19/04/2017 - 15:37

تركيا والعلمانية والدين

تؤكد العلمانية على كونها فكرة محايدة بحكم عدم تبنيها لأي تقليدٍ ديني. ولكن تكمن المشكلة في أن العلمانية، وبالرغم من عدم كونها تقليدًا دينيًا، تقدِّم أيضًا افتراضات أخلاقية وتصوراتٍ عن الطبيعة الإنسانية وغاياتها.

تركيا والعلمانية والدين

ترجمة خاصة: عرب 48

كان الاستفتاء الأخير في تركيا، يوم الأحد الماضي، متعلقًا بزيادة سلطات الرئيس. ولكن في المستوى الأعمق من ذلك، كان الاستفتاء يعبِّر عن حالة الجدل بين الفئات العلمانية والفئات المتدينة في المجتمع. عندما أسس مصطفى كمال أتاتورك تركيا الحديثة، كان يسير على نهج الثقافة الأوروبية، بمعنى أن تركيا كانت تحتاج لنظام سياسي علماني. لم تكن صياغة مثل هذا النظام في دولة ذات أغلبية مسلمة أمرًا سهلًا، وقد حل أتاتورك ذلك عن طريق وضع الجيش كوصي على دستور الدولة العلمانية، ليحميها من قوة الفئات المتدينة.

وبعد حوالي القرن من تأتسيس تركيا، فقدت الأيديولوجيا الكمالية الكثير من رصيدها. فقد أثبت المتدينون في العالم الإسلامي وجودهم من خلال عدد من التيارات المتشعبة، وهو ما أدى لتنشيط المجتمع المسلم في تركيا. فقد أصبحت الثقافة العلمانية الأوروبية تقف في مواجهة الصعود المتزايد للقوى الدينية. كان السؤال السياسي والاجتماعي الأساسي هو كيفية بناء نظام سياسي واحد يشمل ثقافتين مختلفتين، من دون تجاهل إحداها؟ فتركيا دولة مسلمة تم تحديثها عن طريق العلمانية. وفي حال قمت بتدمير العلمانية، فسوف تقطع مع الإنجازات التي حققتها تركيا عبر تاريخها، أما إذا هاجمت المسلمين، فسوف تشعل غضب دين متصاعد يأبى الاستسلام. لقد أصبحت تركيا جمهورية حاضنة للازدارء وانعدام الثقة المشترك. وأيًا كان من سيحكم تركيا فسيكون كمن يروض النمر. ففي حال سقط عنه، سوف تتمزق تركيا إربًا إربا، وفي حال حافظ على مكانه، فسوف يرتاب النمر، سواء أكانوا العلمانيين أم المسلمين، ممن يقوده.

تقوم العلمانية باستيعاب الدين  من خلال صنع فصلٍ كاملٍ بين المجال العام والمجال الخاص. يعتبر الدين جزءًا من المجال الخاص، حيث ينبغي تحييد الأمور الدينية عن المجال العام. بمعنى آخر، على المجال العام أن يكون علمانيًا وينبغي أن يكون الناس أحرارًا في اختيار نمط الحياة الذي يريدونه في حياتهم الخاصة. ولكن تكمن المشكلة في أن العلمانية ليست محايدة تمامًا، فهي تقدم تصورًا عن عالمٍ مجرد، كما تقوم على افتراض إمكانية وجود فصل كامل بين الحياة العامة والحياة الخاصة. ولكن إذا كنت تعتقد أن العالم يمتلك غاية مقدسَّة وأن حياتك هي جزءٌ من تحقيق هذا الغاية، فكيف يمكنك حجر هذا الاعتقاد في المجال الخاص؟ وكيف يمكن أن تبقى ثقافة المجتمع موحَّدة بينما تقوم بإقصاء معتقداته التراثية عن الحياة العامة؟

تؤكد العلمانية على كونها فكرة محايدة بحكم عدم تبنيها لأي تقليدٍ ديني. ولكن تكمن المشكلة في أن العلمانية، وبالرغم من عدم كونها تقليدًا دينيًا، تقدِّم أيضًا افتراضات أخلاقية وتصوراتٍ عن الطبيعة الإنسانية وغاياتها، وهو ما يتبدَّى من خلال تأكيدها على مركزية الفرد وحقه في الاختيار. ولكن لا يشكِّل الواحد منا نمط حياته أو يعيش كفرد مستقل بالانعزال عن المؤثرات الاجتماعية. ومن هنا تقوم العلمانية بعمل قفزة إيمانية من خلال تأكيدها على إمكانية بناء المجتمع بالتمركز حول الفرد؛ فالفرد يولد ضمن عائلة ذات ماضٍ ولغةٍ وثقافة، ولكنه يظن نفسه ذا كيانٍ مستقل. بل حتى فكرة الاستقلالية الإنسانية هي افتراض أخلاقي. وبعبارة أخرى، ليست العلمانية فكرة محايدة بقدر كونها منافسًا للأديان الأخرى، ولكنها تستبدل الله بالفرد.

ابتداءً، ترى القوى العلمانية في العودة الواثقة للمتدينين مجرد صعود للغوغاء والرعاع، وبالتالي فهُم يرونهم كأعداءٍ للحرية. ويرى العلمانيون أنفسهم في موقع دفاعي نظرًا لصعوبة فهم مبررات إدعاءاتهم بالتفوق الأخلاقي وأنها ليست مجرد ثقة زائدة بالنفس. كما أنهم يقوضون أسس العلمانية من خلال افتراضهم أنه بمجرد خصخصة الدين فسيشكل ذلك حلًا مُرضِيًا. فعلى عكس توماس جفرسون وجوزيبي غاريبالدي، فإن العلمانيين الحداثيين هم سياسيون سيِّئون، فهم لا يعرفون متى ينبغي صياغة التوافقات.

