20/12/2020 - 18:49

دمقرَطة الاقتصاد سبيلنا لعالم ما بعد النُّدرة

لقد غيّر الإنترنت، والهواتف الذكية، ووسائل التواصل الاجتماعي، تفاعلنا مع بعضنا البعض ومع العالم من حولنا. ما الذي قد يحدث إذا ما خرجت هذه التقنيات الرقمية من إطار الشاشات وغرست نفسها بشكل أعمق في العالم المادي؟

دمقرَطة الاقتصاد سبيلنا لعالم ما بعد النُّدرة

في نانتونغ بمقاطعة جيانغسو بشرق الصين (توضيحية - أ ب)

في ما يلي ترجمة بتصرّف، خاصة بـ"عرب 48"، لمقالِ الكاتب آرون بينانف الذي تُنشر مقالاته في العديد من الصحف والمجلات اليسارية والتقدمية الصادرة باللغة الإنجليزية، وهو مؤرخ عمل في جامعة شيكاغو الأميركية، ويعمل اليوم باحثًا في جامعة همبولت الألمانية.


يجيب خطاب الأتمتة المعاصر على نزعة عالمية حقيقية، وعنوانها هو وظائف أقل بكثير لعدد هائل من الناس، لكنه يتجاهل المصادر الفعلية لهذا الاتجاه، ألا وهي تدهور التصنيع، وانخفاض الاستثمارات، وثلّة من النخب فاحشة الثّراء التي تحارب الوصول إلى مجتمعات ما بعد الندرة، أو اقتصاد الوفرة.

لقد غيّر الإنترنت، والهواتف الذكية، ووسائل التواصل الاجتماعي، تفاعلنا مع بعضنا البعض ومع العالم من حولنا. وما الذي قد يحدث إذا ما خرجت هذه التقنيات الرقمية من إطار الشاشات وغرست نفسها بشكل أعمق في العالم المادي؟

تبشر الروبوتات الصناعية المتطورة، والسيارات والشاحنات ذاتية القيادة، وآلات فحص السرطان الذكية، بعالم يتّسم بالسهولة واليسر، ولكنها تشعرنا نحن البشر بالقلق. فما الذي قد يفعله الإنسان في مستقبل مبرمج أوتوماتيكيًا على نطاق واسع؟ هل نتمكن من تكييف مؤسساتنا لتحقيق حلم تحرير البشرية الذي قد يتيح تحقيقه عصرا جديدا من الآلات الذكية؟ أم سيتحول هذا الحلم لكابوس؟

(توضيحية - Pixabay)

والواقع أن النقاش المطروح حول الأتمتة يطرح مثل هذه التساؤلات ويصل إلى نتيجة مستفزة، ومفادها أن البطالة الجماعية الناجمة عن التطور التكنولوجي قادمة لا محالة، ولابد من إدارتها عبر توفير دخل أساسي للجميع، لأن قطاعات واسعة من السكان سوف تفقد إمكانية تحصيل الأجور التي تمكّنها من الحياة. ولكن هل يفهم منظرو الأتمتة المُستقبل على ما هو عليه حقًا؟

يعاود النقاش حول الأتمتة الظهور اليوم، كاستجابة لأزمة عالمية حقيقية: هناك عدد قليل من فرص العمل لأعداد هائلة من الناس. ويتجلى النقص المزمن بطلب العمالة، في التطورات الاقتصادية كالإنعاش المفتقر لفرص عمل، والأجور الراكدة، وتفشي انعدام الأمان الوظيفي. ويتضح ذلك أيضًا بالظواهر السياسية التي يحفزها اتساع فجوة انعدام المساواة بين البشر؛ كالشعبوية، والبلوتوقراطية (حكم الأثرياء)، ونشوء نخبة رقميّة ثرية تولي اهتمامًا أكبر للهروب إلى المريخ بواسطة الصواريخ، من التركيز على تحسين حياة "الريفيين الرقميين" الذين سيتركونهم على كوكب محترق.

