13/06/2017 - 21:16

دماغك كآلة زمنية

إن إقامة التقابل بين الزمان والمكان لا تجعل فهم مسألة الزمن أمرًا سهلًا، حيث يقول بونومانو فيما بعد: "يعتبر الفيزيائيون أن طبيعة الزمن تنحصر في الزمن ذاته، ولكن يبدو أن الأمر أوسع من ذلك". وبذلك فهو يشير إلى العديد من المفاهيم حول الزمن>

دماغك كآلة زمنية

(ترجمة خاصة: عرب 48)

'إن الزمن طريقٌ بلا تشعُّبات أو تقاطعات وبلا مخارج أو إلتفافات'. بهذه الكلمات يصوغ عالم الأعصاب دين بونومانو، الفكرة الأساسية من كتابه 'دماغك كآلة زمنية'، فهناك اختلاف مثيرٌ بين الطريقة التي نتفاعل بها نحن ككائنات مع الزمن، وبطريقة مخالفة لتفاعلنا مع المكان.

إن إقامة التقابل بين الزمان والمكان لا تجعل فهم مسألة الزمن أمرًا سهلًا، حيث يقول بونومانو فيما بعد: 'يعتبر الفيزيائيون أن طبيعة الزمن تنحصر في الزمن ذاته، ولكن يبدو أن الأمر أوسع من ذلك'. وبذلك فهو يشير إلى العديد من المفاهيم حول الزمن، وهي الزمن الطبيعي والزمن الوقتي والزمن الذاتي.

إن الزمن الطبيعي هو ما ينشغل به الفيزيائيون. ولكن من جهة أخرى، ينشغل علماء الأعصاب بالزمن الوقتي والزمن الذاتي، ويطرقون أسئلةً من قبيل: هل الزمن أمر حقيقي؟ أو هل مجرى الزمن مجرد شيءٍ وهمي، وهل توجد اللحظات في الزمن بنفس الطريقة التي تتواجد بها إحداثيات المكان؟

يستند الفيزيائيون والفلاسفة في فهمهم للزمن الطبيعي على النزعة الأبدية، والتي تعتبر أن الماضي والحاضر والمستقبل هي أمور حقيقية وبذات الدرجة. وفي هذا السياق يكتب بونومانو: 'ليس هناك شيء مميز في الحاضر، وذلك بحسب النزعة الأبدية القائلة بأن (الآن) تقع في الزمن كما تقع (هنا) في المكان'.

والأساس الثاني الذي يفهمون فيه الزمن الطبيعي هو النزعة الحاضرية، والتي تعتبر أن لحظات الحاضر هي حقيقية في ذاتها، وهو تصور ينسجم مع شعورنا بالزمن الذاتي، فقد ذهب الماضي، والمستقبل لم يأتي بعد. وهنا يقول بونومانو: 'إن علماء الأعصاب يؤمنون بالحاضر ضمنيًا... ولكن وبالرغم من قيامها على الحدس، إلا أن النزعة الحاضرية ضعيفةٌ جدًا... في كل من الفيزياء والفلسفة'.

'إن السفر عبر الزمن ذهنيًا هو أحد الإمكانيات الإنسانية، ولكن حتى نفعل ذلك يبنغي على علم الأحياء أن يكتشف كيفية بقاء الزمن'.

يقرر بونومانو أن الزمن هو الكفيل بمواجهة التصورات السائدة عن الزمن في كل من الفيزياء والعلوم العصبية. ففكرة الكتاب مستمدة من الفكرة المعتبرة في الفترة الراهنة، والتي تعتبر أدمغتنا كآلات تنبؤية. وتقول النظرية إن الأشياء التي نراها ليست هي الواقع الموضوعي الخارجي، فما يحصل هو أن الدماغ يصوِّر أقرب تقدير عن الإحساسات التي يتفاعل معها الجسد. ولكن عادة ما يتجاهل الرواد المشاهير لهذه النظرية بعدًا واحدًا من أبعاد آلة التنبؤ، ألا وهي الزمن.

