31/10/2010 - 11:02

ما حضر في التقرير وما غاب / مراقب

ما حضر في التقرير وما غاب / مراقب
فيما عدا السجال السياسي القائم على الصراع على السلطة في ظل المتغيرات السياسة الدولية اساسا، اعتمدت المعارضة اللبنانية في توجيه اصابع الاتهام الى سوريا والى الأجهزة اللبنانية على فرضيات تم تقديمها على أنها قرائن بنيت عليها نظريات جنائية ذات طابع شعبوي تصلح للرواية في المجالس ويرددها القائل كأنه كان هناك.

ومنذ نشر تقرير ضابط الشرطة الايرلندي فتسجيرالد وتحوله الى سلعة في البازار السياسي اللبناني وتسخيره في خدمة نفس المواقف لم يعد بالإمكان تقييمه موضوعيا. فكل ما يقال ولا يقال الآن في لبنان يتم استخدامه في خدمة غايات مصاغة سلفا بناء على أهداف ومصالح سياسية. وبما أن المعارضة في حالة اندفاع يتوافق والهجوم الامريكي في كل مكان في المنطقة العربية فإن كل ما يصدر يعتبر سببا إضافيا للهجوم. وما صدر هو تقرير سياسي في طابعه واستنتاجاته وفي معظم صفحاته، وهو تقرير سياسي من ضابط شرطة ايرلندي، لا هو صاحب اختصاص في السياسة الدولية، ولا في الشأن اللبناني المحلي الذي يستعصي حتى على اصحاب الاختصاص، ولا في العلاقات السورية اللبنانية. مصادره السياسية هي الانطباعات التي تتركه فيه اللقاءات مع القيادات السياسية اللبنانية من موالاة ومعارضة، وهي كثيرة، وعدد مواقفها أكثر من عددها، وتبدل تحالفاتها أكثر من الاثنين. وحتى المختص كان سيجد صعوبة في جمع المواقف وتبويبها وترتيبها ووضعها في سياق تاريخ أصحابها وسيرهم الذاتية، فما بالك بغير المختص، وضابط الشرطة. هنا يطول الكلام.

يشمل التقرير تقييما سياسيا للوضع اللبناني يردد ادعاءات المعارضة الحالية، ونؤكد هنا على "الحالية"، وتقييما للعلاقة السورية اللبنانية.

كما يشمل تقييما للأجهزة الأمنية اللبنانية يلج باب التقييم الأكثر مهنية. ولا بد ان نعترف هنا أن أي موظف شرطة غربي قد يصعق من عدد الأجهزة الأمنية ذات العلاقة بالشأن الداخلي، ومن انعدام التنسيق بينها، ومن الفوضى التي تعم في ساحة جريمة كبرى واختلاط الأوامر، ورغبة كل آمر بإثبات نفسه وغيرها من مظاهر اختلاط الفوضى بالعفوية بضعف المؤسسة والتعليمات الخطية بالرجولة العربية المتمثلة بالسؤال "كلمة مين بتمشي؟"، بالولاءات السياسية. ولا بأس ان تجلب دولة عربية خبيرا أوروبيا يقيم لها عمل أجهزتها الأمنية ومدى انسجامه مع سيادة القانون ومدى توافقه مع ضرورة التصرف كمؤسسة. كل هذا قابل للنقاش وللاخذ والعطاء مع مواقف معارضة وطنية لبنانية لا بأس انها باتت قادرة على الكلام في مثل هذه القضايا. ولا بد لإصلاح الدولة، إن قامت به هي أو غيرها، أن يأخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار. هذا إذا كان الموضوع مسألة رأي.

ولكن التقرير تضمن معطيات وتحليلات تدخل ضمن اختصاص ضابط شرطة، وهي بالذات ما تم اهماله. ولا بد أن يلتفت أي تقييم جدي ونزيه لعمل وتقرير لجنة تقصي الحقائق الى عناصر جوهرية تدخل ضمن مهام اللجنة واختصاصها. ويفترض أن تكون هذه هي العناصر الصلبة الوحيدة في التقرير.

وأولا، يؤكد تقرير لجنة تقصي الحقائق ان التفجير كان افقيا كما ادعى المحققون اللبنانيون والخبراء الدوليون، وان العبوات كانت فوق الارض، وأن مسألة أن تكون السيارة البيك اب الميتسوبيشي البيضاء هي التي حملتها هي على درجة كبيرة من الاحتمال. نقول ذلك لأن هذا التقييم هو من اختصاص ضابط شرطة. وثانيا لأن المعارضة بنت غالبية نظرياتها المتداولة شعبيا على ان التفجير جاء من تحت الارض. وان مسألة السيارة والشريط المسجل هي فبركة من قبل أجهزة. وكلنا يذكر ابتسامات وسخرية ونكات بعض المعارضبن والإعلاميين من مسألة الشريط المصور والسيارة المفخخة والانتحاري. وهي النظرية الوحيدة التي يعتبرها التقرير مقبولة جنائيا. بعض عناصرها، التفجير فوق الارض، يعتبره مؤكدا ووجود قطع سيارة متفجرة ملتصقة بالسيارات الأخرى، وبعضها الآخر البيك اب الابيض المتحرك ببطئ في الشريط على درجة كبيرة من الاحتمال، وعناصر أخرى يلوم التحقيق الأجهزة انها لم تتابع التحقيق فيها بما فيه الكفاية والمقصود شريط الانتحاري الذي يعترف بتنفيذ العملية.

