22/04/2017 - 14:46

التنازل عن الزعامة السياسية

تشير حالة الزعماء الذين ينادون بالاستفتاءات إلى افتقادهم للإجابات وعدم رغبتهم بتحمُّل المسؤولية، لذا يتركون القرار لعامة الناس. فقد أصبحت تُعطى أولوية لحق الفرد بإدلاء رؤيته الضيقة على حساب حل مشاكل البلاد.

التنازل عن الزعامة السياسية

(أ ف ب)

ترجمة خاصة: عرب 48

أعلنت رئيسة وزراء بريطانيا، تيريزا ماي، يوم الثلاثاء، أنها ستدعو لانتخابات رئاسية مبكرة في المملكة المتحدة ليتم عقدها في 8 حزيران/ يونيو القادم، والتي ستمثل تصويتا آخر بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وعلى صعيد آخر، صوَّت البرلمان الأسكتلندي في الشهر الماضي لصالح عمل استفتاء ثانٍ من أجل الاستقلال. كما عقدت تركيا استفتاءً في نهاية الأسبوع، وصوَّتت لصالح زيادة سلطات الرئيس. وسيعمل إقليم كاتالونيا على عقد استفتاء حول استقلالها في هذا العام. كما أثار أكراد العراق مطالب مشابهة حول عقد استفتاء للاستقلال في 2017. وسيحكم فرنسا رئيسٌ جديد بحلول 7 أيار/ مايو، وفي حال نجاح مارين لوبان في الانتخابات، فسوف تدعو هي الأخرى لاستفتاء حول بقاء فرنسا في الاتحاد الأوروبي.

والقائمة يمكن أن تطول أكثر، ولكن هذه مجرد عينة تشير لانتشار هذا النوع من الاقتراعات، كما تمثل تحولا في كيفية عمل السياسة الديمقراطية. فعندما انضمت بريطانيا في المجموعة الاقتصادية الأوروبية عام 1973، قامت بعقد استفتاء واحد في 1975، أي بعد عامين من عضويتها، بمعنى أن القرار الأساسي كان بيد الحكومة البريطانية المنتخبة وليس عامة الشعب. وعلى طول تاريخ جمهورية تركيا الحديثة، كان للانقلابات العسكرية تأثير كبير فيما يتعلق بكيفية تشكيل الحكومة بنفس درجة تأثير الاقتراعات. ولم تنشأ دولة إسرائيل من خلال الاستفتاءات بل عن طريق إعلان الحرب على جيرانها. وعندما أراد وودرو ويلسون الانضمام لعصبة الأمم، لم يدع هذا الخيار لتصويت الشعب الأميركي، كما تم عزله بناءً على قرار مجلس الشيوخ الأميركي، ولم يُترك القرار للتصويت الشعبي.

لقد أصبح يَظَن بوجود تطابق بين كلمة 'ديمقراطية' و'الفضيلة'، ولكنهما ليستا متطابقتين بالضرورة. فالحكومة التي تحكم نفسها بنظام ديمقراطي خالص سوف تعيش في حالة من الفوضى، لا في حالة من الحرية. لا تتجسد الحرية في سياق الديمقراطية التمثيلية من خلال الفكرة القائلة بأنه إذا تبنى الجميع رأيا ما، ثم جاء أحدهم ليعترض عليه، فسوف يتم تعليق ذاك الرأي. فالبُنى الديمقراطية القائمة في نموذج الدولة-الأمة مبنية على مبادئ الحكومة التمثيلية، وأول ما تقوم عليه الديمقراطية التمثيلية هو الاعتراف بأنه لم يُخلق الجميع متساوين. ولكن مع الاقتراعات أصبحت هناك قدرة على تحقيق نوع من التوازن، وتمكين الجميع من انتخاب ممثل لهم قادر على اتخاذ قرارات تهم الصالح العام. وتكمن السلطة والحرية لدى الشعب في قدرته على التصويت لهذا الشخص في الانتخابات القادمة، لا في القدرة على إملاء الأوامر عليه في كل قرار.

ما يحدث اليوم هو أن السياسيين أصبحوا تحت قيادة شعوبهم بدلاً من كونهم قادة لأنفسهم. فعندما تضع الحكومة أكثر قضاياها أهمية تحت تصويت الشعب بدلا من التحرك باسم التفويض الذي حصلوا عليه في الانتخاب، فليس بالضرورة أن تكون النتيجة تعبيرا عن إرادة الشعب، بقدر ما هي ترك قرارات الحكومة لآراء الأفراد بدلا من إيكالها لشخص يحظى بثقة المجتمع. إن وظيفة الزعيم السياسي هي التصرف بناء على ما يخدم مصالح البلاد أكثر وليس ما يهم مصالح الأفراد. وإذا كان يلتفت الزعيم باستمرار لما وراء كتفه عند كل قرار يريد اتخاذه، فإن ذلك ينافي الغاية من وجوده. وستكون النتيجة هي حكم الغوغاء، حتى لو كانوا ضمن أكثر المجتمعات تحضرا.

عادةً ما يكون الزعماء السياسيون ضعفاء في حل المشاكل التي تواجه شعوبهم. فقد كان يمكن أن يُلغى قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من خلال تأكد رئيس الوزراء آنذاك ديفيد كاميرون من عدم سعي المهاجرين السوريين للجوء إلى أوروبا. وكان يمكن تقويض صعود لوبان والجبهة الوطنية عن طريق قيام الرئيس فرانسوا هولاند بتقليص معدلات البطالة إلى النصف ومضاعفة نمو إجمالي الناتج المحلي (GDP). هناك فجوة كبيرة بين ما يستطيع الزعيم السياسي القيام به وبين ما يطبقه فعليا. ليست وظيفتهم هي حل المشاكل، لأن الكثير من المشاكل هي إما غير قابلة للحل أو أنها تتجاوز قدرات الفرد أو حتى الحكومة. ولكن تكمن وظيفة الزعيم السياسي في تقديم الثقة للشعب بأن الأوضاع سيتم تدراكها بالشكل المناسب، وبما يخدم مصالح ورغبات الشعب.