يشير بونومانو إلى أن الدماغ يقوم بصياغة التنبؤات اللحظية باستمرار، ليس فيما 'سيحصل لاحقًا' فقط، بل 'متى سيحدث' أيضًا. وليتم ذلك، يحتاج الدماغ لآلة معقَّدة لحفظ الزمن، لا ليتمكَّن من التنبؤ بما سيحدث في غضون ملايين الأجزاء من الثانية وحسب، بل ما سيحدث في غضون ثوانٍ ودقائق وساعات بل وأيام وأسابيع وشهور وسنوات.

إن هذه القدرة على التنبؤ بالمستقبل البعيد تعتمد على الذاكرة. وفي الحقيقة فهذا هو الدور التطوري الأساسي للذاكرة، باعتبارها مخزنٌ للمعلومات اللازمة للتنبؤ بالمستقبل. فمن خلال الذاكرة والإدراك، تصبح أدمغتنا آلات زمنية، حيث نصبح قادرين على السفر ذهنيًا عبر الزمن للأمام والخلف. إن هذا السفر الذهني عبر الزمن هو أحد الإمكانيات الإنسانية، وهو ما يفرقنا عن الحيوانات، ومن هنا جاء عنوان الكتاب. والغريب في الأمر أن طائر القيق تظهر عليه قدرات مشابهة لهذه، ولكن يبقى من الصعب إثبات وجود القدرة على السفر ذهنيًا عبر الزمن لديهم.

لنتمكن من القدرة على السفر ذهنيًا عبر الزمن، على علماء الأحياء أن يكتشفوا كيفية حفظ الزمن، بذات الطريقة التي اخترع بها العلماء الساعة البندولية في القرن السابع عشر. كانت الساعة البندولية المتقدمة التي اخترعها كريستيان هيوجينز، هي أول آلة تحفظ الزمن بطريقة أكثر دقة من الساعة الموجودة في الدماغ البشري.

يمتلئ كتاب بونومانو بالتفاصيل المثيرة حول الطرق الوافرة التي تدرِك بها الخلايا – العصبية والأنواع الأخرى – الزمن. فعلى سبيل المثال، هناك الأنوية الرنانة التأقلمية المعقدة، وهي عناقيد من الخلايا العصبية تقع في الغدة النخامية، والتي تعمل كساعة زمنية رئيسية. تعتمد الساعة الزمنية على نظام مشابه للذبذبات البندولوية يقوم على درجات محددة من البروتينات، وهي مؤهلة لتحديد الفترات الزمنية.

ولكن على عكس ساعاتنا، والتي يمكن أن تخبرنا عن الزمن عبر فترات زمنية واسعة، فإن الدماغ لا يمتلك ساعة واحدة فقط. فعلى سبيل المثال، إن حصول ضرر في الأنوية التأقلمية لا يعيق قدرة الدماغ على إدراك الأنماط الزمنية في مقياس الثواني، فهناك العديد من الساعات المسؤولة عن ذلك. إذا كانت هناك رسالة واضحة من فكرة العلوم العصبية حول حفظ الزمن، فهي أن الدورة العصبية قادرة على التشابك مع بعضها بالاستجابة للمنبهات الخارجية المنتظمة.

بعد قراءة كتاب بونومانو، سيكون من الصعب ألا نندهش من كيفية انتشار الزمن وآلية حفظ الزمن في وجودنا، سواءً أكان ذلك على شكل الساعات والأدوات التي نصنعها أو من خلال الآليات المتأصلة في أدمغتنا. يصوغ بونومانو شعورًا بالدهشة حول درجة تعقيد الدماغ الزمني ودوره المذهل في حفظ الزمن.

يكتب بونومانو بشكل مشرق، وبأسلوب يستند على الحقائق، ويفضل الوضوح على الإبهار. ولكن تتجلى بعض كتاباته المنمَّقة في بعض المواضيع، مثلما كتب في هذا الموضع: 'إن فترة رفرفة جناح طائر الطنان مخفية بقدر خفاء أجهزتنا العضوية الحساسة وبقدر انجراف القرارات'.