وعند وضع حشود المشردين العاطلين عن العمل في مدينة أوكلاند في ولاية كاليفورنيا في كفّة، ووضع توظيف الروبوتات المتزايد في مصنع "تيسلا" الواقع على بعد بضعة كيلومترات في مدينة فريمونت، فمن السهل أن نتصور أنه لا بدّ أن يكون المنظرين بالأتمتة محقيّن في طرحهم. ولكن التفسير الذي يقدمونه، والذي يتلخص بأن التغير التكنولوجي الجامح يدمر الوظائف، ليس أكثر من تفسير خاطئ.

طلب العمالة دائم الانخفاض
يتناقص طلب العمالة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي باستمرار، بل هو أفدح في بلدان مثل جنوب أفريقيا والهند والبرازيل، ولكن سببه يكاد يكون عكس السبب الذي يضعه منظرو الأتمتة. والواقع أن معدلات نمو إنتاجية العمل آخذة في التباطؤ، وليس التسارع. وكان من الواجب أن تؤدي هذه الظاهرة إلى زيادة الطلب على العمالة، باستثناء أن تباطؤ الإنتاجية طغت عليه نزعة أخرى، ففي نمو وصفه الاقتصادي ماركسي التّوجه، روبرت برينر، بـ"الانحدار الطويل"، والذي أقر به التيّار التقليدي من الاقتصاديين متأخرًا، ووصفوه بـ"الركود المزمن"؛ تنمو الاقتصادات بوتيرة أبطأ، وعلى نحو تدريجي، منذ أوائل سبعينيات القرن العشرين.

والسبب لذلك هو أن فائض السعة الصناعية المستمرة منذ عقود، أدى إلى قتل محرّك النمو الصناعي دون العثور على بديل يُذكر، وبخاصة في الأنشطة بطيئة النمو ومنخفضة الإنتاجية والتي تشكل القسم الأعظم من قطاع الخدمات. ومع تباطؤ النمو الاقتصادي، تتباطأ معدلات خلق فرص العمل. وكان تباطؤ النمو، وليس تدمير الوظائف الناجم عن استخدام التكنولوجيا، السبب في انخفاض الطلب العالمي على العمالة.

(توضيحية - Pixabay)

وإذا تجاوزنا تركيز منظري الأتمتة على المصانع الأوتوماتيكية اللامعة والروبوتات التي يُمكنها أن تلعب "تنس الطاولة"، فبوسعنا أن نرى عالمًا متهالك البنية الأساسية، ومدنًا تتناقص بها الصناعة، وقطاعا صحيًّا منهك، ومندوبي مبيعات يتقاضون رواتب منخفضة، بالإضافة إلى مخزون ضخم من رأس المال الممول مع أماكن متضائلة لاستثمارها بشكل مربح.

وفي محاولة لإحياء الاقتصادات متزايدة الركود، أنفقت الحكومات ما يقرب من نصف القرن في فرض تدابير التقشف القاسية على سكانها، والانتقاص من تمويل المدارس والمستشفيات وشبكات النقل العام وبرامج الرعاية الاجتماعية. وفي الوقت ذاته، حصلت الحكومات والشركات والأسر على كميات غير مسبوقة من الديون تُشجّعها أسعار فائدة بالغة الانخفاض.

لقد تركت هذه الاتجاهات والأسباب، الاقتصاد العالمي، في حالة يُرثى لها أمام مواجهة أحد أعظم التحديات على الإطلاق: الركود العالمي الناجم عن جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19). فقد اجتيحت أنظمة الرعاية الصحية المتهدمة بأعداد هائلة من المرضى، وأغلقت المدارس أبوابها بعدما كانت مصادر حيوية لتوفير التغذية الأساسية لكثير من الأطفال، فضلا عن الرعاية النهارية للأطفال التي تشتد حاجة الأهالي لها. كل ذلك بينما يتهاوى الاقتصاد. وعلى الرغم من الحوافز النقدية والمالية الهائلة، فإن الاقتصادات الضعيفة من غير المرجح أن تتعافى بسرعة من الصدمة.

