16/09/2021 - 20:37

فيلم «المقامر»... رصاصة أخيرة في المسدّس

فيلم «المقامر»... رصاصة أخيرة في المسدّس

من فيلم «المقامر»

 

حياةٌ بلا جدوى

«المقامر» ليس فيلمًا عن المقامَرَة، ولا هو فيلم «أكشن» يكافح فيه البطل في سبيل أن يبقى حيًّا، هو عن رجل لا يرى سببًا في البقاء حيًّا، فيضع كلّ ما بحوزته في رهان أمام حياته المملّة والمزيّفة الّتي لا تشبه الحياة «الحقيقيّة» في شيء، لكنّه ليس رجلًا فقيرًا، أو حتّى من الطبقة المتوسّطة السفلى أو الدنيا العليا، كما في الرواية الأصليّة لدوستويفسكي.

جيم بينيت (الممثّل مارك والبيرغ)، حفيد أحد أغنى الرجال في ولاية كاليفورنيا، لم يعرف أباه، وعاش الحياة البرجوازيّة النخبويّة مع أمّه منذ طفولته، يعمل محاضر آداب جامعيّ في النهار، ويقامر بكلّ ثروته في حياته السرّيّة كلّ ليلة. يرى كلّ مَنْ حوله بأنّه انتحاريّ وعبثيّ أو مقامر مدمن، لا يقدر الخلاص من مرضه. أمّا أسبابه الخاصّة لإرادة تدمير نفسه فتتكشّف كلّما سارت الحكاية.

جيم بينيت، حفيد أحد أغنى الرجال في ولاية كاليفورنيا، لم يعرف أباه، وعاش الحياة البرجوازيّة النخبويّة مع أمّه منذ طفولته، يعمل محاضر آداب جامعيّ في النهار، ويقامر بكلّ ثروته في حياته السرّيّة كلّ ليلة...

في نقاش داخل إحدى محاضراته، يلفت أحد طلّابه نظره إلى أنّه يرى كلّ شيء من زاوية النصر أو الخسارة، وليس أيّ نصر بل النصر التامّ. "أن تكون مَنْ أنت أو لا شيء على الإطلاق"، ويسأل جيم عمّا يجعل الإنسان يتقبّل حياة لا جدوى منها، ويقنع بصفته مواطنًا ليس لديه موهبة أو عبقريّة في أيّ مجال، وليس لديه القدرة على الوصول إلى أعلى مستوًى، أيًّا كان ما يمارسه. يرفض جيم هذه الظاهرة، ويرفض أنّه هو نفسه كاتب روايات؛ لأنّه في نظره كاتب متوسّط، وينظّر بأنّ العبقريّة موزّعة بعشوائيّة، وبغير عدالة على الناس، وإن لم تكن عبقريًّا فلا تتعب نفسك حتّى بالمحاولة. وإلى جانب أنّه كاتب متوسّط، فالحرفة الّتي يمارسها توفّيت تجاريًّا في آخر قرن، ولم يعد لها وَقْع؛ وبهذا أصبحت كتابة الأدب في هذا الزمن اعتدالًا، والأدب نفسه معتدلًا.

"الشيء الوحيد الّذي يستحقّ الفعل هو المستحيل، أليس كذلك؟ كلّ شيء آخر رماديّ. تُخْلَق لتكون عبقريًّا، فيلسوفًا، ملكًا، شيكسبيرًا، وهذا كلّ ما يعطوننا؟ بضعٌ وعشرون سنة من التعليم، وهي كلّها تعليمات حول كيف تصبح عاديًّا وإلّا فسيقتلونك، سيفعلون! ثمّ بعدها تأتي المهنة، وهي ليست أحد أشكال الوجود".

