01/01/2021 - 22:35

أزمة التّشكيك باللقاحات تبدأ بشركات صناعة الأدوية

ربما لا تكون التجاوزات المستمرة لصناعة الأدوية السبب الوحيد في انتشار الشعور المناهض للقاحات، لكنّ حجم انتشارها سينخفض بالتأكيد في عالم تُصبح فيه صناعة الأدوية منصبّةً على المنفعة العامة.

أزمة التّشكيك باللقاحات تبدأ بشركات صناعة الأدوية

امرأة تتلقّى اللقاح في النقب (أ ب)

في ما يلي ترجمة بتصرّف، خاصّة بموقع "عرب 48"، لمقالِ الكاتب والمحرِّر، دان دارا، من تورونتو.


في التاسع من كانون الأول/ ديسمبر 2020، أعلنت وزارة الصحة الكندية المصادقة على استخدام لقاح "بيو إن تيك" المضاد لفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، الذي طوّرته شركة "فايزر"، لتُصبح كندا ثالث دولة تصادق على اللقاح بعد بريطانيا والبحرين. وفي يوم صدور هذا النبأ، ظهر كايل كيمبر، الأخ غير الشقيق لرئيس الوزراء، جاستن ترودو، في الصفحة الأولى لصحيفة "ناشيونال بوست"، شاجبًا حملة التطعيم.

وكيمبر الذي وصفته الصحيفة بـ"مناهض اللقاحات، ورائد الأعمال المختص بالبيتكوين"، والناقد "المحب" لترودو، هو ثري يميني ليبرالي تقليدي، تتماشى مخاوفه من "إعادة ضبط كُبرى" واللقاحات، مع شغفه بالعملات الإلكترونية، والريبة من الشركات والحكومات. ووصف لقاحات كوفيد-19 في صفحته عبر "فيسبوك"، بـ"المزيج التجريبي".

وبالطبع، ليس جميع مناهضي اللقاحات أثرياء ولا تربطهم صلة قرابة بقادة عالميين. وفي كندا، تنامى أكثر نمط معروف لمناهضي اللقاحات، أي المكوّن من مجموعات تتمتع بحضور قوي على وسائل التواصل الاجتماعي وغارقة في نظريات المؤامرة والإيمان بالعلوم المزيّفة، على مدار العقد الماضي. ووفقًا للمراقب العالمي في "صندوق ويلكم"، فإن نحو 50% من الكنديين "متردّدون" تجاه تلقي اللقاحات.

ووجد استطلاع للرأي أُجري في تموز/ يوليو الماضي، أن 47% من الكنديين يعتزمون تلقّي اللقاح، فيما قال 11% من المستطلعة آراؤهم إنهم غير متأكدين من رغبتهم في ذلك، بينما قال 15% إنهم لن يتلقّوه في الغالب.

وطوال انتشار الجائحة، برز مناهضو اللقاحات بوضوح في مسيرات عديدة مناهضة لارتداء الأقنعة الواقية والكمامات، وأخرى رافضة لعمليات الإغلاق، والتي خرجت في جميع أنحاء كندا، جامعةً الآلاف في الشوارع من تورونتو وحتى كالجاري ومونتريال.

تُساهم اللقاحات في منع وفاة ما يُقدّر بـ"2.5 مليون طفل سنويًا"، فهي توفر طريقة آمنة وفعالة من حيث التكلفة لحماية الأطفال والبالغين من أمراض مثل الخُناق والحصبة والتيتانوس والسعال الديكي، فيما يزداد ربط النفور من اللقاحات بتفشي مرض الحصبة، وهو فيروس أُعلن القضاء عليه في عام 2000. ووفقا لمجلة "لانسيت"، فإن التشكيك باللقاحات في الولايات المتحدة وخارجها، يؤدي إلى "تقويض عقودٍ من التقدّم".

وفي 2019، احتل النفور من اللقاحات المرتبة الثامنة على قائمة منظمة الصحة العالمية لأخطر تهديدات الصحة العالمية. ومن المتوقع أن تدفع الصحة العامة الثمن غاليًا نتيجة نمو حركة مناهضي اللقاحات، وبخاصة في لحظة حاسمة كهذه يبدو فيها أن هناك طريقة في متناول يدنا للتصدي لجائحة كوفيد-19.