يتجلى وضوح كتابات بونومانو عندما يكتب حول فيزياء الزمن، فبحكم خبرته في العلوم العصبية، فإنه ليس بعيدًا جدًا عن الفيزياء. إن تفسيره لسبب تضمين نظرية أينشتاين المميزة عن النسبية لفكرة وجود اللبنة الكونية – وهي تشكيل رباعي الأبعاد من الزمان-المكان حيث يتواجد 'الهنا' و'الهناك' و'الهنالك'' بالتوازي مع الماضي والحاضر والمستقبل - يشكِّل حالة نموذجية بالنسبة للنزعة الأبدية.

إن مفهوم النسبية يدمر مفهوم التزامنية، ففكرة قيام كلا المراقبين بالحركة بالنسبة لبعضهما البعض، قد تتوافق مع تزامن الأحداث، ولكن عندما تقترب السرعة من سرعة الضوء، فإن نظام تعقاب الأحداث سوف يُنظر إليه بطريقة مختلفة بالنسبة للمراقبين المختلفين.

يكتب بونومانو: 'إذا افترضنا أن جميع الأحداث التي حدثت أو ستحدث موجودة باستمرار في نقطة معينة من اللبنة الكونية... فإن نسبية التزامن تصبح أقل تعقيدًا أمام حقيقة إمكانية ظهور جسمين في المكان وأن يكونا متراصفان أو معتمدان على مكان وقوفك. إن أعمدة الهاتف الواقفة على الطريق السريع تبدو لك متراصفة إذا وقفت على أحد جانبي الطريق، ولكن لا يحدث ذلك إذا ما وقفت في وسطه، بمعنى أن الأمر يعتمد على منظور الرؤية'. وذات الشيء ينطبق على الزمن.

ولكن تصطدم النزعة الأبدية مع تجربتنا الذاتية مع جريان الزمن، وبكلمات أخرى، فإن الفيزياء تصطدم مع العلوم العصبية. ففي حين صحة شعورنا بمضي الزمن، وبالتالي ميلنا الغريزي للنزعة الحاضرية، يشير بونومانو إلى أن تصوراتنا عن الزمان الموضوعي تتصل بشكل معقد بتصوراتنا عن المكان. ويتحدث عن ذلك من خلال المجاز الذي نستخدمه للحديث عن الزمن: 'لقد كان ذلك فاصل إعلاني قصيرا ممتعا، لقد درسنا الزمن منذ زمن طويل جدًا... وأنا أتطلع قدمًا لردكم، فهذه فكرة مربكة جاءت في وقت متأخر'. ففي سياق حفظ الزمن، يتعاون الدماغ مع الدورة العصبية التي تعمل على تصوِّر المكان، وبالتالي فإنها تتعامل مع الزمان والمكان بنفس الطريقة، من المماثلة المثيرة إلى النسبية المتميزة.

يقودنا ذلك إلى أحد أبرز التساؤلات الصعبة التي يثيرها الكتاب وهو: هل تشكَّلت نظرياتنا عن الفيزياء بناء على اطلاع على بنية دماغنا؟ حيث يكتب بونومانو: 'والآن وقد عرفنا أن الدماغ بذاته هو زمان مكاني، فسيكون من الجدير التساؤل عن مدى قيام رواد النزعة الأبدية بالاستفادة من حقيقة التفاعل مع بنية الوظائف المسؤولة عن الاختيار بين النزعة الأبدية والنزعة الحاضرية'.

إن واقع المعرفة العلمية الحالية عن الزمن لا تشير إلى بوادر بروز إجابات واضحة عن تساؤلاته. وهذا الكتاب – الذي سيلفت الانتباه في معظم أجزائه – سوف يتركك في النهاية بتساؤلات أكثر من الإجابات، وهو أمر مفهوم. يقول بونومانو: 'إن شعورنا الذاتي بالزمن يقبع في مركز دوامة من الأسرار العلمية غير المحلولة، كالوعي والإرادة الحرة والنسبية وميكانيكا الكم وطبيعة الزمن'.

يمكن أن يكون كتاب 'دماغك كآلة زمنية' مقلقًا بعض الشيء، خاصة بعد تضمينه لفكرة إمكانية العيش في عالم تتواجد فيه جميع اللحظات. ولكن يقود الكتاب أيضًا إلى صمت عميق، مع إدراك المرء أن جميع الاكتشافات العلمية المعقدة خلال القرن الماضي ما زالت تصارع ذات العدو: الزمن.

 

التعليقات