07/01/2017 - 13:41

الصهيونيّة الليبراليّة في عهد ترامب

السنوات القادمة تَعِدُ اليهود الأميركيين بقرارات كانوا يحاولون تفاديها طويلاً فإما التمسّك بتقاليدهم الليبراليّة باعتبارها الوسيلة الوحيدة لضمان حقوق الإنسان والمواطنين واليهود أو اعتناق المبادئ الصهيونيّة

الصهيونيّة الليبراليّة في عهد ترامب

ترامب وإلى يمينه اليهودي الأميركي الذي عين سفيرا في إسرائيل ديفيد فريدمان

منذ أسابيع عدّة، تعاني الجالية اليهودية في أميركا اضطراباً بسبب وجود ظاهرة مربكة. تمّ انتخاب دونالد ترامب، الرجل السياسي القاسي المعادي للسامية، ليصبح الرئيس القادم للولايات المتحدة الأميركية؛ كما وقام  بتعيين ستيفن بانون في منصب كبير الإستراتيجيين، والذي يعدّ شخصية بارزة من 'بديل اليمين-Alt right'، وهي حركة تدعم القومية البيضاء، ومعاداة السامية، والتمييز العنصري وكراهية النساء. وعلى الرغم من وصف بانون هذه الآراء بـ 'عدم التسامح'، إلّا أن ماضيه وتصرفاته السابقة تقف خلاف ذلك تماماً؛ لقد قدّم خلال شغله منصب الرئيس التنفيذي لأخبار بريتبارت، على مدى السنوات الأربعة الماضية، المنبر الإعلامي الأقوى في الدولة لهذه الحركة ولخطاباتها الأيدولوجيّة.

وعلى الرغم من ذلك، لم تتخذ المنظمات اليهودية الكبرى في الولايات المتحدة، ولا القادة الإسرائيليون، موقفاً ضد هذا التعيين؛ بل إنّهم في الحقيقة، قد قبلوه تماماً.

على الفور، وبعد تعيين ترامب لبانون في هذا المنصب، قامت المنظمة الصهيونية الأميركية بالترحيب به في حفل عشائها السنوي، حيث كان من المقرر أنّ يلتقي وزير التعليم الإسرائيلي نفتالي بينيت، وسفيرها لدى الأمم المتحدة داني دانون؛ لم يظهر بانون آنذاك. على الملأ، أعرب رون ديرمر، السفير الإسرائيلي في واشنطن، عن رغبته وتطلعه للعمل مع إدارة ترامب، بما في ذلك بانون. أما أستاذ القانون الفخري في جامعة هارفرد، ألان ديرشوفيتز، والذي يتّهم دوماً غير الصهيونيين بأنّهم معادون للسامية، فقد فضّل في هذه الحالة توجيه الانتقاد إلى منتقدي بانون؛ وقال بصريح العبارة 'إنّه من غير المشروع اتّهام أحدهم بمعاداة السامية فقط لأنّك تختلف مع سياسته'.

إنّ التحالف الذي بدأ بالتشكّل، بين القيادة الصهيونية والسياسيين الميّالين لمعاداة السامية، لديه القدرة على تغيير الوعي اليهودي الأميركي لسنوات قادمة. في العقود القليلة الماضية، اعتادت الجاليات اليهودية في أميركا على العيش في تناقض سياسي. فمن جانب، يمكن للغالبيّة العظمى من هذه المجموعات أن تفتخر بالتقليد الليبرالي القوي، والذي يمتدّ إلى شخصيات نموذجيّة مثل لويس برانديز – المدافع عن العدالة الاجتماعيّة، وأوّل يهودي يصل لعضوية المحكمة العليا للولايات المتحدة – أو الحاخام أبراهام جوشوا هيشل الذي كان في المسيرة في سيلما، جنباً إلى جنب مع مارتن لوثر كينع. أما على الجانب الآخر، فإنّ ذات المجموعات تعرّف نفسها أحياناً بأنها صهيونيّة، وهي أجندة سياسيّة معارضة للسياسات الليبراليّة في جوهرها.