وسط انخفاض معدلات الاستثمار، لا داعي لخشية الأتمتة

لهذا السبب تحديدًا أُفرغت التوقعات بشأن احتمال اجتياح موجة أتمتة وبائية للعالم، من معناها. ورغم أن التغير التكنولوجي لم يكن في حد ذاته سببا لخسارة الوظائف، على الأقل هذه المرة، إلّا أن منظري الأتمتة من أمثال مارتن فورد، وكارل بينيديكت فري، يزعمون أن انتشار الجائحة سيجعل المستقبل أكثر اعتمادًا على الآلات. ويدّعي هؤلاء أن الوظائف المفقودة لن تعود أبدًا، لأن روبوتات تستطيع الطهي، والتنظيف، وإعادة التدوير، وتكييس البقالة، وغيرها من الوظائف، لن تُصاب بكوفيد-19 أو أي مرض آخر، ولن تنقله.

وهنا أخطأ منظرو الأتمتة بين الجدوى التقنية للأتمتة واسعة النطاق، والتي تعتبر بحد ذاتها فرضية هشة أكثر من كونها نتيجة مؤكدة للتطور العلمي، قابليتها الاقتصادية للاستمرار. لا أحد يستطيع أن ينكر أن بعض الشركات تستثمر في الروبوتات المتقدمة للاستجابة لجائحة كوفيد-19، فقد اشترت مجموعة "والمارت" روبوتات ذاتية القيادة، وروبوتات لفحص المخازن، وروبوتات تنظيف لمتاجرها في الولايات المتحدة.

مدفوعةً بتوقعاتها لاستمرار طلبات الشراء عبر الإنترنت وتوسعها أضعافا مضاعفة، تختبر اليوم بعض متاجر البيع بالتجزئة، مستودعات مدعّمة بالروبوتات لمساعدة الجامعين على تجميع طلبات الزبائن بسرعة أكبر.

(Pixabay)

مع ذلك، من المرجح أن يكون استخدام مثل هذه التكنولوجيات الاستثناء وليس قاعدة المستقبل المنظور. وفي ظل قِلة الأسباب التي قد تدفعنا لتوقع ارتفاع قوي في الطلب في أعقاب ركود عميق، فإن قِلة قليلة من الشركات سوف تخوض باستثمارات جديدة كبرى. وبدل ذلك، ستستغل الشركات على الأرجح، قدراتها الإنتاجية الحالية، أي أنها ستوفر التكاليف من خلال الاستغناء عن العمالة وتسريع وتيرة العمل بالنسبة لبقية العمال، وهذا هو بالضبط ما فعلته الشركات في أعقاب الركود الأخير.

وفي كثير من الأحيان يفترض النقاد ببساطة أن الأتمتة تسارعت بعد عام 2010 ويأسسون توقعاتهم للمستقبل على استيعاب خاطئ للماضي، ففي الواقع لم يكن الطلب مبررا لاستثمارات كهذه (في الأتمتة). ففي الولايات المتحدة مثلًا، شهدت الأعوام التي تلت عام 2010، أدنى معدلات لتراكم رأس المال وأدنى معدلات لنمو الإنتاجية منذ بدأ عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية. وجلّ ما سيفعله كوفيد-19 اقتصاديًا، هو أنّه سيكثف هذه النزعات، الأمر الذي سيؤدي إلى جولة أخرى من الإنعاش المُفرغ من فرص العمل في العقد القادم.

الوظائف تختفي حتى بدون الأتمتة

في مختلف أنحاء العالم، بدأت فترات الركود المرتبطة بكوفيد-19 تترك إرثًا يتسم بالبطالة الجماعية والبطالة المقنعة، ومن الصعب التعافي منه. وطبقا لتقديرات منظمة العمل الدولية فقد خسرت قوّة العمل عالميًا، 14% من ساعات العمل في نيسان/ أبريل، وأيار/ مايو، وحزيران/ يونيو 2020، وهو ما يعادل 480 مليون وظيفة بدوام كامل خرجت من قوة العمل العالمية التي تبلغ نحو 3.5 مليار وظيفة بالمجمل.

والواقع أن التحولات المتتالية في أسواق العمل ضاعفت من أثر هذه الجائحة، فعلى مدى نصف القرن الماضي، باتت أعمال الخدمات تمثل ما بين 70% و80% من العمالة في البلدان ذات الدخل المرتفع و50% من العمالة في جميع أنحاء العالم. وعادة ما تضرب فترات الركود قطاع الخدمات بدرجة أقل من أي قاطع آخر، فبخلاف الإنفاق على السلع المعمرة كالسيارات والأجهزة المحوسبة، فإن الإنفاق على الخدمات يبقى مزدهرا أثناء فترات الانحدار الاقتصادي عادة. ولكن، وكما يزعم الخبير الاقتصادي، غابرييل ماثي، فإن عمليات الإغلاق الوقائية ضد الجائحة، حملت معها التأثير المعاكس تمامًا، فأصبح قطاع الخدمات الأشد تضررا.

