06/05/2019 - 14:10

"صراع العروش": لماذا قتل المؤلف نِد ستارك؟

نِد ستارك، شخصيّة مركزيّة في الكتاب الأوّل من سلسلة "أغنية الجليد والنار"

 

"قتلوا نِد ستارك!"

ما زلت أعتقد أنّ هذه اللحظة هي الّتي فهمت فيها، أنّ ما وقع بين يديّ ليس مُنتَجًا أدبيًّا عابرًا كغيره الكثير؛ فقد أحكم مؤلّفه، جورج مارتِن، صياغة عالم غنيّ بالتفاصيل بدرجة مذهلة. "أغنية الجليد والنار" هو اسم سلسلة روايات مارتِن، الّتي تشتهر اليوم، بسبب الإنتاج التلفزيونيّ، باسم "صراع العروش" أو "لعبة العروش"، وهو الكتاب الأوّل من السلسلة الروائيّة.

 

تفاصيل

أصدر مارتِن خمسة كتب ضمن سلسلة "أغنية الجليد والنار"؛ الأوّل "لعبة العروش"، والثاني "صدام الملوك"، ثمّ "عاصفة السيوف"، و"وليمة للغربان"، و"رقصة مع التنانين"، لكنّ السلسلة لمّا تكتمل بعد؛ فثمّة كتابان هما "رياح الشتاء"، و"حلم بالربيع" لمّا يُصدَرا.

 

 

وجّه الكثير من قُرّاء الكتب النقد إلى مارتِن وتذمّروا منه، لأنّ أحداث المسلسل التلفزيونيّ سبقت أحداث الكتب، فأفسدت الأخيرة، ولكن مع ذلك، ثمّة أصوات تقول إنّ أسلوب كتابة مارتِن المُفصّل بشدّة، سيحمي كتبه القادمة من إفساد المسلسلات للأحداث المستقبليّة.

من مزايا هذا التفصيل في كتابة مارتِن، تعدُّد الشخصيّات الّتي تَجول في عالم الجليد والنار؛ ولكي يمنح القارئ الإمكانيّة للتعاطف مع أكبر طيف من الشخصيّات، وفهم دوافعها وأفكارها؛ انتهج مارتِن أسلوب الرواية من وجهة نظر الشخصيّات.

 

شخصيّات... بلا حماية

آلاف الأصوات تصرخ، لكنّ آريا لم تسمعها قطّ، الأمير جوفري... لا، الملك جوفري... أقبل من خلف أتراس الحرس الملكيّ. "أمي تريد أن أسمح للورد ستارك أن يرتدي الأَسود، والآنسة سانسا توسّلت لأعفو عن أبيها"، ثمّ نظر مباشرةً إلى سانسا، وابتسم، ولوهلة اعتقدت آريا أنّ الآلهة استجابت لصلواتها، إلى حين أن التفت جوفري إلى الجماهير، وقال: "لكنّهنّ ذوات قلوب رقيقة نسائيّة، وما دمت أنا مَلِككم؛ فالخيانة لن تمرّ بلا عقوبة. سير إلين، أحضِر لي رأسه!".

السير إلين سَلّ سيفًا عظيمًا يُحمَل باليدين الاثنتين، من الغمد الّذي حمله على ظهره، وحين رفع السيف فوق رأسه، بدت أشعّة الشمس كأنّها ترقُص، وتموج على امتداده وإلى أسفل المعدن الداكن، تلمع على نصله الّذي بدا حادًّا أكثر من أيّ موس، ثلج، فكّرت، هو لديه ثلج! دموعها تنهمر على وجهها، تعمي بصرها.

