16/01/2018 - 23:39

العمل... غايته ومعناه؛ كيف نتجنب الدخول في مستقبل عدمي؟

منذ قرون، طمحت النخبة في المجتمعات من أوروبا وحتى آسيا التحرر من الوظيفة المعيلة. حيث عرَّف أرسطو "رجل الحرية" باعتباره قمة الوجود الإنساني، فرد متحرر من أي مخاوف تتعلق بضروريات الحياة...

العمل... غايته ومعناه؛ كيف نتجنب الدخول في مستقبل عدمي؟

توضيحية (pixabay)

كانت الغالبية العظمى من البشر عبر التاريخ تعمل لأنه وبكل بساطة يجب عليها القيام بذلك. وجد الكثير من البشر في العمل الراحة والقيمة والمعنى في جهودهم، ولكن البعض عرَّف العمل كضرورة لا بد من تجنبها إن أمكن.

ومنذ قرون، طمحت النخبة في المجتمعات من أوروبا وحتى آسيا التحرر من الوظيفة المعيلة. حيث عرَّف أرسطو "رجل الحرية" باعتباره قمة الوجود الإنساني، فرد متحرر من أي مخاوف تتعلق بضروريات الحياة ويمتلك مسؤولية كاملة عن نفسه. (وعلى نحو ذي دلالة، لم يعرف التجار الأغنياء بالأحرار بسبب درجة احتلال فكرة الاستحواذ على عقولهم).

رفعت وعود الذكاء الاصطناعي والأتمتة (استخدام الأجهزة الآلية، او جعل الأشياء أوتوماتيكية) أسئلة جديدة حول دور العمل في حياتنا. وسوف يظل معظمنا منهمكين لعقود بالتفكير بنشاطات تتضمن الإنتاج المادي أو المالي، ولكن مع ما تقدمه التكنولوجيا من خدمات وبضائع بأقل تكلفة، سيُجبر البشر على اكتشاف أدوار جديدة، أدوار لا ترتبط بالضرورة بطريقة تصورنا عن العمل اليوم.

قال عالم الاقتصاد بريان آرثر، مؤخرًا، إنه "لن يكون البعد الاقتصادي هو أحد أجزاء التحدي، بل البعد السياسي". كيف سيتم توزيع غنائم التكنولوجيا؟ يشير آرثر إلى الاضطراب السياسي الذي تعيشه الولايات المتحدة وأوروبا اليوم باعتباره نتيجة في جانب منه للهوة الناشئة بين النخبة وباقي أفراد المجتمع.

وفي أواخر هذا القرن، ستكتشف المجتمعات كيفية توزيع المنافع الإنتاجية للتكنولوجيا لسببين رئيسيين: لأنه سيكون أمرًا أسهل ولأنه يتوجب عليهم القيام بذلك. خلال هذا، يحكي لنا التاريخ أن تركز الثروة في أيدي فئة قليلة يؤدي إلى ضغوطات اجتماعية ستعبر عن نفسها إما بطرق سياسية أو عبر العنف أو كلاهما.

ولكن هذا يرفع تحديًا آخر أكثر إزعاجًا، فمع توسع منافع التكنولوجيا – عبر التجديد أو الثروة – سيواجه المزيد منا هذا السؤال: "عندما تؤدي التكنولوجيا كل شيءٍ تقريبًا، فما الذي ينبغي علينا فعله، ولماذا؟".

منذ الثورة الصناعية تحديدًا، نقلت التكنولوجيا فئة موسعة من البشر بعيدًا عن إنتاج أساسيات الحياة. وفي حين بقي الكثير من الناس عالقين في صراع يومي من أجل البقاء، كانت هناك فئة قليلة من البشر مثقلة من أجل ذلك. ومع تطور أنظمة الذكاء الاصطناعي والروبوتات لتصبح أكثر تمكنًا والتزامًا، سيتجه العمل بشكل متزايد لوحده من دوننا، وقد يحقق ما وصفه جون مينارد كينيس، في كتاب "الإمكانيات الاقتصادية لأحفادنا" (Economic Possibilities for our Grandchildren) بقيام التكنولوجيا باستبدال العمل البشري بشكل أسرع من اكتشاف وظائف جديدة، وذلك مع البطالة التي تنتجها التكنولوجيا.