 

الرصاصة السادسة

يلقي جيم بينيت محاضرة لطلّابه حول رواية «الغريب» لكامو، ونرى أنّ السبب في هذا الاختيار هو أنّه يرى انعكاسًا لنفسه في شخصيّة «ميرسول» الفرنسيّ – الجزائريّ، الّذي قتل الشخصيّة المسمّاة «العربي» دون سبب واضح؛ محاولًا البحث عن أيّ شعور أو اهتمام في داخله تجاه الحياة. يطلق ميرسول أوّل طلقة على العربي فيقتله، وبعد انتظار قليل يطلق أربع طلقات أخرى على جثّته، "وكانت أشبه بأربع طرقات على باب تعاستي". يقول جيم بينيت إنّ مجموع الطلقات خمس، بينما مسدّس الـ «ريفولفر» (الطاحونة) المذكور في القصّة يحتوي عادةً على ستّ رصاصات، فيملي التحليل لطلّابه بأنّ ميرسول أبقى الرصاصة الأخيرة، رمزيًّا، لنفسه. ثمّ يقول للحضور بأن يدوّنوا هذه النظريّة، مع أنّهم لن يجدوا لها أيّ مرجع؛ فهو الوحيد الّذي فكّر فيها. لماذا؟

إنّه يرى مهنته محاضرًا غير حقيقيّة، بلا معنًى وعبثيّة؛ لأنّه يتظاهر بتعليم الطلّاب، بينما لا أحد منهم ينتبه ويهتمّ بشيء غير تعدّي المادّة المعطاة، وهم يتظاهرون بأنّهم يتعلّمون، بالتفاعل والاهتمام؛ لأنّ عليهم الحضور إلى الصفّ إجباريًّا؛ فإدلاء رأيه كحقيقة، إذن، هو فعل لمخاطبة نظام التعليم وإظهار الزياف الّذي تغرق فيه مهنته، ونظام الحياة المعاصر الّذي يجبر الكلّ على المجاراة والتظاهر بعدم ملاحظة كلّ هذا. وهذا الفعل، كما يقول، لا خطب فيه بالنسبة إليه لأنّه ليس المشكلة، إنّما الإشكاليّة فقط، الّتي من الممكن أن تجلب له المشاكل. إنّه محاولة للتأثير بأيّ شكل؛ لأنّ مهنة البروفيسور ليست حقيقيّة إن لم يكن حقيقةً يعلّم: "أريد أشياء لا نهاية لها، أريد كلّ شيء، أريد حبًّا حقيقيًّا، منزلًا حقيقيًّا، شيئًا حقيقيًّا للقيام به كلّ يوم، وأظنّ أنّني أفضّل الموت إن لم أحصل على ذلك".

 

 

"مَنْ يريد العالم تحت قدميه؟" – أي كلّ الفرص بين يديه؟ -  يسأل جيم. بينما يسعى كلّ البشر إلى الضمان الحياتيّ، والحالة المعيشيّة الأرفع، وهذا هو الشيء الرئيسيّ الّذي يشغل بال الجميع؛ ماذا يريد المرء لو وُلِدَ وهو يمتلك كلّ شيء، مثله؟ في بحثه عن الجواب لهذا السؤال، وعمّا يريده حقيقةً من الحياة، يسعى إلى تدمير حياته بأكملها، حتّى يستطيع البدء من جديد، أو البدء أصلًا.

 

جيم وميرسول وألكسي

لكن جيم يختلف عن ميرسول في رواية «الغريب»، رغم التشابه، بأنّه ليس في الحقيقة عدميًّا، بل هو يبحث عن شيء معيّن؛ لعلّه لا يعلم ما هو تحديدًا، وسيرهن حياته مقابل إيجاده، بينما ميرسول لا يرى في الحياة شيئًا يستحقّ حتّى ردّة فعله. ينظر جيم إلى ميرسول بافتتان، لكن يعادي عدميّته. ومقارنة كاتب الفيلم بين الشخصيّتين في هذا المشهد، قد تكون نقدًا لفكر الرواية الّتي تدّعي العدميّة من خلال ميرسول، الّذي هو من نسج خيال كامو، لكن لو كان الكاتب حقيقة يبشّر بعدميّة الجدوى والمعنى، لما رأى سببًا لخلق هذه الشخصيّة وكتابة الرواية؛ أي لو كانت العدميّة حقيقيّة لما كتب فيها أحد. ويجري هذا النقد من خلال جيم، الّذي هو أيضًا من نسج خيال كاتبه؛ ميرسول هو ادّعاء كاتبه الروائيّ أنّه حتّى كتابة الرواية دون جدوى، بينما جيم هو اعتراف كاتبه السينمائيّ بالرغبة في إيجاد الجدوى.