ومع انهيار الإنفاق على الخدمات، ومرتبات العديد من العمال، ترددت أصداء انحدار الطلب الاستهلاكي عبر الاقتصاد وما ترتب على ذلك من عواقب مدمرة بالنسبة للعمال في مختلف أنحاء العالم. وكان انهيار العمل سيئا بشكل خاص على النساء، واللاتي يتواجدن على مستوى العالم، في أنشطة مثل تجارة التجزئة التي أضرت بها عمليات الإغلاق الكامل بجسامة. والنساء يمثلن جزءًا كبيرا من مجمل العاملين في مجال الرعاية الصحية والخطوط الأمامية أيضا، ولا شك في أن النساء أُرغمن على تولي أغلب الزيادة في أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر التي يتطلبها الوباء، ليس فقط رعاية المرضى والمحتضرين، ولكن أيضًا الاهتمام بأكثر من 1 مليار طفل حُرموا من المدارس منذ آذار/ مارس الماضي.

أدى التحول إلى عالم يغلب عليه قطاع الخدمات إلى تضخيم العواقب المدمرة للجائحة. وكما شرح رجل الاقتصاد، ويليام بومول، في ستينيات القرن العشرين، فإن قطاع الخدمات هو قطاع خامد بصورة عامة، فعلى عكس التصنيع في أوج مجده، فإن الخدمات عموما لا تعرض أنماطا ديناميكية من التوسع المدفوع بارتفاع معدلات نمو إنتاجية العمل وهبوط الأسعار. وبدلا من ذلك فإن الزيادات في الطلب على الخدمات تعتمد عمومًا على تأثيرات غير مباشرة ناجمة عن الابتكارات المعززة للإنتاجية والتي تحدث في القطاعات الاقتصادية الأخرى. وهناك صلة واضحة بين التوسع العالمي لقطاع الخدمات الراكد، والركود المتزايد للاقتصاد.

(توضيحية - أ ب)

مع حلول عصر اللاتصنيع، والذي بدأ في الولايات المتحدة وبريطانيا في أواخر ستينيات القرن العشرين، ليؤثر بعد ذلك على قسم كبير من بقية العالم في العقود التالية، لم يثبت أي قطاع آخر نفسه كبديل كاف للتصنيع. ومع هبوط محرك النمو الصناعي القوي سابقا، أصبح الاقتصاد العالمي بلا محرك.

تفاقم البطالة المقنعة سيزيد التفاوت الاقتصادي سوءا

رغم ضعف محرك النمو الاقتصادي العالمي، إلّا أن العمال سيبقون مضطرين لإيجاد سبيل لكسب الأجور في عصر الجائحة، وما بعدها. وبناء على ذلك، فإن البطالة سوف تُستبدل بمرور الوقت بأشكال مختلفة من البطالة المقنعة. بعبارة أخرى، سوف يوضع العمال في موقف لا يجدون أمامهم أي خيار غير الحصول على وظائف تقدم أجورا أقل من العادية أو ظروف عمل أسوأ من المعتاد. وهؤلاء الذين لا يستطيعون العثور على عمل على الإطلاق يفتحون متاجر في القطاع غير الرسمي أو يخرجون تمامًا من القوة العاملة.

وكما كانت الحال في أعقاب فترات الركود السابقة، فإن الغالبية العظمى من العمال الذين يعانون من البطالة على مستوى العالم، سوف ينتهي بهم الحال إلى وظائف الخدمات ذات الأجور المتدنية. والواقع أن الخدمات التي تشهد معدلات نمو إنتاجية مستمرة الانخفاض، والتي تدفع أجورا منخفضة أيضًا، أصبحت المساحات الرئيسية لخلق فرص العمل في الاقتصادات الراكدة.