توقع كينيس أن ذلك سيكون "مرحلة مؤقتة من عدم الاتزان"، وأنه خلال قرن من الزمان، قد تتغلب البشرية على التحدي الاقتصادي الرئيسي وتتحرر من الضرورة البيولوجية للعمل.

هذه رؤية مبشرةٌ جدًا، ولكنها طريق ملتوٍ ومحفوف بالمخاطر. وينبه كينيس، "إذا تم حل المشكلة الاقتصادية، سوف تفتقد البشرية للشعور التقليدي بالغاية... ولكني اعتقد أنه لا يوجد بلاد ولا أشخاص يستطيعون التطلع لعصر من الراحة والوفرة بلا فزع".

بلا ارتياب، تساءل كينيس كيف سيتمكن الناس من تركيز انتباههم ومصالحهم ومخاوفهم عندما تتعافى من ضرورة تحصيل الرزق؟ وبينما نحن نتحرر من مطارداتنا التقليدية، كيف لنا أن نتجنب الدخول في مستقبلٍ عدمي؟ كيف سنحدد شعورنا بالغاية والمعنى والقيمة؟

بإمكاننا استكشاف هذا السؤال عبر عمل الفيلسوفة والمؤرخة والصحفية حنا آرنت، والتي صممت في الخمسينات إطارًا واسعًا لفهم كافة النشاطات البشرية. في كتاب "الوضع البشري"، ضمن عمل عميق ومثير للتحدي، وصفت آرنت ثلاثة مستويات ما عرفته بـ"فيتا أكتيفا".

يولِّد العمل حاجات حيوية – المدخلات، مثل الطعام، التي تحافظ على حياة البشر. يخلق العمل آثارًا مادية وبنىً تحتية تعرِّف عالمنا ويجعلنا نصمد في حياتنا – كالمنازل والبضائع وحتى الأعمال الفنية. يحوط العمل النشاطات التفاعلية والتواصلية بين البشر، أي المجال العام. في العمل، نحن نستكشف ونؤكد على اختلافاتنا ككائنات بشرية تسعى للخلود.

وخلال المئة سنة القادمة، ستسيطر أنظمة الذكاء الاصطناعي والروبوتات بشكل متزايد على العمل، مما سينتج ضروريات وآثار مادية على حياة الإنسان، مما سيمكن المزيد منا من للصعود (قدمت آرنت ذلك كتوجه صعودي، وهذا حكم قيمي نوعي) إلى فضاء العمل. وبالتأكيد، قد ينخرط بعض الناس في العمل بالاختيار، ولكن الاختيار هو الأمر الجوهري المتميز.

يضع معظم الفلاسفة اليونانيين القدماء التفكر على العمل باعتباره قمة المسعى البشري. تصارعت آرنت مع هذه الفكرة، وحاججت لذلك باسم العمل. ويبدو أن الثقافة المعاصرة تؤيد ذلك. ولكن في النهاية، يعمل العمل والتفكر بشكل أفضل عندما يتحالفان. نحن نمتلك فرصة – وربما مسؤولية – تحويل فضولنا والطبيعة الاجتماعية إلى عمل وتفكر.

سوف نواجه تعديلات دراماتيكية لـ"فيتا أكتيفا" الخاصة بنا خلال العقود القادمة، وسيسأل كل منا ما سيفعله ولماذا. والأمر المبشر أن أحفادنا سيصبحون أحرارًا للسعي لحياة تكون مزيجًا من الانخراط والاستكشاف، أو الزراعة أو الطبخ. وإذا كنا محظوظين، سيكون ذلك خيارًا أكثر من كونه ضرورة.

افتتحت آرنت كتاب "الوضع البشري" بتنبيه حول "مجتمع عمال على وشك التحرر من قيود العمل". أين الخطر؟ هو أن "هذا المجتمع لن يعود قادرًا على معرفة نشاطات أعلى وذات معنى من أجل السعي لتحصيل هذه الحرية". تركز آرنت تحديدًا على هذا التحدي ضمن الأيديولوجيا الشيوعية التي تبجل قيمة العمل، والتي يمكن أن نساويها بحالتنا الآن.

عندما تحررنا الآن من المزيد من المهمات، أي سنوجه تركيزنا؟ هذا سيكون السؤال المحدد للقرن القادم.

(ترجمة خاصة: عرب 48)

التعليقات