صدر الفيلم عام 2014، وهو إعادة صناعة لفيلم بنفس العنوان من عام 1974، وهو أيضًا مبنيّ على رواية لدوستويفسكي بالعنوان نفسه أيضًا. في الرواية، يعمل ألكسي إيفانوفيتش معلّمًا خاصًّا لعائلة روسيّة أرستوقراطيّة، وهو هائم ببولينا، ابنة أخي الجنرال، رجل المنزل. لا تشاركه بولينا الحبّ، بل يحسّ بأنّها تحتقره، وتسعى خلف رجل آخر ذي ثروة وإرث نبيل، بينما تستغلّ حبّ ألكسي من أجل مصلحتها؛ ليقامر لها بالمال في الكازينو. يصبح هدف ألكسي أن يربح كمًّا من المال يكفي للفوز بقلب بولينا.

من البداية نرى الفرق بين الشخصيّتين في الفيلم والرواية، الفرق المادّيّ الأقصى بين جيم وألكسي. الأوّل يملك كلّ المال ويريد خسارته، والثاني ليس لديه إلّا ما يكفي للعيش، وينفق كلّ ما لديه في القمار؛ محاولًا تغيير واقعه واللعب بالقدر كما يلعب القدر به. أمّا المال في الحالتين، رغم أنّه الهدف، فهو العدوّ، والهدف الحقيقي هو رغبات إنسانيّة أعمق.

الحكاية الأكثر عمومًا وسط البشر هي حكاية ألكسي، الإنسان النموذجيّ الّذي يريد الترفّع ويريد الانتصار أو العدَم، أمّا حكاية الفيلم فتحاصر القضيّة المادّيّة من الجهة الأخرى

الحكاية الأكثر عمومًا وسط البشر هي حكاية ألكسي، الإنسان النموذجيّ الّذي يريد الترفّع ويريد الانتصار أو العدَم، أمّا حكاية الفيلم فتحاصر القضيّة المادّيّة من الجهة الأخرى، وهي الجهة الّتي يكون بحوزة المرء فيها كلّ شيء، ولا يشعر بأيّ شيء.

يستهدف العملان معًا الإنسان؛ بتجريده من منزلته المادّيّة، الّتي دائمًا ما تهيمن على جوهر المرء وتعرّيه، ولعلّ هذا ما هدف إليه نصّ الفيلم؛ باختيار أن تكون شخصيّة المقامر شخصيّة فاحشة الثراء على عكس الرواية.

 

غرق الهاتف

لا يزال الفنّ العالميّ في مرحلة استيعاب للتغييرات المهولة الّتي طرأت على حياة الإنسان في العقد الأخير، وهذه التغييرات تتنافر مع سمات جوهريّة كان الفنّ يرتكز عليها سابقًا، تراجعت الآن. من أهمّ هذه التغييرات التطوّر التكنولوجيّ في الحياة الشخصيّة، سواء كان ذلك الهاتف المحمول أو السيّارة أو أيّ أمور أخرى لا تفيد جوهر الفنّ ‘التقليديّ‘؛ وقد استطاع الفيلم بأسلوب عظيم تجاوز هذه المعضلة؛ فمثلًا، خلال ما يقارب كامل الفيلم، تنطبع كشرة على وجه جيم ولا تفارقه، تنمّ عن الملل والتعاسة:

الطالب: "أنا لا أتفهّم الانتحار".

بعد وقفة قصيرة، جيم: "هذا لأنّك سعيد".

الطالب: "لديك سيّارة BMW- M1 ولست سعيدًا؟".

جيم ينظر إليه بالكشرة نفسها: "هل أبدو سعيدًا؟".

فيضحك الطلّاب على بساطة الموضوع.

 

تُسْتَخْدَم الهواتف الذكيّة من أحدث طراز في الفيلم، لكن أهمّيّتها تبخس؛ على اعتبارها جزءًا من كلّ شيء آخر لا معنى له، فتُسْتَخْدَم فقط لأغراضها المبدئيّة، وهي التواصل على أبسط هيئاته في سبيل الالتقاء شخصيًّا؛ ممّا يحوز دلالة على مستقبل الحياة الاجتماعيّة والفنّ، وهي أنّ الخلاص من هذه الظاهرة، إن كان هذا هدفًا، سيأتي في سياق الملل وانعدام الجدوى للعالم الافتراضيّ، الّذي لا يحقّق شيئًا في العالم الواقعيّ، وينكمش إلى حجمه الأصليّ، الّذي هو الاستخدام الوظيفيّ لهذه الأدوات التكنولوجيّة، وانقضاء كلّ الإضافات الّتي لا حاجة إليها.