وفي هذه الوظائف تشكل أجور العمال حصة كبيرة نسبيا من السعر النهائي الذي يدفعه المستهلكون، وهذا من شأنه أن يمكّن الشركات القائمة على الخدمات من رفع الطلب على منتجاتها من خلال خفض أجور العمال في مقابل أي زيادات طفيفة في إنتاجية العمل يمكن تحقيقها في الاقتصاد الأوسع. وتستخدم المشاريع الأسرية صغيرة النطاق، والتي تشكل أكبر قوة عمل غير رسمية في العالم، إستراتيجية مماثلة للتنافس مع الشركات ذات التمويل الضخم، فهذه المشاريع تلجأ لضغط معاشات أسرهم المنزلية بقدر الإمكان.

ومع ارتفاع معدلات البطالة المقنعة، لا بدّ أن يتفاقم انعدام المساواة بين الناس. ولن يتمكن جموع الناس من العثور على عمل إلّا إذا كان نمو مدخولهم يحوم حول المتوسط دون تجاوزه بشكل كبير. وكما لاحظ الاقتصاديان؛ ديفيد أوتور، وآنا سالومونز، فإن "تنحية العمالة لا تعني انخفاضًا في التوظيف أو بساعات العمل أو الأجور"، بل إنها قادرة على إخفاء نفسها في الإفقار النسبي للطبقة العاملة، باعتبارها "فاتورة الأجور، أو ناتج ساعات العمل والأجور في الساعة، فترتفع بسرعة أقل مما ترتفع به القيمة المضافة". وقد ساهم هذا التكتل في التحول بمقدار 9 نقاط مئوية في دخل رأس المال لبلدان مجموعة العشرين، على مدى الخمسين عاما الماضية. وفي مختلف أنحاء العالم، هبطت حصة العمال من الدخل بنحو 5 نقاط مئوية بين عام 1980 ومنتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مع استيلاء ذوي الأصول الغنية على حصة متزايدة من نمو الدخل.

اقتصاد الوفرة
أصبحت تحدد الحياة في الاقتصادات الراكدة وفقا لانعدام الأمان الوظيفي الشديد، والذي يتفاقم سوءًا في أعوام الركود مثل عام 2020، والتي قدّمت بشكل فني رائع في أفلام الخيال العلمي الديسوتوبي مثل "إن تايم"، و"تشيلدرن أوف من"، و"ريدي بلاير ون"، والتي اشتهرت بعرضها واقعًا يرى بالبشر فائضًا لا حاجة لمعظمهم، إذ أن معظم الناس يصارعون من أجل الحياة دقيقة بعد دقيقة، بينما يجمع الأغنياء كميات ضخمة من رأس المال إلى الحد الذي يكفيهم مدى الحياة.

(Pixabay)

ولهذا السبب على وجه التحديد، من المهم أن نفكر في موضوع خطاب الأتمتة اليوم، وليس فقط لمكافحة تفسيره الخاطئ المتمثل بكونها المكافئ للقلّة المزمنة في طلب العمالة، بل أيضًا لإلهام الجهود الرامية إلى حل مشاكل العمل المزمنة في العالم للوصول إلى عالم مثالي.

في عالم يعاني من وباء عالمي، واتساع فجوة التفاوت، وتعنّت النيوليبرالية، وتجدد النزعة العرقية، وتغير المناخ، ألهم منظرو الأتمتة الناس برؤية لمستقبل حيث تتقدم البشرية إلى المرحلة التالية من تاريخها، أيا كان ما يعنيه ذلك. فيها، يُفترض بالتكنولوجيا أن تساعدنا على نيل الحرية واكتشاف شغفنا واتباعه. وكما هو الحال مع العديد من وجهات النظر السالفة التي صبت للمثالية، فلا بد من تحرير هذه الرؤى من الأوهام التكنولوجية والتكنوقراطية لمؤلفيها في ما يتعلق بكيفية إحداث التغيير الاجتماعي البنّاء.