لإدارك هذا التوتّر الأصلي، خذ على سبيل المثال كلمات هيلاري كلينتون في المناظرة الرئاسيّة الثانية: 'إنّ من المهمّ لنا كدولة ألا نقول، كما يقول ترامب، بأننا سنحظر بعض الأفراد أو نرفضهم بناء على دينهم. كيف يمكن أن نقوم بذلك؟ إننا دولة تقوم على الحريّة الدينيّة والليبراليّة'. هنا تضع كلينتون معياراً أدنى للآداب الديمقراطيّة، والتي سيجد معظم اليهود الأميركان أنفسهم متفقين معها على ذلك. ولكنّ كلينتون لن تكون هي الرئيسة القادمة. ومن ثمّ فإنّ إمكانيّة رفض ترامب لهذا المعيار أصبحت قضيّة مقلقة للمجموعات اليهوديّة، بالإضافة إلى الأقليّات الأميركيّة الأخرى.

على أنّه بقدر ما أصبحت إسرائيل قلقة، بقدر ما إنّ كلّ صهيوني ليبرالي لا يكتفي فقط بالتساهل مع المعيار الأدنى لليبراليّة، بل يصرّ على رفضه في قناعاته الأساسيّة. فبينما تعتمد الليبراليّة على فكرة أنّ الدولة يجب أن تبقى حياديّة تجاه مسائل الدين والعرق، فإنّ الصهيونيّة تقوم على فكرة أنّ دولة إسرائيل، ليست دولة للإسرائيليين، وإنما لليهود. ومن ثمّ، فإنّ الدولة لا تنتمي بالأساس لمواطنيها، وإنما لليهود؛ المجموعة المعرّفة على أسس الانتماء الإثني والإيمان الديني.

سيبقى التوتّر محتملاً طالما أنّ الليبراليّة قائمة في أميركا وأنّ رفض الليبراليّة مقتصرٌ على المشهد الإسرائيلي. ولكن، إذا انتقل هذه الرفض إلى السياسة الأميركيّة، التي تشهد الآن تغيّرات كبرى، فإنّ الموقف المزدوج لهذه المجموعات سيصبح موقفاً يصعب الدفاع عنه.

لقد ظهرت هذه الصعوبة مبكّراً هذا الشهر في حدث أقامته جامعة تكساس إيه أند إم، عندما قام ريتشارد سبنسر، أحد القادة الأيدولوجيين للأجندة القوميّة البيضاء لـ'بديل اليمين' – والتي يُطلق عليها ' نوع من الصهيونيّة البيضاء' – بتحدّي الحاخام في جامعة هيليل، مات روزنبرغ، علناً، بأن يدرس معه 'شمول الجميع' والحب في الديانة اليهوديّة. ثم تساءل: 'هل حقّاً نريد أن نشمل الجميع ونقبلهم في داخل دولة إسرائيل؟'. 'ربما يمكن لكلّ سكان الشرق الأوسط أن ينتقلوا للعيش في تل أبيب أو القدس. هل تريدون ذلك حقّاً؟'. يحاجج سبنسر بأنّ سياسة إسرائيل التي تقوم على أساس إثني هي سبب قوّة اليهود، إنها الهويّة المتماسكة، ثمّ يعبّر سبنسر عن احترامه لإسرائيل لهذه السياسة.

لم يجد الحاخام كلمات للردّ، وترددت أصداء صمته. لقد كان من الواضح بأنّ الردّ على حجّة لا تعتنق معياراً مزدوجاً أمرٌ صعب.

لقد كان السياسيون اليمينيون والمعلّقون في الولايات المتحدة يركّزون ويضغطون على هذه الازدواجيّة لسنوات. في كتابها الصادر في 2015، ' وداعاً امريكا' كتبت المعلّقة آنّ كولتر:

' يُطالب الفلسطينيون لحقّ العودة إلى منازلهم ما قبل 1967، ولكنّ إسرائيل تقول، وهي محقّة تقريباً، بأنّ تغيير إثنيّة إسرائيل سيعني تغييراً لفكرة إسرائيل. إذاً، فإنّ تغيير إثنيّة أميركا يعني تغيير فكرة أميركا. أروني بوضوح لماذا لا يمكن أن نفعل ما تفعله إسرائيل. هل إسرائيل مميّزة؟ بالنسبة لبعضنا، فإنّ أميركا مميّزة أيضاً'.