 

بهذه الكلمات وصف جورج مارتِن، في الكتاب الأوّل من السلسلة، "لعبة العروش" (ص 702 - 703)، وصف مشهد إعدام نِد ستارك، اللورد الشماليّ العظيم والحكيم، الّذي بدا كأنّه أحد أهمّ شخصيّات القصّة، من وجهة نظر ابنته آريا ستارك، الّتي كانت طفلة صغيرة جدًّا في تلك الفترة. هذا المشهد الأوّل من مشاهد عديدة غيره، رمَز بها مارتِن لقُرّائه بأنّه لن يحمي شخصيّاتهم المفضّلة بكلّ ثمن، وأنّ ما يجب أن يحدُث سيحدُث بلا أيّ تشويهات وتلاعبات بقوانين عالمه المُحكمة ببراعة. أذكُر أنّ هذا الموت جعلني أفقد الأمان الاعتياديّ المريح، الّذي أشعر به حين أستهلك أيّ إنتاج أدبيّ قصصيّ، به أكون متيقّنًا من أنّ البطل والخير سينتصران، مهما حدث ومهما بدت الظروف صعبة ومأساويّة. جورج مارتِن جعلني أشعر بأنّ ثمّة احتمالًا حقيقيًّا لموت الأبطال، وبأبشع الطرق وأصعبها.

 

جورج مارتِن، مؤلّف سلسلة "أغنية الجليد والنار"

 

ثمّة مَنْ تساءل عن دوافع مارتِن لقتل شخصيّاته، ولهذا التساؤل أجاب مارتِن مباشرةً في إحدى المقابلات المصوّرة معه: "لا أستمتع بقتل الشخصيّات، لكنّي أعتقد أنّ من واجبي فعل ذلك. فالار مورغوليس، كلّ الناس نهايتهم الموت، أعتقد أنّه - الموت - جزء من الحياة... ومنذ ’تولكين’، الكثير من الأدب الخياليّ الملحميّ كان حول الحروب، وإذا أردت أنا أو أدباء غيري الكتابة عن الحرب، فلذلك ينبغي أن نتناول الحرب بصراحة وبلا تجميل. وشيء مؤكّد أعرفه عن الحرب، أنّها تستطيع إظهار الطبع الوحشيّ للإنسان، وأنّ هناك احتمالًا حقيقيًّا بأن يموت أيّ أحد... وأنا سئمت الكتب والأفلام الّتي أشاهد بها البطل وكلّ أصدقائه، يمرّون بالمخاطر والظروف كلّها، ولا يموت أحد منهم... أريد قُرّائي أن يشعروا بالخوف في المشاهد الّتي يجب أن تُخيفهم، وليس أيّ خوف، ليس ذلك الخوف الّذي نشعر به عندما نركب الملاهي، حين نكون واثقين بأنّنا سنكون على ما يُرام في نهاية المطاف، أريد خوفًا من نوع آخر يمكن تجسيده بخوف حقيقيّ على حياتك. وعندما تموت إحدى الشخصيّات، أريد قُرّائي أن يشعروا بالأسى العميق. الأدب هو حول المشاعر القويّة".

 

إعادة تعريف التعاطف

قد تكون أكثر اللحظات حُزنًا وخوفًا، في رحلة قراءة سلسلة "أغنية الجليد والنار"، مشهد "الزفاف الأحمر"، الّذي قصّه مارتِن من منظور شخصيّة كيتلين، زوجة نِد ستارك (كتاب "عاصفة السيوف"، ص 704):

رجُل في درع داكن، ورداء زهريّ شاحب مرقّط بالدم، خطا تجاه روب، "جيمي لانيستر يبعث سلامه"، ثمّ أولج سيفه عبر قلب ابنها، وبَرَمه.

روب كسر وعده، ولكن كيتلين حفظت وعدها. شدّت شعر إيجون بقوّة، وذبحت رقبته حتّى حتّت السكّين عظمه. الدم الدافئ جرى عبر أصابعها، أجراسه الصغيرة كانت ترنّ، ترنّ، ترنّ، والطبول تقرع بوم، بوم، بوم.

في النهاية، أبعد أحدهم السكّين عنها، الدموع حرقتها مثل الخَلّ حين انهمرت على وجهها، عشرة غربان عنيفة مشّطت وجهها بمخالبها الحادّة، تُمزّق خطوطًا من اللحم، تاركة تجاعيد عميقة تمتلئ باللون الأحمر من الدم، استطاعت تذوّقه على شفتيها.

