ومنع الجريمة، وحماية الصحة والآداب، واحترام حقوق الآخرين، ومنع إفشاء الأسرار، أو تدعيم السلطة وحياد القضاء.

وقد أبرزت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان مدى أهمية حرية التعبير كأحد مميزات المجتمع الديمقراطي فإقرارها أنه... "يتعين على المحكمة أن تذكر بأن الحق في التعبير عن القنا عات المجسد في المادة العاشرة من الاتفاقية الأوروبية، يعتبر بمثابة واحدة من أهم الركائز الأساسية للمجتمع الديمقراطي وواحدة من الشروط الضرورية لضمان تطوره والتعبير الذاتي عن كل إنسان. ومع الأخذ بعين الاعتبار نص الفقرة الثانية من المادة العاشرة للاتفاقية التي تنطبق ليس فقط على "المعلومات" أو "الأفكار" التي تحوز على رضا الدولة وتعتبر بمثابة المحايدة، بل تلك التي تثير حفيظة الدولة وتزعلها، وتثير الفئات الاجتماعية المختلفة. هذه هي متطلبات الليبرالية، الصبر واتساع مدى التفكير التي بدونها ينتفي " لمجتمع الديمقراطي".

وتؤدي الصحافة بكافة أشكالها - المكتوبة والمسموعة والمرئية- دوراً أساسياً يفسح للأشخاص المجال لممارسة حقهم في حرية التعبير. وتبرز أهمية قرار المحكمة الأوروبية في القضية المذكورة أعلاه بانعكاساته الإيجابية على الصحافة، التي ينحصر دورها الأساسي في نقل وتبليغ المعلومات والأفكار ذات العلاقة بالمسائل السياسية والقضايا الأخرى التي تنطوي على أهمية اجتماعية، فالصحافة مطالبة بإذاعة المعلومات والأفكار ومن حقها القيام بذلك لأنه من حق المجتمع بجميع شرائحه معرفتها وتلقيها، إضافة للفرص التي توفرها حرية الصحافة لكافة الشرائح الاجتماعية لمعرفة الأفكار والنظريات التي ينادي بها القادة السياسيون بما يمكنهم من تحديد موقفهم منها. لذلك يمكن القول، أن حرية الحوار ذو الطابع السياسي هي بمثابة أهم الركائز التي تميز نظرية المجتمع الديمقراطي.

وقيما يتعلق بالقيود التي تضعها القوانين على حرية الأفراد في ممارسة حقهم في التعبير عن آرائهم، فلها تبريرات عديدة، فمعظم القوانين التي تضمن حرية التعبير عن الرأي تحظر التعرض لسمعة الآخرين. وبموجب نص الفقرة الثانية من المادة العاشرة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، تم وضع قيود على ممارسة حرية التعبير عندما يتعلق الأمر بالمساس بسمعة الآخرين بما فيهم الزعماء السياسيين وذلك لرفع مستوى الحوار داخل المجتمع بين مختلف فئاته على تضارب أفكارها.
وتنعكس ملكية وسائل الإعلام على مستوى ممارسة الحق في التعبير عن الرأي، فهي تعكس الحقائق وتشوهها أحيانا، وتعطيها حقها وتطرحها بموضوعية أحيانا أخرى وهذا بدوره يعتمد على موقف مالك وسائل الإعلام والاتصالات -الدولة أم الأشخاص- من القضايا المطروحة، مما يفضي في كثير من الأحيان إلى تغيب الحقائق وطمسها، وإلحاق الأذى والظلم الشديدين بالشعوب وبالمجتمعات والأفراد، خاصة وأنه يتم توظيف وسائل الإعلام لاستخدامها في الهيمنة على عقول وتفكير الناس بالصورة التي تخدم مصالح وتوجهات الفئات الحاكمة، ومصالح الشركات العملاقة، ومصالح الأفراد المالكة لوسائل الإعلام، مما يؤدي بالناس إلى تبني أفكار تطرحها هذه الوسائل حتى وإن كانت تتناف مع مصالحهم الشخصية لدرجة أن ذلك أصبح ينطبق على جميع مناحي الحياة بدءاً بتنظيم الحملات الانتخابية داخل الدول وصولاً إلى القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تهم الدول والشعوب .

ويمثل تدخل الدولة، أو الشركات، أو الأفراد في وسائل الإعلام وتوجيهها في خدمة مصالحهم تهديداً للحق في التعبير عن الآراء، ففي كثير من الأحيان يتبع مالكو وسائل الإعلام أسلوب التحكم المطلق بالحياة الثقافية وبالأفكار السياسية للمواطنين، مما يجعل وسائل الإعلام مجرد آلة توظف في خدمة السياسة العامة التي تتبعها السلطة في سبيل ضمان استمرارية النظام السسياسي- الاقتصادي السائد، مما يؤدي إلى تهميش المعارضة السياسية فاسحاً المجال أمام السلطة لانتهاك الحريات الأساسية وحقوق الإنسان وفي مقدمتها الحقوق السياسية.