وكان النائب او الإعلامي المعارض يسهب في الحديث في التلفزيون وفي الجلسات عن أن معدي العملية اخترعوا موقع بناء وتصليح حيث لا يلزم، وأنه تم شق نفق تحت الأرض لوضع العبوات، والأهم من هذا كله، الضربة القاضية المنطقية، ان معدي العبوة أخذوا وقتهم في وضعها وتجهيز المكان لوضعها. والقرينة المفترضة هنا واضحة لا تناقش. من يستطيع ان يأخذ وقته لعدة ايام في بيروت لتجهيز مكان دون أن يثير الشبهة؟ الدولة. والدولة فقط. والتقرير ينسف كل هذا. إنه يقوض كل الفرضية وكل النظرية التي استخدمت في تدعيم آراء مسبقة قائمة على أية حال.

لم يقف احد من المعارضة وإعلامييها ليقول: "أخطأنا"، أو "كانت هذه نظرية خاطئة". لا أحد. فالاعتذار يخفف من الهجوم والاندفاع. لقد نشرت هذه النظرية مزاجا يدين سوريا ويدين الدولة. وقد نسف التقرير النظرية وبقي المزاج. ولا يقوم احد بالاعتذار عن ترديد ونشر هذه النظرية، او ليقول على الأقل أنها كانت نظرية مؤامرة من النوع الذي نعتت به نظريات الموالاة التي تتهم أعداء لبنان وسوريا باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. لا يجوز للعناصر الشريفة في المعارضة السكوت هنا. عليها ان تقول موقفها من هذا العنصر الجنائي المفيد قضائيا الوحيد في التقرير في سياق سعيها للتوصل الى الحقيقة، لا ان تكتفي بترديد تحليل سياسي لضابط شرطة سمعه هو أصلا منها.

ثانيا، غاب عن التقرير العنصر الثاني في دعاية المعارضة، والذي تم الاعتماد عليه لاتهام خصومها السياسين باغتيال الشهيد الحريري. ويتلخص هذا العنصر بأن التحريض على الرئيس الحريري من قبل وزراء وعناصر في الموالاة قد قاد الى الاغتيال. وما زالت هذه الدعاية تردد حتى اليوم. ولا بد ان قادة المعارضة قد رددوها أمام الشرطي الايرلندي. وهو لم يوردها في تقريره. سكت عنها. وهذا أمر ملفت. فقد ردد الرجل في تقريره حتى إشاعات عندما تعلق الأمر بالموقف من سوريا وسيطرة الأجهزة على البلاد، منها ما هو صحيح، ومنها ما يقترب من الصحة، ومنها ما هو خاطئ. وقد ردد إشاعات حول ما قله الرئيس السوري للشهيد الحريري في جلسة لم يحضرها غيرهما. ولكنه لم يردد، ولا حتى في شرحه للخلفية هذا الادعاء عن تحريض وزراء وتجريم مقولاتهم ضد الحريري كأنها مهدت للاغتيال. وليس صدفة أن تغيب هذه الادعاءات من التقرير. لماذا؟

لأن من يدعي ان الأجهزة قتلت الحريري، لا يمكن ان يستند الى التحريض، فالاجهزة لا تعبأ بالتحريض لكي ترتكب فعلتها. وربما تمهد لها حتى بمديح ضحيتها. الجريمة التي يمكن اسنادها او ردها الى تحريض وتعبئة عن خيانة الوطن وغيره هو شاب متحمس متأثر بالتحريض يستل مسدسا ويقتل من يعتبره خائنا او مارقا او ملحدا بفعل التحريض، أو مجموعة من الرعاع تتصدى له عفويا بالشارع بعد ان استمعت الى خطاب أو اثنين. ولكن ما العلاقة بين اتهام الأجهزة والدولة بالضلوع في مؤامرة اغتيال تم الاعداد لها، وبين التعبئة بالتحريض ونشر الاشاعات حول الضحية؟

يحق لحزب العمل الاسرائيل ان يتهم تحريض اليمين مثلا بالمسؤولية عن اغتيال رابين لان تعبئة اليمين ورجال الدين المتعصبين حسب نظرية معينة أدت بشاب أن يخطط لقتل رابين الذي اعتبره خائنا. ويصح هذا أيضا بالنسبة للرعاع الذين يخشاهم سياسي بعد التحريض عليه. ولكن هذا يتناقض مع تهمة موجهة للدولة المتهمة بالتحريض ذاته لا بالتعرض للتحريض والاندفاع الى ارتكاب جريمة بفعل التحريض.

لقد استعاض التقرير عن مقولة التحريض المنتشرة عند المعارضة بتبني تحليلها للخلفيات السياسية. وهو تحليل سياسي مختلف عليه. سقطت مقولة "أخذوا وقتهم في تحضير موقع الاغتيال"، وسقطت أيضا مقولة "التحريض"، وبقي فقط أن المعارضة تأخذ وقتها في التحريض في ظل هجمة أمريكية. وباتت بذلك تضيِّع حتى عناصر الحقيقة والصحة في موقفها، فليست كل ادعاءات المعارضة اللبنانية ضد الحكم باطلة، ولكن تمسكها بنظريات بنيت على فرضيات ينسفها تقرير فتسجرالد، واصرارها انها تعرف الحقيقة وهي تطالب بمعرفة الحقيقة، يصعب عملية الحوار مع ما هو صحيح في موقفها ويطرح أسئلة حول نوايا جزء منها على الأقل.

التعليقات