تخلط كولتر بين التواريخ. فالفلسطينيون في الحقيقة لا يُطالبون بـ'حقّ العودة' لمنازلهم ما قبل 1967، وإنما لمنازلهم ما قبل 1948. بعبارات أخرى، فإنّ القضيّة ليست قضيّة الاحتلال، والتي يتفق العديد من الصهيونيين الليبراليين اليوم على أنّها جريمة، وإنما القضيّة هي الصهيونيّة نفسها. فرفض 'حقّ عودة' الفلسطينيين هي مسألة يُجمع عليها اليمين واليسار الصهيوني، لأنّه حتى الصهيونيّة الليبراليّة تصرّ على أنّ إسرائيل لها الحقّ في ضمان أن يكون اليهود هم الغالبيّة الإثنيّة في بلدهم. ولهذا السبب تحديداً لم يجد الحاخام روزنبرغ جواباً لسؤال سبنسر. ولكن إن كنت ترفض الصهيونيّة بسبب رفضك لازدواجيّة المعايير، فإنّ منظّمات مثل لجنة الشؤون العامّة الأميركيّة الإسرائيليّة أو الاتحادات اليهوديّة أميركا الشماليّة ستتهمك بأنّك ضدّ الساميّة.

من المهمّ التركيز على بعض الجوانب الحاسمة هنا، إنّ المقارنة بين السياسات المسيحيّة الإثنيّة لبديل اليمين وبين الدولة اليهوديّة ليست مقارنة مضللة وحسب، بل هي مقارنة ملتبسة بالخطيئة. إنّ تاريخ اليهود – الأقليّة الصغيرة التي واجهت الاضطهاد المنظّم والهولوكوست – ليست مماثلة للمسيحيّين البيض. وهذا التحديد مهمّ للغاية، ولذلك، فحين يقول ريتشارد سبنسر بأنّ بديل اليمين هو 'نوع من الصهيويّة البيضاء'، فإنّه يروّج لكذبة حقيرة. فلا بدّ من إظهار التعاطف مع إسرائيل وإظهار التفهّم للظروف التاريخيّة للصهيونيّة، وفي الآن ذاته رفض أي تعاطف مع بديل اليمين. لسوء الحظّ فإنّ النقّاد المناهضين للصهيونيّة يفشلون أحياناً في إدراك هذا التمييز.

ولكن، بغضّ النظر عن التعاطف والتضامن مع إسرائيل – أو بالأصح، بسبب ذلك- فإنّ على أيّ يهوديّ لا يزال ملتزماً بالليبراليّة أن يصرّ على أنّه لا شيء في التاريخ اليهودي يمكن أن يسمح لليهود بأن ينتهكوا حقوق الأقليات والإثنيات الدينيّة الأخرى، وأنّه لا شيء في تاريخنا يُشير إلى أنّ من الحكمة أن نفعل ذلك.

هذا صحيح على وجه الخصوص لأنّه، عبر إنكار المبادئ الليبراليّة، فإنّ الصهيونيّة تصبح على الفور استمرار – لا معارضة- للسياسات المعادية الساميّة من النوع الذي يدعمه بديل اليمين. إنّ فكرة أن تكون إسرائيل دولة اليهود بما في ذلك اليهود الذين يعيشون خارجها – اليهود في أميركا وأوروبا على سبيل المثال – تتمتّع بوجود شتاتي محض. وهذا يعني أنّ اليهود هناك يسكون في بلد ليست بلدهم بصدق. وفقاً لهذا المنطق، فإنّ من الطبيعيّ للصهاينة والسياسيين المُعادين للساميّة أن يجدوا أفكاراً ومصالح مشتركة. فكل أميركي إسرائيلي حصل على الجنسيّة بحكم الولادة يجب أن يعرف بأنّ الإسرائيليين اليساريين سيتفقون مع بديل اليمين الأميركي نظرياً على أنّ 'اليهود يجب أن يعيشوا في بلدهم'.

وحيث إنّ هذه الاستمراريّة طبيعيّة جداً، فإنّ لها تاريخاً مهمّاً وطويلاً. في أبريل/نيسان الماضي، تمّ استقبال هاينز كريستيان ستراخي، زعيم حزب الحريّة، الذي يقف على أقصى اليمين، من قبل كبار أعضاء تحالف بنيامين نتنياهو. يتبنّى حزب ستراخي سياسات معادية للإسلام ومعادية للهجرة، وهي مواقف أسس لها الزعيم النازي السابق للحزب؛ جورج هايدر، والذي اشتهر بتعاطفه مع بعض سياسات هتلر. الحالة المشابهة تتمثّل في خيرت فيلدرز، السياسي الهولندي اليميني المتطرّف والكاره للأجانب والمهاجرين. هذا الشهر، تمّ الكشف عن أنّ فيلدرز قد زار إسرائيل وقابل بعض الشخصيات الإسرائيليّة عدّة مرات، إلى درجة أنّ المجتمع الفكري الهولندي قد تباحث حول 'روابطه مع إسرائيل ومدى تأثيرها على ولائه وانتمائه الوطني'.