في مشهد آخر، حين يهاتف زعيم عصابة جيم من أجل أن يطالبه بتسديد ديونه، يرمي جيم بالـ «أيفون» الجديد في بركة مياه، ولعلّ مشهد غرق الهاتف أيضًا فيه دلالة استشرافيّة ما.

 

معنى ما لا معنى له

كون محتوى الصورة السينمائيّة في الفيلم كلّه حداثيّ، من ناحية المدينة ومواقع التصوير (الكازينو، قاعة المحاضرات، المنزل العملاق)، والأدوات (السيّارات، الهواتف، إلخ)، والأزياء، وكلّ ما يظهر من تفاصيل، فإنّ هذا تحدٍّ ناجح للتقاليد الفنّيّة الجماليّة، ونريد بذلك أنّه عادة ما يرتبط العمل الفنّيّ بالبصيرة الروحانيّة أو الرمزيّة أو الجماليّة – أو أيّ شيء ذي محتوًى فكريّ أو روحانيّ أو عميق؛ فإنّ هذا الفيلم بصريًّا لا محتوى روحانيًّا فيه، وتهيمن عليه مادّيّات الحداثة، وكانت هذه أداة تحدّيه لانعدام المحتوى في الحياة الحديثة، ولعلّها أيضًا نبوءة أو تصريح واضح: إنّ الفنّ عليه أن يضفي المعنى على ما لا معنى فيه.

الطابع الحداثيّ للفيلم أيضًا يعبّر عن الفراغ الناتج عن تغيّر أسلوب الحياة، وما سبّب ذلك من انقطاع بين الإنسان والطبيعة، وأبرز التعبيرات عن دمار البيئة هو التمدّن، الّذي يهيمن على غالبيّة الفيلم...

إلى جانب ذلك، فإنّ الطابع الحداثيّ للفيلم أيضًا يعبّر عن الفراغ الناتج عن تغيّر أسلوب الحياة، وما سبّب ذلك من انقطاع بين الإنسان والطبيعة، وأبرز التعبيرات عن دمار البيئة هو التمدّن، الّذي يهيمن على غالبيّة الفيلم، باستثناء مشهد واحد في خلاء الصحراء، يتباين فيه اللباس (بدلة أنيقة وحذاء جلديّ رسميّ نظيف) مع المكان (صحراء شاسعة خالية وأشجار يابسة، وإلخ) ويتباين المشهد مع باقي مشاهد الفيلم.

ثمّة من الحبكات والشخصيّات والحوارات الأصيلة ما يكفي في الفيلم، الّذي لا يتجاوز الساعتين، لجعله ظاهرة سينمائيّة وسط مرحلة الخراب الفنّيّ في هوليوود، ولم نتكلّم عنها هنا بالتفصيل؛ لأنّ هذا المقال ما هو إلّا دعوة لمشاهدة الفيلم والتمعّن بتفاصيله وإيحاءاته الكثيرة، وربّما لفت النظر للتمرّد الجذريّ الّذي قام به في كلّ النواحي السينمائيّة: البصريّة- اللفظيّة، والبصريّة- غير اللفظيّة، والصوتيّة- اللفظيّة، والصوتيّة- غير اللفظيّة، ولا سيّما أنّ هذا الفيلم غير ناجح نسبيًّا في السوق، ولم يلقَ الشعبيّة أيضًا نسبيًّا، إضافة إلى أنّ غالبيّة النقّاد الأميركيّين قد صنّفوه متوسّطًا أو أقلّ، فهل يمكن لمشاهدين آخرين غير هؤلاء النقّاد أن يفهموا المغزى من فيلم كهذا؟

 


آثر البرغوثي

 

 

 

كاتب ومترجم فلسطينيّ من بلدة كوبر قضاء رام الله، عمل في كتابة المقالات الثقافيّة والاجتماعيّة والنقديّة، وتدقيق مشاريع التخرّج الجامعيّة، وترجمات أدبيّة شعريّة ونثريّة، وكذلك المسرح وحواشي الأفلام.

 

 

التعليقات