لذلك تبرز الضرورة الملحة لحياد واستقلالية وسائل الإعلام بما فيها الصحافة بكافة أشكالها، وعدم احتكارها من قبل السلطة والأفراد.ولتهيئة الظروف الملائمة للحوار السياسي، هنالك حاجة لتوفير المنابر الحرة والمتحررة من الاحتكار والسيطرة بما يمكن الجمهور التحاور بحرية.

ولضمان قيام المجتمع الديمقراطي وضمان استمراريته، ينبغي تفعيل الصحافة ووسائل الإعلام الحرة والغير منحازة لكي تؤدي دورها بصفتها المنبر الحر والمفتوح الذي يوفر للجمهور وللأحزاب والمؤسسات فرصة التعبير عن الأفكار وتبادل الآراء، وعرض وجهات نظرها السياسية المتباينة في سبيل التنافس على إقناع المواطن بوجهة النظر التي تعبر عن مصالحه وتطلعاته.

وللحد من السلبيات والمخاطر التي قد تنجم أحياناً عن ممارسة حرية التعبير، ودرء مخاطرها نتيجة نشر، أو إذاعة، أونقل الأنباء الخطرة على أمن الدولة والأفراد، قيدت المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وكذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والدساتير والقوانين الداخلية للدول حرية التعبير لتفادي إلحاق الضرر بحقوق أو سمعة الآخرين، أو بالأمن العام، أو بالنظام العام، أو بالصحة العامة، أو بالأخلاق.

غير أن السلطات غالباً ما تسيء استخدام القيود المنصوص عليها في القانون لتقييد حرية التعبير، وهذا لا يقتصر على الدول الفقيرة والنامية، بل أنه يحدث أيضاً في الدول المتطورة التي تتبنى مذهب الديمقراطية الليبرالية. ولتفادي ذلك، أوجب العهد الدولي أن تحدد القيود المفروضة على حرية التعبير بموجب نصوص قانونية على أن يتم تفعيلها في حالات الضرورة، وامتناع السلطة عن وضع هذه القيود بصورة تعسفية بما يراعي الفهم الديمقراطي لهذه المسألة.

ولضمان الممارسة الفعلية لحرية الفكر والعقيدة ولحرية التعبير عن الرأي، نصت الفقرة الأولى من المادة 20 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه "لكل شخص حق في حرية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية"، كما نصت عليه المادة 21 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على أن "يكون الحق في التجمع السلمي معترفاً به، ولا يجوز أن يوضع من القيود على هذا الحق إلا تلك التي تفرض طبقاً للقانون وتشكل تدابير ضرورية ، في مجتمع ديمقراطي ، لصيانة الأمن القومي أو السلامة العامة أو حماية الصحة العامة أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم ".

أن ممارسة الأفراد والجماعات والأحزاب السياسية للحق في التجمع السلمي تفسح أمامهم المجال للتعبير عن آرائهم من خلال التداول في مختلف المواضيع السياسية والاجتماعية وغيرها والتي تكون محط اهتمامهم . ومن هنا فأن الحق في التجمع السلمي الذي يمارسه الناس في الأماكن العامة أو الخاصة وعلى شكل تظاهرات وتجمعات، يعتبر ملازماً لحق التعبير عن الرأي . لذلك فأن الحق في التجمع السلمي يندرج ضمن الشروط الضرورية للممارسة الديمقراطية، حيث أن تغييب السلطة السياسية لهذا الحق يمس بالحملات الانتخابية وبنزاهة العملية الانتخابية ويجهضها.

غالباً ما تتم الدعوة للتجمع السلمي من أجل خدمة فعاليات ذات طابع سياسي، وأهم ما في الأمر أن الدعوة للتجمع السلمي حق للإنسان كما أن رفض المشاركة في التجمع أيضا من حقه. وفي كثير من الأحيان تدعو السلطة لاجتماعات بخصوص أمور سياسية أو أخرى، فيرفض الأفراد والأحزاب المشاركة فيها، وهنا فأنه ليس من حق السلطة معاقبتهم أو محاولة إجبارهم على المشاركة تحت التهديد بمعاقبتهم، كالفصل من الوظيفة، أو الحرمان من بعض الامتيازات التي يتلقاها المواطنين، أو التمييز بين أولئك الذين استجابوا لدعوة السلطة بالمشاركة، وبين الرافضين لهذه الدعوة لأنه من شأن ذلك أن يضع عوائق جدية قد تساهم في الحيلولة دون ممارسة أفراد المجتمع لحقهم المشروع في التعبير عن آرائهم.

التعليقات