31/10/2010 - 11:02

حرية وديمقراطية أمريكية/ أحمد الخميسي

حرية وديمقراطية أمريكية/  أحمد الخميسي

بعد أكثر من عشرين يوما من الحرب ، لم يجد الأمريكيون شيئا من أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق . ومع ذلك فإنهم يبررون استمرارهم في الحرب بقولهم : " من يدري ربما تكون مخبئة في مكان ما لم نكتشفه بعد " . ومادام الشك يساورهم – مجرد الشك – فإن من حقهم هدم المدن ، وقصف الآثار ، وفتح شريان كل مواطن عراقي بحثا عن الذريعة . وخلال ذلك أدرك العالم أن أسلحة الدمار الشامل الوحيدة التي كشفت عنها الحرب هي أسلحة الدمار الأمريكية . بسببها امتلأت مستشفيات العراق بالمصابين والنازفين ولم يعد ثمة مكان للجرحى الجدد . ويقول الأطباء العراقيون إنهم مذهولون من طبيعة الإصابات التي لم يشاهدوا مثيلا لها من قبل . إنها إصابات أسلحة جديدة غير معروفة .

بعد أكثر من عشرين يوما من الحرب شاهدنا على شاشات مختلف القنوات بما في ذلك القنوات الأمريكية كيف يحرر الأمريكيون الشعب العراقي . كيف يداهمون البيوت في البصرة ، ويجبرون العائلات البسيطة على الخروج والركوع في الشوارع ، وليس من بينهم أحد يشتبه في أنه قادر على أي شيء . رجل تجاوز الخمسين ، وزوجته ، وابنتاه ، وطفلان . خرجوا و أياديهم مرفوعة تحت رعب وتهديد السلاح ، ثم ركعوا جميعا يرتجفون تحت قدمي الحرية الأمريكية . وشاهدنا كيف يعامل الجنود الأمريكيون السكان المدنيين . وكيف يجبرونهم على خفض رؤوسهم بالضرب الوحشي ، ثم يقيدون أياديهم ، ويضعون رؤوسهم في أكياس مغلقة . شاهدنا جميعا مواطنا في هذه الحالة ، لم يظهر منه سوى يديه ، ترتجفان ، كجناحي طائر يودع الحياة . شاهدنا جميعا الأطفال الصغار وقد أحرقت جلودهم الغضة نيران التحرير الأمريكي ، وليس في أعينهم سوى الفزع . كتب الصحفي البريطاني المعروف روبرت فيسك يصف مشهدا من عملية التحرير تلك بقوله : " أمام عيني ، حولت قذيفتان أمريكيتان عشرين مواطنا عراقيا في شارع أبي طالب إلي أشلاء متطايرة قبل أن يتحرروا ".

بعد أكثر من عشرين يوما من الحرب شاهدنا جميعا الديمقراطية الأمريكية التي جاءت من بعيد على حاملات الطائرات وأجنحة الصواريخ والقنابل العنقودية الذكية لتدك كل شيء في حضارة يمتد تاريخها لعشرة آلاف عام . شاهدنا كيف تعد الديمقراطية الأمريكية لحكومة جديدة لم ينتخبها أحد سوى الإدارة الأمريكية ، وكيف سحبت هذه الديمقراطية بضغط من وزارة الدفاع جيرالدو ريفيرا مراسل قناة فوكس نيوز من العراق لمجرد أنه كان موضوعيا في تغطيته للحرب . وكيف طردت قناة " إن . بي . سي " الأمريكية الصحفي المعروف بيتر آرنيت في الأول من أبريل الحالي ، لأنه تجرأ وانتقد المجزرة الأمريكية في العراق .

بعد أكثر من عشرين يوما من الحرب فهمنا تماما الدوافع الأمريكية لبناء عالم آمن بدون أسلحة دمار ، والدوافع الأمريكية لتحرير شعب آخر ، واستوعبت لحوم أطفالنا الغضة دروس الديمقراطية . ومع الحرب اندلعت مئات من المعارك الفكرية الصغيرة والكبيرة في كل مجال تقريبا . وولدت آلاف الأسئلة تحت وهج القصف الذي أحال بغداد إلي شجرة عيد ميلاد متوهجة بالموت . وفي تلك الأثناء لم تتكرم علينا منظمات حقوق الإنسان المشبوهة بجمع مختلف الأسماء من الشرق والغرب على بيان لفضح ذرائع الحرب أو عملية التحرير أو جوهر الديمقراطية التي تأتي في ركاب الاستعمار . فقد احترفت تلك المنظمات الظهور فقط عندما يراد منها تمرير المقترحات السياسية الأمريكية والإسرائيلية ، أو تأييد برنامج كولن باول لإشاعة الديمقراطية في الشرق الأوسط بعدة ملايين من الدولارات .

اندلعت الحرب ، وثمة انطباعات ووقائع وتساؤلات كثيرة جديدة لا تنتهي ، لقد اختلف العالم عما كان عليه ، وسيواصل تغيره ، بغض النظر عن النتيجة العسكرية لتلك الحرب . كوريا تؤكد أن الحرب أثبتت أهمية المزيد من التسلح دفاعا عن النفس ، الهند تجرب صواريخ جديدة ، رئيس وزراء ماليزيا يصرح بأن هدف الحرب العدوانية هو تأمين إسرائيل أولا وقبل كل شيء . مظاهرات في كل مكان ، ومتظاهرون يتم قمعهم ، كتاب أمريكيون يصدرون بيانا بعنوان " لكي لا تكون أمريكا صانعة للشر في العالم " ، وزراء يستقيلون ، قوى سياسية قديمة وجديدة تنهض من العدم . دول كبرى تعيد ترتيب علاقاتها . وبوسع العقل أن يفسر ويحلل كل حدث على حدة ، وأن يتخذ منه موقفا . الأصعب ، والأكثر إرهاقا ، هو سعى العقل لاكتشاف العلاقة بين كل تلك الانطباعات على كل تلك الأحداث . وبعبارة أخرى : بحث العقل عن المعنى العام المشترك بين أجزاء وتفاصيل المشهد الكبير . هناك صلة مؤكدة بين كل تلك الوقائع ، وكلمة جديدة لا بد أن تقال : في الاقتصاد ، والثقافة ، والسياسة ، والتكنولوجيا ، والعولمة ، والضمير الإنساني . كلمة جديدة تماما ، لا يمكن لعقل واحد أن يكتشفها بمفرده ، ولا لفم واحد أن ينطقها بمفرده

التعليقات