ما أشدّ الألم! قالت لنفسها، أطفالنا، نِد، كلّ أطفالنا الجميلين: ريكون، بران، آريا، سانسا، روب... روب... رجاءً، نِد، رجاءً، اجعله يتوقّف، اجعل الألم يتوقّف... الدموع البيضاء والحمراء امتزجت؛ حتّى أصبح وجهها ممزّقًا وباليًا، الوجه الّذي أحبّه نِد.

 

كيتلين في مشهد "الزفاف الأحمر"

 

ليس مصادفةً أن اختار مارتِن وصفَ مشهد اغتيال ما تبقّى من جيش الشمال وعائلة ستارك، من منظور الأمّ؛ فكما ورد سابقًا، هو يريد أن يأخذ قُرّاءه إلى حافّة قدرة التحمّل، يريد أن يغمرهم بطيف المشاعر من الأسى والخوف والحُزن، وحتّى إلى مرحلة جنون أمّ تشهد اغتيال ابنها البِكر، الّذي لم يبقَ غيره.

مارتِن بهذه المشاهد عرّف التعاطف في الأدب الخياليّ من جديد. بعدما انتهى هذا الفصل من منظور كيتلين، وهو الفصل الأخير من منظورها، بعد ثلاثة كتب وقرابة 2000 صفحة، يصف مارتِن آريا الّتي كادت تصل في الوقت إلى موقع الحادثة، تقف عاجزة من جديد أمام قتل أمّها وأخيها.

بعد 23 سنة من إصدار كتاب "صراع العروش" (1996)، شهدنا الأسبوع الأخير ذات الشخصيّة، الطفلة الصغيرة، الّتي وقفت صفر اليدين أمام إعدام أبيها الّذي أحبّته بشدّة آنذاك، ولم تستطع إيقاف ذبح أمّها وأخيها، تنقذ البشريّة أجمع في اغتيالها مَلِك الليل، حين كان يُقبل على إعدام أخيها بران، وهذا بعد سنين طويلة، من التدرُّب في فنون القتال المتنوّعة. هي عبقريّة جورج مارتِن في حرصه على تطوّر شخصيّات روايته، الّتي تشدّ القارئ أكثر وأكثر للقراءة... شاعريّة روائيّة.

 

محاكاة التاريخ البشريّ

هذا التسلسل للأحداث المصيريّة عبر شخصيّة آريا، وبأفكار القُرّاء ومشاعرهم، ليس إلّا تسلسلًا واحدًا من عشرات الحبكات الّتي يسردها مارتِن في أعماله؛ منها ما يتناول قضايا اجتماعيّة مثل النسويّة والشوفينيّة (في تناول سيرسي وآريا وبريان مثلًا)، ومنها ما يتناول الدين وظواهر التبشير، والعادات والتقاليد ، مثل سِفاح الأقارب، وغيرها... ومنها ما يتناول قضايا سياسيّة مثل اختلاف طرق الحكم، والاستشراق، والاسترقاق... حتّى تكتيك الحروب والتكنولوجيا؛ فثمّة مَنْ يدّعي أنّ التنانين تمثّل اختراع المدافع الحربيّة، الآلة الّتي أنهت عصر القِلاع والإقطاعيّة.

 

آريا ستارك

 

جورج مارتِن خلق عالَمًا يحاكي التاريخ البشريّ، ويرصد إمكانيّات خياليّة مثيرة، تُعلّم المستهلكين أكثر كثيرًا ممّا يُرى بالعين المجرّدة؛ ففي النهاية هو نفسه قد صرّح بأنّه استمدّ أفكاره من قراءاته وتعمّقه في التاريخ، مثل سبارتاكوس – دينيرس، وصَلب المسيح – اغتيال جون سنو وإحياؤه من جديد، والكثير غيرها.

 

 

جاد قعدان

 

 

خرّيج في علوم الدماغ (بيولوجيا وعلم نفس)، وعلم النفس الإدراكيّ اللسانيّ. يدرس حاليًّا ضمن برنامج الدكتوراه في الدراسات الإدراكيّة اللسانيّة، في "جامعة تل أبيب". معلّم بسيخومتري منذ 2007، ناشط وكاتب في مجالات اجتماعيّة وعلميّة.

 

 

 

التعليقات