سيدة تتلقى اللقاح في النقب (أ ب)

ورغم أن معظم آرائهم مقيتة، ومحبِطة، وخطيرة، إلّا أنه سيكون من غير المجدي تجاهُل جميع معارضي التطعيم باعتبارهم أشخاصًا يؤمنون بنظريات يستحيل إقناعهم بعكسها، أو الاشتباك مع وجهات نظرهم من خلال ازدرائهم أو التلويح بالفضيلة. لمعالجة الشعور العام المناهض للتطعيم بفاعلية، نحتاج أن نعالج أسبابه أولًا، بدءًا بالدراسات المعطوبة وليس انتهاءً بشركات الأدوية الكُبرى.

"أبحاث" ساهمت بالتعبئة السلبيّة أكثر من دعمها للعلم

في عام 1998، نشرت صحيفة "ذي لانست" دراسة شهيرة بعنوان "التّوحد"، تشتهر بسوء سمعتها بعدما كُشف زيفها اليوم بشكل لا لبس فيه، والتي ربط معدّها، أندرو ويكفيلد، بين حالات توحّد لدى الأطفال ولقاح الحصبة والنكاف، والحصبة الألمانية. وتطلّب الأمر من الصحيفة الموقّرة، 12 عاما لشجب وسحب المقالة. بينما خسر ويكفيلد رخصة مزاولة مهنة الطبيب.

وخلص المجلس الطبي العام البريطاني إلى أن "الأطفال الذين درسهم ويكفيلد تم اختيارهم بعناية وأن بعض أبحاث ويكفيلد تم تمويلها من قبل محامين يعملون نيابة عن الآباء الذين شاركوا في دعاوى قضائية ضد مصنعي اللقاحات".

ولعب "بحث" ويكفيلد دورًا مؤسسًا في حركة "اجعلوا لقاحاتنا خضراء"، والتي تطالب بإزالة "السموم" من اللقاحات. وعبر التضخيم الذي كسبته الحركة من آراء مشاهير بارزين غير مطّلعين، استطاعت أن تثير الشكوك حول سلامة اللقاحات وصناعة الأدوية بشكل أعمّ.

تتنوع الأطياف السياسية في الحركة المناهضة للقاحات، فهي تأسر قلوب سخفاء اليسار، كما تلقى تأييدًا من أولئك الليبراليين اليمينيين "المعدّين". ولأنها ظاهرة رقمية بالدرجة الأولى، فهي توسّع نطاق تأثيرها من خلال تأثير كرة الثلج على وسائل التواصل الاجتماعي. ويتكاثر مثل هذا المحتوى في صوامع مؤدلجة منعزلة، جاعلًا الحجج المضادة لمناهضة اللقاحات غير مُقنعة لأتباع الحركة.

مع ذلك، لا يُمكن تفسير شيوع التشكيك باللقاحات بالاستناد إلى المساحات العبثية على وسائل التواصل الاجتماعي، والعلوم المزيفة، وتأثير المشاهير فقط، إذ ليس من قبيل المصادفة أن المشاعر المناهضة للقاحات تكثّفت بالتوازي مع سلسلة من فضائح شركات الأدوية الكبرى.

في الأعوام القليلة الماضية، كانت شركات صناعة الأدوية الكُبرى مسؤولة عن عدد لا يُحصى من الجرائم ضد المصلحة العامة، فقد رفعت أسعار الأدوية، وحتى القديمة منها، بشكل سافر ومُفرط وغير عادل، وقدّمت دعاوى قضائية ضد الحكومات التي حاولت أن تحدّ من ممارساتها غير الأخلاقية.

وتعمّدت هذه الشركات تضليل جمهور المستهلكين والعاملين في القطاع الصحي على حدّ سواء، بشأن مستوى إدمانيةِ منتجاتها، بالتوازي مع تقديم الرشاوى للأطباء وشركات التأمين الصحيّ لوصف علاجات أفيونية. وقائمة الانتهاكات والخداع تطول وتطول.

في مقابلة مع صحيفة "ذي سترينجر"، أشار قائد مجموعة بارزة تنشط في مناهضة للقاحات في ولاية واشنطن، إلى السجل الحافل بالانتهاكات لصناعة الأدوية، قائلًا: "أعلم أن اللقاحات صُممت لوقاية الأطفال من العدوى، ولكنها منتجات صيدلانية تصنعها ذات الشركات التي تصنع المواد الأفيونية".

