25/05/2023 - 14:25

«عبّاس 36»... عائلتان في بيت واحد

«عبّاس 36»... عائلتان في بيت واحد

من فيلم «عبّاس 36» (2019)

 

يُعَدّ فيلم «عبّاس 36» (2019) للمخرجة مروة جبارة، والمخرجة المشاركة نضال رافع، توثيقًا لتهجير العصابات الصهيونيّة للفلسطينيّين خلال نكبة عام 1948. القصّة الّتي يعرضها الفيلم تحكي عن عائلتين فلسطينيّتين يربطهما بيت واحد في حيفا، لكنّ الفيلم يوظّف هاتين العائتلين ليتحدّث عن جميع الفلسطينيّين الّذين هم في الشتات ويحلمون بالعودة.

تعيش نضال مع أهلها في البيت الّذي تعود ملكيّته الأصليّة لرجل فلسطينيّ –جدّ الشخصيّة الرئيسيّة الأخرى، دينا- والّذي هُجِّر منه عام 1948، وكان أهل نضال قد اشتروه لاحقًا من مستوطن يهوديّ. تقول نضال عن كتابة والدها (علي رافع) رسالة إلى صاحب البيت الأصليّ (فؤاد أبو الغيدا): أنّه كان يكتب لغائب في حضوره عن سيادة المكان.

يستند الفيلم إلى سرد للحقائق والمعلومات الّتي جرت قبل نكبة 1948، وكذلك إلى سرد وقائع حياة الفلسطينيّين اليوميّة بعد النكبة، سواء داخل فلسطين أو خارجها...

دينا أبو الغيدا، حفيدة صاحب البيت الأصليّ، جاءت من واشنطن إلى فلسطين مع زوجها وابنتيها. كانت شخصيّة دينا مفعمة بالتفاؤل للعودة إلى حيفا، والشوق إلى الماضي، والرغبة في شراء منزل جدّها من جديد. كما شكّلت دينا الحلقة الأساسيّة في التواصل بين نضال وصاحب المنزل فؤاد أبو الغيدا.

يستند الفيلم إلى سرد للحقائق والمعلومات الّتي جرت قبل نكبة 1948، وكذلك إلى سرد وقائع حياة الفلسطينيّين اليوميّة بعد النكبة، سواء داخل فلسطين أو خارجها. يُظْهِر الفيلم إصرار الفلسطينيّين على التمسّك بالأمل، واستعادة الذكريات بما يخدم حلم العودة. يعبّر الفيلم عن مفهوم سرد الأحداث، الّتي هي نوع من أنواع السير التاريخيّة الّتي تخصّ شعبًا من الشعوب، وفي هذا النوع من السير تنتعش الذاكرة؛ لتستعيد حقائق ومعلومات جرت خلال فترة معيّنة من الحياة، الحالة الّتي تدفع الشخصيّة الأساسيّة، نضال، إلى الغوص في المشاعر والرغبات الّتي تضمّنتها تلك المرحلة. كما يعبّر الفيلم عن حالة الشتات والضياع في شخصيّة نضال، عند حديثها عن نشأتها في بيت غائبٍ قد يأتي يوم يعود فيه إلى منزله.

 

الحضور والغياب

لعلّ الثيمة الفلسفيّة الّتي تسيطر على الفيلم هي فكرة الحضور والغياب، وحالة الفصام بين الإنسان والحيّز الفلسطينيَّين في حيفا، حيث تقول نضال: "نشأت في بيت غائب، جعلت هاجس المكان يجثم على صدري دون حراك، إلى حين العودة". نلاحظ أنّ الإخراج اعتمد على اللحظات التاريخيّة الفارقة، الّتي عكس فيها الحضور غيابًا، والغياب حضورًا. وكان وجدان الفلسطينيّين نقطة اتّكاء تساعد في تكوين أرضيّة تاريخيّة زمنيّة للفيلم، وكذلك نماذج سرديّة تدفع الشريط قدمًا في حبكته، حيث تبدأ من ذكرى النكبة، ثمّ زيارة العائلة إلى شاطئ الطنطورة (القرية الّتي شهدت مذبحة مروّعة خلال أحداث النكبة عام 1948)، مرورًا بالنكسة، وزيارة العاصمة البريطانيّة يوم ذكرى «وعد بلفور»، وبالتالي فإنّ تسلسل الأحداث يتحوّل إلى روزنامة تواريخ وطنيّة.

