في محاولة لرصد التغييرات التي مرّت على مدينة القدس منذ وعد بلفور قبل مئة عام حتّى يومنا الحاضر، مرورًا بتاريخ حافل من الاستعمار وإعادة كتابة تاريخ المدينة مرّة بعد مرّة، افتتح "غاليري أناديل" في باب الجديد ببلدة القدس القديمة، معرضًا للفنّان والقيّم جاك برسكيان، تحت عنوان "100 عام".
أرشيف الأميريكان كولوني
يقدّم المعرض صورًا للمشاهد ذاتها من أرشيف "الأميريكان كولوني" التي صوّرها فريق المصوّرين قبل مئة عام، من الزاوية والبقعة نفسها، من أجل تقديم رؤية للمدينة بعين جديدة. بمقاربة الصور القديمة والحديثة، يقارن برسكيان بين زمنين تفصلهما مئة عام، تحمل المسافة الزمنيّة بينهما تغييرات وتحوّلات تلخّص محاولات جديدة من المحو وإعادة كتابة تاريخ المدينة، ومساعي مُحكَمة لاحتلال مكان في مشهدها المقدّس. ومن خلال مقاربة الصور القديمة والحديثة، ليس من الصعب على المرء استنتاج جملة المخطّطات التي فُرضت قبل مئة عام، وتلك المفروضة اليوم، والمخطّطات المستقبليّة في المنطقة.
أُنتجت الصور الثنائيّة، القديمة والحديثة، بتقنية تتيح للمشاهد المقارنة بين الصور من خلال استخدام صناديق مضيئة وشفافيّات ملوّنة، وأخرى بالأبيض والأسود، ويتبدّى لدى مقارنة الصور بوضوح، الزحف المعماريّ الذي يحتلّ الأفق، ومعظم المشهد في الأجزاء الشماليّة والغربيّة والجنوبيّة من القدس. وفي الوقت نفسه، فإنّ شُحّ التطور العمرانيّ في الجزء الشرقيّ يبدو للعين جليًّا.
واقعان متناقضان
يقول برسكيان "بالطبع، لا أعقد هذه المقارنة إيمانًا بأنّ المدينة ستكون أفضل حالًا بمشهد تملؤه فوضى بنايات حجريّة، إنّما ما يثير اهتمامي التناقضات بين الشرق الفارغ المُفْتَقِر للتطوير، والأجزاء الأخرى من المدينة المتضخّمة ذات التطوير المفرط. هذه المقارنة تؤكّد على منهجيّة السياسات والإجراءات المتّبعة منذ القرن الماضي في التعامل مع أجزاء المدينة المختلفة".
ويوضح برسكيان بأنّ الفترة الزمنيّة الممتدّة بين صورتين متجاورتين، تمكّننا من فهم الكيفيّة التي خلقت واقعين متباينين ومتناقضين جنبًا إلى جنب، من خلال نظم السيطرة والتمييز العنصريّ، ويضيف: "تمكّننا من رؤية كيف تتحكّم السياسة بالديموغرافيا، وكيف تعمل على توظيف كلّ ما تحت إمرتها لتمكين جانب وحرمان وتقويض الجانب الآخر. وإذا ما تُركت زمام الأمور للقوى المسيطرة، فإنّها حتمًا ستشجّع التفاوتات في جزئي المدينة، ويمكننا فقط التنبّؤ بما ستؤول إليه القدس، وما يخبّىء المستقبل للمقدسيّين".
ضحيّة قديمة حديثة
وتتصدّر المجموعة صورة قديمة حديثة، تبدو فيها ضحيّة جديدة للصراع والحروب والمآسي في المنطقة ملقاة على الطريق أثناء مظاهرات عام 1933، في باب الجديد، التُقطت في 13 تشرين الأوّل (أكتوبر) من ذلك العام, صورة حديثة مطابقة من الزاوية ذاتها التُقطت في 24 نيسان (أبريل9 2017، يظهر فيها القطار الخفيف متطفّلًا على المشهد في منطقة تُعَدّفلسطينيّة وفقًا لحدود ما قبل عام 1967. الصورة المتأجّجة والمشحونة الممتلئة بالمتظاهرين تعكس وجهًا آخر من القدس، يتناقض مع الصورة الجديدة العصريّة المتطابقة في ذلك الجزء من المدينة، التي تبدو وكأنّ الحياة اليوميّة فيها تسير بهدوء. التناقض في الصور قد يحبس الأنفاس، لكنّها مشاهد اعتياديّة في المدينة.
يقول برسكيان عن المشروع الذي بدأ العمل عليه أوائل العام الماضي، وعُرض في حديقة مؤسّسة "الأولبرايت" في رمضان: "القدس مدينة التناقضات، تجمع ما بين أكنافها حقائق منفصمة على نفسها، ويحتضن أهلها كلّ هذه التناقضات. رغم ترديد كلمة ’القدس’ في كل خطاب سياسيّ، لم يشهد أهلها أيّ محاولات جادّة تكترث حقًّا لحال المدينة أو حال سكّانها. إنّه لمن الجميل رؤية أهل المدينة يقفون يدًا واحدة في هذه الأوقات الصعبة التي تمرّ بها المدينة، بعد فترة بدت فيها المساحة العامّة بكلّ معانيها أرضًا مهملة، وكأنّ أهل المدينة توقّفوا عن الاكتراث بكلّ ما يخرج عن محيط اهتماماتهم الشخصيّة ودوائرهم الضيّقة، بعد أن طالت الأزمة وفُقِد الأمل".
ويضيف: "من خلال هذا المشروع أحاول تشجيع الناس بعامّة، وأهل المدينة بشكل خاصّ، لإعادة تقييم علاقتهم مع المكان، وإعادة تفحّصه عن قرب، وحبّه والانغماس في تفاصيله الجميلة، ليس من أجل ما كان ومن أجل رمزيّته، لكن من أجل ما يمكن أن يكون".
يستمرّ المعرض في "غاليري أناديل" حتّى 29 من شهر كانون الثاني (يناير)، يوميًّا، من الساعة 12 ظهرًا حتى 7 مساءً، ما عدا أيّام الأحد.
التعليقات