باحثة في مختبر في معهد غينر في أكسفورد بإنجلترا (أ ب)

رغم أن معتقداتهم مضللة للغاية، إلا أن مناهضي اللقاحات ليسوا مخطئين باتهام شركات الأدوية الكُبرى بالتربّح من المعاناة الجماعية لقاعدة مستهلكي منتجاتها. صحيح أن أدبياتهم عادة ما تتضمن نظريات مؤامرة غريبة، كتلك التي تتهم الشركات بوضع كلى قردة في اللقاحات مثلًا، ولكن هذا النوع من النظريات يستمد قوّته من أمثلة حيّة على السلوك الشرّير للشركات، والذي يكاد أن يُشبه تصرفات الشخصيات الشريرة في الرسوم المتحركة.

ومن المنطقي أن نسأل حينها: هل سيكون التشكيك في اللقاحات بهذا الانتشار إذا لم تقم الصناعة المسؤولة عن توفير اللقاحات، بطمس ثقة الجمهور؟ مثل هذا النموذج ليس حلمًا بعيد المنال، يمكننا العثور على مثال عمليّ على التربة الكندية في الذاكرة الحية.

بديل عموميّ

في عام 1914، أُسست "كونات لابز" (مختبرات "كونات") في مدينة تورونتو. وصنّع المشروع غير التجاري والمملوك للقطاع العام، علاجات مرض الخُناق ووزّعها مجّانًا. كما أن المؤسسة أنتجت الأنسولين وباعته بسعر التكلفة أو بسعر أعلى بقليل.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تشعّبت نشاطات المؤسسة من إجراء الأبحاث حول شلل الأطفال وحتى مكافحة هذا الوباء المستشري في أنحاء أميركا الشمالية، وقد تلقت المؤسسة تمويلًا عامًا محترمًا من حكومتَي كندا والولايات المتحدة. وفي معركتها ضد شلل الأطفال، عملت "كونات" مع جوناس سالك، الذي أحرز تقدمًا في تطوير لقاح في الولايات المتحدة، لكن كانت تنقصه القدرة على اختباره وإنتاجه على نطاق واسع.

وأخذ علماء "كونات" المهمّة على عاتقهم، وطوروا "منهج تورونتو"، وهي تقنية لتصنيع كميّات كبيرة من لقاح سالك، وساعدوا في الدراسات الميدانية اللازمة لاختباره بشكل فعال وآمن.

ومع ذلك، بمجرد أن بدأت حملة التطعيم في الولايات المتحدة، تعطلت الحملة مؤقتًا عام 1955 بسبب "حادثة مختبرات كاتر"، وهي إحدى الوقائع القليلة من نوعها في تاريخ اللقاحات، فبعد أن مُنحت "مختبرات كاتر" رخصة تصنيع لقاح سالك في الولايات المتحدة، أنتجت الشركة 120 ألف جرعة من نسخة فاسدة للقاح احتوت على أجزاء حية من فيروس شلل الأطفال، وتلقى 200 ألف طفل على تركيبة "كاتر" للقاح، مما تسبب بأربعين ألف إصابة بالفيروس، أدّت إلى إصابة مئتي طفل بالشّلل ووفاة عشرة أطفال.

وفي أعقاب هذه الكارثة، أوقفت الولايات المتحدة برنامج التطعيم خاصّتها، لكن كندا واصلت حملتها الخاصة، وساهمت ثقة الجمهور في منتج "كونات" عالي الجودة في استئناف التحصين ضد شلل الأطفال في الولايات المتحدة بعد فترة قصيرة.

لقد نجحت سمعة المختبر بمنع ما كان يُمكن أن يُصبح نقطة انعطاف في مسار التطعيم، كانت ستؤدي إلى انتشار شعور مناهض للقاحات، وأثبتت حملة التطعيم ضد شلل الأطفال نجاحها بسبب نموذج "كونات" الإنتاجي.

في البداية، كانت "مختبرات كونات" تابعة لجامعة تورنتو، لكنها أصبحت في ما بعد هيئة مستقلة داخل الجامعة، لتتحول لمنشأة أبحاث وإنتاج مكتفية ذاتيًا تعتمد على التمويل الحكومي والأرباح التي تجبيها من بيع منتجاتها، ولكن على الرغم من إنجازاتها في النصف الأول من القرن العشرين، بيعت المؤسسة عام 1972 إلى شركة "التنمية الكندية" ("سي دي سي")، وهي منظمة تُدار فيدراليًا لمساعدة شركات القطاع الخاص الكنديّ على النمو.