عندما يترك الزعيم السياسي القرار للشعب، فإنه يقر ضمنيا بعدم معرفته للقرار الأفضل، ويتم تبرير مثل الخطوات بادعاء السير على مبادئ الديمقراطية. ولكن مبادئ الديمقراطية تتحقق بشكل كامل مع كل عملية انتخاب لقائد سياسي ولا تحتاج لشرعية أكثر من ذلك. لذا تكون النتيجة هي رؤية الشعب لنقاط ضعف الشخص المنتخب وتردده في اتخاذ القرارات المصيرية، وما يحدث بعد ذلك هو توجه الشعب نحو القادة السياسيين الذين يُظهرون ثقة عالية في قدرتهم على حل المشاكل. وبالتالي سيختار العامل الفرنسي العاطل عن العمل التصويت للوبان لأنها تتحدث بثقة حول موضوع البطالة وكيفية حلِّها. لكن يبدو أن لوبان لا تمتلك القدرة على إخراج فرنسا من الاتحاد الأوروبي لوحدها، وحتى في حال تمكنت من ذلك، لن يتمكن العامل الفرسني استرداد وظيفته المفقودة. إلا أن هذه الأمور لا تحظى بأهمية في مقابل شعور العامل بوجود شخص يهتم بقضاياه ويمتلك تصوراً عن كيفية حل مشاكله.

سيؤدي هذا بالمقابل إلى انتخاب الزعماء الذين لا يضعون الديمقراطية ضمن اعتباراتهم. وإنها لمفارقة أن ينشب القلق حيال 'صعود السلطوية' و'الديمقراطية غير الليبرالية' بالتجاور مع انتشار حالة الاقتراعات على سياسات محددة كان يبنغي أن تقرر الحكومة بشأنها. فالإعلام منشغل حاليا في قضية صعود الزعماء السلطويين غير الليبراليين في بلاد مثل تركيا وهنغاريا وبولندا. وقد بات يُنظر لرئيس الولايات المتحدة، دونالد ترامب، على أنه يمثِّل نموذجا للزعيم السياسي المستبد الذي يعتدي على أسس الديمقراطية الأميركية. كما يخضع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي للرواية ذاتها، بالإضافة للسردية القائلة بأن صعود مرشّح معادٍ للاتحاد الأوروبي في فرنسا سوف يمثل خطرا كارثيا بالنسبة للحضارة الغربية. إن مشكلة هذه المحاججة هي أن هؤلاء الزعماء سيصلون للسلطة بخيار ديمقراطي. إذا كيف يمكن أن تنسجم الفكرة القائلة بالانتشار الواسع للديمقراطية في هذا الزمان مع من يقول بأفول نجم الديمقراطية.

ليست المسألة إذن في صعود السلطوية، ولا في إعادة إحياء فاشية الثلاثينيات، والتي يبدو أنها أصبحت الطريقة الوحيدة التي ينظر من خلالها البعض للخلافات السياسية. فالقضية تكمن في توقف الزعماء السياسيين عن اتخاذ القرارات وتخليهم عن مسؤولية صناعة القرار بالدرجة الأولى. ونتيجة ذلك هي تخلي الحكومات عن إجابة الأسئلة المركزية وإيكالها في المقابل للاقتراع العام، وبالتالي ينبغي أن لا نتفاجأ مما آلت إليه الأمور من تفضيل الشعب لمن يمتلك رؤية واضحة تجاه الأمور. وليست القضية في مدى تأثير السياسات المقترحة، أو بين ما هو صحيح وخاطئ، بل تكمن القضية بالنسبة للعديد من الأفراد في قدرتهم على تسليم حريتهم لزعماء يدركون ماهية المشكلة ويَعِدون بحلها. فالحرية لا تعني إلا البؤس بالنسبة للمصوِّتين الذين خسروا وظائفهم وقدرتهم على إعالة أسرهم.

يدرك كبار المنظِّرين للحكومة التمثيلية أن الدور الأساسي للحكومة هو حماية حياة وحرية وأملاك المواطنين. ولكن يدرك فيودور دوستيوفسكي أن 'سر وجود الإنسان لا يكمن في قدرته على العيش فقط، بل في إيجاد غاية يعيش لأجلها'. إن المواقع التي وصل إليها زعماء مثل ترامب ولوبان وآخرين تشير إلى ضرورة أن يعيش الزعيم من أجل الشعب، وأن أعظم دور يمكن أن تؤديه الحكومة هو حماية هذا الشعب. في حين تشير حالة الزعماء الذين ينادون بالاستفتاءات إلى افتقادهم للإجابات وعدم رغبتهم بتحمُّل المسؤولية، لذا يتركون القرار لعامة الناس. فقد أصبحت تُعطى أولوية لحق الفرد بإدلاء رؤيته الضيقة على حساب حل مشاكل البلاد. لذا ينبغي أن لا نتفاجأ من أن إعطاءهم هذه الخيارات سيقود لاختيارهم للقادة الذين يمنحونهم غاية يعيشون لأجلها. إنهم يريدون حرية تنبع من حريتهم الخاصة، وسيستمرون باختيار من يعطيهم إياها.

 

التعليقات