لقد حققت العلمانية إنجازات غير مسبوقة، فالعلم خادمها، والعلم قدَّم إضافات نوعية، فقد حسَّن من مستوى الحياة في الدول المتقدمة خلال قرنٍ من الزمان، كما سهَّل عملية السفر بين القارات، وشكَّل أنماطٍ جديدة من الحياة لم تكن موجودة من قبل. لم تتمكن الأديان من تحقيق هذه الأشياء لأنها لا تراها أمورًا جوهرية، فالأديان لا تحاول البحث عن مغزى هذا العالم، فهي تعتقد بوضوح مغزاه ومعناه.

ولكن أورثت العلمانية مخاطر جليلة أيضًا، فقد مهدَّت لصعود الأيديولوجيات، والتي تقدِّم رؤىً عما ينبغي أن تكون عليه الإنسانية. ولم يتجلى ذلك في الكتابات النظرية فقط، بل تم تطبيقه عمليًا. فالفاشية والشيوعية والديمقراطية الليبرالية جميعها تدين في وجودها للعلمانية. والأنظمة التي استلهمت وجودها من هذه الأيديولوجيات خلال القرن العشرين جعلت من ممارسات تنظيم القاعدة، وإن لم تكن تقصد ذلك، موضوعًا ضعيفًا للمقارنة. فقد أدى تصور علماني عن الإنسانية، والمدعَّم بقوة التكنولوجيا التي أطلقتها العلمانية، إلى إرهاب عالمي. لقد هزمت الديمقراطية الليبرالية الأيديولوجيات الأخرى، واعتقد أن هذا هو أبرز انتصار أخلاقي، ولكنه يمثِّل مرحلة لتحديات أخرى. فقد بقيت دعوات معتقدات آبائنا. إنه أمر شبيه بالعلاقة بين اليهودية والمسيحية والإسلام وبين الوثنية التي هدموها. لم تتوقف الوثنية عن محاولات العودة، فالعلمانية تعبر عن التمثل الحديث للوثنية بطريقة ما.

تركيا ليست الدولة الوحيدة التي تعيش صراعًا بين حكم العلمانية والمساعي الدينية، فأوروبا والولايات المتحدة تواجه هذه القضية أيضًا. ففي ذات الوقت الذي يتصاعد فيه الحضور الديني، تميل القوى العلمانية للمزيد من التطرف. ويبدو أنهم يعتقدون أنه، باعتباري يهوديًا، فإني يجب أن أتضايق كثيرًا من مشهد الميلاد في ساحة المدينة أو ترديد أحدهم لعبارة 'عيد ميلاد مجيد' أو 'رمضان مبارك'. فمع ميل العلمانية للمزيد من التطرف، تزداد حدِّة انتقاداتها. ولكن هذه التصورات المكبوتة أكثر خطورة علي كفرد من اعتراف الدولة بجميع ما نؤمن به، وهو ما يظهر في الجذور المسيحية للولايات المتحدة وفي كونها دولة تحتضن جميع المعتقدات.

يظهر هذا الصراع بشكل كبير في تركيا، وهي المساحة التي تشكِّل نقطة التقاء واندماج بين المسيحية والإسلام لتخلق شيئًا جديدًا. فينبغي ألا ننسى أن إسطنبول كانت حاضنة لقسطنطين، وهو الأب السياسي المؤسس للمسيحية. إنها مدينة العلمانية الأوروبية، التي تقف في مواجهة السلطة المتجددة والتقاليد الدينية. وفي حين يرى العلمانيون الدين كشيء بدائي، يعتبر المتدينون أنفسهم كحراس على الحقائق الموروثة.

يُنظر للرئيس رجب طيب إردوغان كوحش بالنسبة للقوى العلمانية، خاصة تلك القابعة خارج تركيا. ولكنهم يرتكبون خطًا كبيرًا في ذلك، فهو ليس الزعيم الذي يروض النمر فقط بل يقوده أيضًا. وإذا لم يكن بمقدوره التوفيق بين القوى العلمانية والدينية، فمن سيأتي بعده فسوف يكون أسوأ بالطبع. لقد انتهى عهد الحكم العلماني المستند على الجيش. وفي نفس الوقت، نحن نشهد تحولًا في العلمانية من نظام متسامح يستوعب المعتقدات الخاصة في الحياة العامة، إلى محاولة لاستبعاد هذه المعتقدات عن المجال العام.

تميل جميع الأيديولوجيات إلى 'برهنة خطأ الفرضية بإثبات فشل نتائجها' لأنها محكومة بمنطق عنيف. وبالنسبة للعلمانية، فإن الفصل بين المجال العام والمجال الخاص يبنغي أن يحصل مهما كلَّف الأمر. ولكن في القرن الواحد والعشرين، يعود إلينا الماضي ليثبت وجوده في المجال العام. وفي نفس الوقت، تدَّعي العلمانية ضرورة استبعاد الإله عن الحياة العامة وأن العلمانيين هم أنبياؤه الوحيدين. هذا الأمر سيؤدي إلى نشوء نُسَخٍ أكثر عن إردوغان، وربما أسوأ من ذلك في حال فشلهم.

 

التعليقات