والواقع أننا قادرون على تحقيق عالم ما بعد النُدرة الذي تستحضره نظريات الأتمتة حتى لو تبين أن أتمتة الإنتاج مستحيلة. الأمر المُجازف به هنا، هو مسألة ما الذي يترتب على تحقيق "اقتصاد الوفرة" في واقع الأمر. ووفقا لخطاب الأتمتة، فإن الوفرة تشكل عتبة تكنولوجية سوف تتقاطع مع تكنولوجيات جديدة لامعة. وينبغي لنا أن نفهم الوفرة بشكل مختلف، ليس باعتبارها غلبة تقنية بل باعتبارها علاقة اجتماعية يمكننا وضعها موضع التنفيذ من دون الحاجة إلى المزيد من الطفرات التكنولوجية، بينما تبقى ضمن حدود الاستدامة البيئية.

إن الحياة في عالم الوفرة تعني الحياة في عالم حيث يضمن للجميع الحصول على السكن، والغذاء، والملابس، والصرف الصحي، والمياه، والطاقة، والرعاية الصحية، والتعليم، ورعاية الأطفال والمسنين، ووسائل الاتصال والنقل، دون استثناء أحد. إنه الأمن المادي الثابت الذي يشتمله هذا المبدأ، هو العنصر الذي يسمح للناس بطرح سؤال: "ما الذي سوف أفعله حياتي؟". بدلا من "كيف سأُبقي نفسي حيًا؟" وبدلا من الانتظار الأبدي لحلول إصلاح تكنولوجي، بإمكاننا أن نبلغ عالم الوفرة من خلال العمل التعاوني الذي يظل ضروريا في حياتنا ولا يمكن أتمتته.

ومن المهم أن نفعل هذا الآن أكثر من أي وقت مضى. وفي خضم الركود الناجم عن كوفيد-19، والأزمة المناخية الأخطر بكثير التي تنتظرنا في الأعوام المقبلة، يتعين علينا أن نستهل عالم ما بعد الندرة من خلال تزويد كل إنسان بالسلع والخدمات الأساسية التي يحتاج إليها حتى يعيش حياته، بصرف النظر عن مساهماته في العمل.

الحل الوحيد هو دمقرطة الإنتاج

سيتطلب تحقيق عالم الوفرة هذا، إعادة تنظيم الإنتاج جذريا، فاليوم لا يملك الناس حقًا بالتعبير عن كيفية إدارة إنجاز عملهم، إلا نادرًا، وكثيرون منا يذهبون للعمل كل يوم لأنهم سوف يتضورون جوعا إذا لم يفعلوا ذلك. أما في عالم تُضمن بها احتياجات الناس، فلابد من دمقرطة العمل. فإن تقاسم العمل مع إعطاء مخصصات للكفاءات والقدرات، من شأنه أن يقلل من مقدار العمل الضروري المطلوب من أي فرد، وسط ضمان حصول الجميع على وقت فراغ وافر.

قدّر عالم الاجتماع والناشط السياسي، دو بويز ذات مرّة، أنّه في "الديمقراطية الصناعية المستقبلية" يكفي "ثلاث وحتى ست ساعات" من العمل الضروري في اليوم، مما يترك "وقتًا وفيرًا لقضاء وقت الفراغ وممارسة الرياضة والدراسة والهوايات". وناقش أنه بدلا من إشراك البعض في "خدمة وضيعة"، يتمكن آخرون من صنع الفن، وقال: "جميعنا فنانون وكلنا يخدم". وكانت هذه الرؤية لما بعد النُدرة هي ما كانت "الاشتراكية" و"الشيوعية" تعنيه قبل أن تنصهر في وقت لاحق بالتخطيط المركزي الستاليني والتصنيع السريع.

إن الطريق إلى مجتمع ما بعد الندرة مسدود حاليا بسبب طبقة ضئيلة من الأفراد الأثرياء الذين يحتكرون القرارات الخاصة بالاستثمار وتشغيل العمالة، ولا مصلحة لديهم بدمقرطة الاقتصاد.

على مدى أربعين عاما، استخدمت هذه النخبة الضئيلة التهديد بعزل الاستثمار عن الاقتصاد الهش لإرغام الأحزاب السياسية والنقابات المهنية على الإذعان لمطالبها، كتخفيف القيود التنظيمية التجارية، وقوانين عمل متساهلة مع أرباب العمل، وتباطؤ نمو الأجور (في خضم الأزمات الاقتصادية) وعمليات الإنقاذ الخاصة والتقشف العام.