مسنّ يتلقى اللقاح في ولاية فلوريدا (أ ب)

وحوّلت "سي دي سي" مهمّة "مختبرات كونات"، من مهمّة تضع الصحّة العامة نصب أعينها، إلى مؤسسة ربحية. وفي أعقاب ارتفاع أسعار المواد الخام، وغياب التمويل العام، اضطرت "كونات" إلى رفع أسعار منتجاتها، وبعد أن بدأت تعمل في القطاع الخاص، حوصرت "كونات" من المنافسين الدوليين، وخاصّة شركة "إلي ليلي"، والتي تجاوز حجمها نطاقها.

وفي سنوات الثمانينيات، انتهى دور "كونات" الريادي في إنتاج الأنسولين. وخُصخصت المؤسسة بالكامل في 1986 بعدما أغلق رئس الوزراء الكندي حينها، بريان مولروني، شركة "التنمية الكندية" ("سي دي سي"). واليوم، لا يزال المنتج الرئيسي لـ"مختبرات كونات"، وتحت إدارة شركة الأدوية "سانوفي باستور"، منخرطًا في إنتاج اللقاحات وأعمال طبية أخرى، ولكن على نفس المنوال الربحي لبقية الصناعة، دون توجيه للمنفعة العامة.

في حين سقط النموذج المميز لـ"مختبرات كونات"، تُقدم دولة كوبا عبرًا مستمرة على الفوائد المحتملة للملكية العامة على إنتاج الأدوية، فقد ضمن قطاع الأدوية البيولوجية العام الكوبي، بقاء منتجاته الطبية في متناول الجميع، كما أن ثقة الجمهور العالية في اللقاحات، والمعرفة الواسعة باللقاحات بين سكانها، تظهر التناقض الصارخ بين وجهات نظر سكان كوبا تجاه اللقاحات، وانتشار الشكوك حولها في كل من كندا والولايات المتحدة.

لقاح لمناهضي اللقاحات

ماذا كان سيحصل لو لم تُمسّ "مختبرات كونات" بسوء؟ وماذا لو عُمِّم الإنتاج الصيدلاني على دول أخرى أيضًا، مُزيلًا الدافع الربحيّ من القطاع؟

يستطيع نموذج "مختبرات كونات" أن يربط بين البحث العموميّ، والمال العام الذي صُرف لجعل لقاح كوفيد-19 ممكنًا، وإدماجهما في إنتاج منتج عام يعطي الأولوية للوصول العادل والشامل، بدلاً من إتاحة هذا البحث والتمويل للشركات المهتمة بالحدّ الأدنى. وكما تقول ليندا ماكويج: "يُنفق نحو مليار دولار من الأموال العامة الكندية كل عام على البحوث الطبية الأساسية. ولكن الكنديين لا يتمتعون بملكية المنتجات التي تَنتُج عن ذلك".

علاوة على ذلك، لا تريد صناعة الأدوية حقًا أن تزجّ بنفسها في مجال تصنيع اللقاحات، إذ أشار تقرير نشره مركز السيطرة على الأمراض "سي دي سي" في الولايات المتحدة، إلى إحجام هذه الشركات عن الاستثمار في البحث والتطوير في مجال اللقاحات، لأنها أقلّ ربحيّة بكثير من أدوية الأمراض المزمنة.

ربما لا تكون التجاوزات المستمرة لصناعة الأدوية السبب الوحيد في انتشار الشعور المناهض للقاحات، لكنّ حجم انتشارها سينخفض بالتأكيد في عالم تُصبح فيه صناعة الأدوية منصبّةً على المنفعة العامة.

مواطنون أميركيون في طابور بانتظار تلقّي اللقاح (أ ب)

ولا نبالغ إذا قلنا إن التأثيرات المدمّرة لشركات الأدوية الكبرى على ثقة الجمهور، تشكّل تهديدًا أكبر من منهاضي اللقاحات على المدى الطويل. ومن المرجح أن نكسب المشككين في التطعيمات في نظام يهتم للمصلحة العامة بشكل أسهل من إقناعهم بوضع ثقتهم في شركات لديها هذا السّجل الحافل بالانتهاكات والتجاوزات.

إننا نعيش الزمن الأمثل لتأميم إنتاج الأدوية، أو على الأقل لإنشاء مختبرات عامة ممولة تمويلًا جيدًا وفقًا لتقليد "كونات". ستكون هذه بالتأكيد الطريقة الأكثر فعالية لاستعادة ثقة الجمهور التي تآكلت بسبب عقود من التربح عديمِ الضمير. نبَع نجاح نظام "كونات" من إيمان الناس به، وبإمكاننا أن نفعّل نظامًا مشابهًا مرّة أخرى.

التعليقات