تملك الشخصيّتان -نضال ودينا- الرغبة في نقل "روزنامة تواريخ وطنيّة" إلى الجيل الجديد، وهذا ما وجدناه لدى شخصيّة نضال الّتي لم تملّ من البحث عن أصحاب البيت الأصليّين، الّتي تقطنه هي وعائلتها، لتحثّهم على العودة إلى الوطن؛ إذ حاولت نضال ذلك خلال زيارتها إلى الدوحة للقاء جمال أبو الغيدا، حاملة معها أغصانًا من الزيتون الفلسطينيّ، وحفنة من التراب، جعلته يحنّ إلى مدينته حيفا، الّتي كان يسكنها قبل النكبة. يشير الزيتون هنا إلى الوطن والصمود والتمسّك بالأرض، ويثير هذا المشهد مشاعر الصدق والشوق إلى الوطن.

 

 

كما يُظْهِرُ الفيلم دور المرأة وتحوّلها إلى فاعل حقيقيّ؛ حيث يُظْهِرُ الفيلم نضال المرأة في تمسّك سارة رافع بحقّ أسرة ’أبو الغيدا‘، الّذين هم أصحاب البيت الحقيقيّون. وهذا ما لاحظناه عندما رفضت حدوث أيّ تغيّر في معالم البيت الأساسيّة؛ حفاظًا على شقاء هذه العائلة في بناء منزلهم، وكذلك حفاظًا على ذكرياتهم في هذا البيت، حيث احتفظت بالمخطوطات والصور القديمة الموجودة فيه، وفي ذلك إشارة إلى أنّ عائلة ’أبو الغيدا‘ يمكن أن تعود يومًا ما إلى بيتها. أكّدت الابنة نضال رافع حقّ ’أبو الغيدا‘ في المنزل، لتعبّر من خلال ذلك عن الفعل الحقيقيّ للمرأة الّتي تظهر في الفيلم مناضلة باحثة عن حقّ العودة. 

 

العمران الفلسطينيّ

كان ’حيّ عبّاس‘ حيًّا أرستقراطيًّا للفلسطينيّين في حيفا، وكلّ بيت فيه تعود ملكيّته لعائلة عريقة، وقد بُنِيَ أغلب البيوت بين عامي 1920 و1930، وبعد النكبة تحوّلت هذه البيوت حسب القانون إلى أملاك غائبين؛ فقد تحدّث المهندس الّذي كان يروي معلومات بناء البيوت إلى دينا ونضال، عن أنّ النكبة لم تكن فقط نكبة للناس؛ إذ هُجِّروا قسرًا من بيوتهم، بل يمكن اعتبارها أيضًا نكبة للبناء والعمارات، حيث مُحِيَت ملامح البناء من الطراز الفلسطينيّ القديم؛ أي البيت المبنيّ من حجر، وله أقواس، وله غير مدخل واحد: مدخل للصالون لاستقبال الضيوف، ومدخل لأهل البيت، وثمّة غرفة في الوسط تفتح البيت أمام ساكنيه؛ ليدخلوا منها إلى باقي الغرف.

يعبّر الفيلم عن الأمل والإرادة للعودة إلى الوطن، وتشجيع جميع الفلسطينيّين في الشتات إلى العودة، كلٌّ منهم إلى منزله الّذي شيّده وبناه قبل النكبة...

بعد النكبة، قُسِّم البناء إلى وحدات سكنيّة صغيرة، وهذا ما ساهم في تغيّر ملامح البناء الفلسطينيّ القديم وتحوّلها، إلى إنتاج البناء الحداثويّ للاستعمار الإسرائيليّ. وجدير بالذكر أنّ الاستعمار البريطانيّ أيضًا كان قد أدخل الحداثويّة في الأبنية الفلسطينيّة، في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، إلّا أنّ بناية «عبّاس 36» لم تطلها حداثويّة الاستعمار البريطانيّ، وذلك بناءً على وصف المهندس لبناية ’أبو الغيدا‘.

يعبّر الفيلم عن الأمل والإرادة للعودة إلى الوطن، وتشجيع جميع الفلسطينيّين في الشتات إلى العودة، كلٌّ منهم إلى منزله الّذي شيّده وبناه قبل النكبة. ظهر الحبّ والشوق في كلٍّ من الشخصيّتين نضال ودينا؛ نضال الّتي حملت على نفسها أمانة البحث عن أصحاب البيت الأصليّين الّذي تسكنه؛ في سبيل إبقاء حلم العودة هدفًا في حياتها، ودينا - بعد أن تعرّفت على سكّان بيت جدّها – الّتي تمسّكت بفكرة العودة، الّتي هي حقّ لكلّ فلسطينيّ.

 


 

لبابة صبري

 

 

 

محاضرة في «جامعة بيت لحم»، وباحثة متخصّصة في سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا الفنّ والأدب والمسرح، تعدّ رسالة الدكتوراه حول أنثروبولوجيا ممثّلي «مسرح الحكواتيّ» في القدس.

 

 

التعليقات