لقد كانت هذه الحالة متشابهة مع الحالات في الولايات المتحدة، نظراً لأنّ الروابط الوثيقة بين المسيحيين الإنجيليين الأصوليين – والذين يمكن وصف رؤيتهم عن كون اليهود جزءاً من مخطط أكبر لظهور المسيح المخلّص، بأنّه رؤية معادية للساميّة قطعاً – وبين دولة إسرائيل. ولكن مع ترامب، فإنّ هذا النوع من التعاون قد أصبح في قلب السياسة الأميركيّة.

لا شيء يُظهر هذا التحالف بشكل أفضل من تعيين ديفيد فريدمان كسفير للولايات المتحدة في إسرائيل. إذ إنّ فريدمان داعم متحمّس لمشروع الاحتلال الإسرائيلي، وقد قال ذات مرّة إنّ الداعمين لحركة 'جي ستريت' الصهيونيّة الليبرالية، الذين ينتقدون الاحتلال، هم ' أسوأ من الكابو'؛ اليهود الذين تعاونوا مع حراس معسكرات الاعتقال النازيّة. والحقيقة أنّ سياسات فريدمان متشابهة معهم – وسياسات الحكومة التي يدعمها- والتي تتابع ذات مبادئ معاداة الساميّة وتتعاون مع سياسات معادية للساميّة.

يمكن البحث عن 'الخطيئة الأصليّة' الأولى لهذا النوع من التحالف بالعودة إلى عام 1941، في رسالة أُرسلت إلى الضباط النازيين الكبار، وقد كتبها أبراهام شتيرن، المعروف بـ يائير، أحد القادة المقاتلين الصهيونيين الأوائل، والذي كان عضواً في مجموعة الـ'إرجون' شبه العسكريّة، والمؤسس لـ'ليحي' (عصابة شتيرن). في هذه الرسالة، يقترح شتيرن التعاون مع 'السيد هتلر' لـ'حلّ المسأة اليهوديّة' عبر الوصول إلى 'أوروبا خالية من اليهود'. لا يمكن الوصول إلى حلّ، كما يقول شتيرن، إلا عبر 'استقرار هذه الجماهير المشتتة في وطن اليهود؛ فلسطين'. وللوصول إلى ذلك، يقترح شتيرن التعاون مع 'الجهود الحربيّة' الألمانيّة، وتأسيس دولة يهوديّة على 'أسس قوميّة وتوتاليتاريّة (شمولية)'، والتي 'ستربطها بالرايخ الألماني معاهدات وثيقة'.

لقد كان من المناسب والمريح تجاهل وجود هذه الرسالة، بقدر ما كان من المناسب التقليل من الظروف المفهوميّة التي جعلت ذلك ممكناً. ولكنّ مثل هذه الميول مرفوضة ويجب أن تُرفض. إنّهم يعززون ذات المنطق الذي كُتبت به هذه الرسالة: تقديس الصهيونيّة إلى درجة التسامح مع معاداة الساميّة. وهذا المنطق الذي ينبغي على اليهود الأميركيين أن يحاربوه، على الرغم من أنّه سيثبت بأنّ هذه المنطق صعب الاقتلاع. فقد تمّ تخليد اسم شتيرن على أسماء الشوارع في عدد من المدن الإسرائيليّة الكبرى، ومن المعقول أن نفترض بأنّ يائير نتنياهو، ابن رئيس الوزراء، الذي احتفى أبوه بشتيرن كنموذج أسطوري للنضال الصهيوني، قد سُمّي تيمّناً باسم الحرب الخاص بشتيرن.

إنّ المقارنات بين هتلر وترامب – والتي انتشرت بكثرة في المقالات التي ظهرت قُبيل الانتخابات – هي مقارنات مبالغ فيها، كما آمل.  ولكن مع ذلك، فإنّ السنوات القادمة تَعِدُ اليهود الأمريكيين بقرارات كانوا يحاولون تفاديها طويلاً. فإما التمسّك بتقاليدهم الليبراليّة، باعتبارها الوسيلة الوحيدة لضمان حقوق الإنسان، والمواطنين واليهود؛ أو اعتناق المبادئ الصهيونيّة. في عهد ترامب، سيكون من الصعب على اليهود التمسّك بالأمرين معاً. 

-----

* عمري بويهم: أستاذ مساعد في الفلسفة في 'المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعيّة'. وهو مؤلّف 'ربط إسحاق: نموذج ديني من عدم الطاعة' وصدر له مؤخّراً 'نقد كانط لسبينوزا'

التعليقات