شوارع طوكيو (توضيحية - أ ب)

وبقدر ما يتعلق الأمر بأقسام من هذه النخبة الثرية، وخاصة في وادي السيليكون، والتأييد الظّاهري لمقترحات مثل الدخل الأساسي العالمي، فإن هذا ينبع من أن هذا الدّخل لا يهدد سيطرة النخبة على مقابض الاستثمار والعمالة. ولكي يعمل الدخل الأساسي كمسار نحو اقتصاد ما بعد النُدرة، فلابد أن يكون تحليل منظري الأتمتة صحيحا أولًا، أي أن الطلب المنخفض على العمالة اليوم ينبع من الأتمتة السريعة للإنتاج. وإذا كانت هذه هي الحال فإن القضية الرئيسية التي سوف يواجهها المجتمع سوف تتلخص في إعادة تنظيم التوزيع، مع تصحيح التفاوت الاقتصادي المتزايد من خلال توزيع المزيد والمزيد من الدخل كدفعات مقدمة من الدخل الأساسي العالمي.

وإذا كان نقص الطلب على العمالة راجعا إلى التكدس العالمي المفرط والاستثمار الراكد، الذي يدفع معدلات النمو الاقتصادي إلى الانخفاض، فإن هذا الصراع في التوزيع من شأنه أن يتحول بسرعة إلى صراع محصلته صفر، فيحول دون إحراز تقدم نحو مستقبل أكثر تحررا. ونظرا للمعارضة من جانب النخبة الذين يحتفظون بالسلطة اللازمة لإسقاط الفوضى على الاقتصاد من خلال الاستثمار، فسوف يكون لزاما علينا أن نصل إلى اقتصاد الوفرة من خلال الحركات الاجتماعية والنضالات التي تسعى إلى تغير الإنتاج ذاته.

اليوم، يعاني عدد هائل من الناس أعراض الانخفاض طويل الأمد في العمالة، بما في ذلك اتساع فجوة التفاوت، وانعدام الأمان الوظيفي، وتدابير التقشف، وجرائم القتل التي تقوم بها الشرطة في المجتمعات الفقيرة التي تعاني من العنصرية، فعلى مدى الأعوام العشرة الماضية، تجلت موجات من الإضرابات والمظاهرات عبر ست قارات: من الصين وهونغ كونغ إلى العراق ولبنان، ومن الأرجنتين وتشيلي إلى فرنسا واليونان، ومن أستراليا وإندونيسيا إلى الولايات المتحدة. ثم اندلعت الاحتجاجات مرة أخرى في عام 2019، ثم عادت جديد في عام 2020.

يتعين علينا أن نشارك في الحركات التي وُلدت من رحم هذه النضالات، وأن نساهم في دفع هذه الحركات إلى الأمام نحو عالم أفضل، وفي ظل السيطرة الجماعية التي تخضع لها البنية الأساسية للمجتمعات الرأسمالية، يعاد تنظيم العمل وإعادة توزيعه، ويتم التغلب على الندرة من خلال حرية تسليم السلع والخدمات، كما يتم توسيع قدراتنا البشرية بنفس القدر مع انفتاح آفاق جديدة للأمن والحرية الوجودية.

(توضيحية - أ ب)

ولن يتسنى لنا أن نكمل هذه المهمة التاريخية، وغزو الإنتاج، ثم الانتقال إلى تركيبة جديدة لما تعنيه الإنسانية إلا من خلال الحركات شديدة التنظيم، لكي نحيا في عالم خال من الفقر وأصحاب المليارات، ومن اللاجئين عديمي الجنسية ومخيمات الاحتجاز، ومن الأرواح التي تُزهق في الكدح الذي لا يوفر لحظة راحة، فما بالك بالحلم.

وإذا فشلت مثل هذه الحركات، فربما يكون أفضل ما نحصل عليه هو دخل أساسي عالمي متواضع، وهو الاقتراح الذي تجربه بعض الحكومات الآن كاستجابة للركود الحالي. ولا ينبغي لنا أن نكافح من أجل تحقيق هذا الهدف المحدود، بل يتعين علينا أن نؤسس لكوكب أكثر استدامة في عالم ما بعد النُدرة.

التعليقات