فتحي البس: انثيال الذاكرة: من وحل المخيّم إلى الجامعة الأمريكيّة!../ رشاد أبوشاور

-

فتحي البس: انثيال الذاكرة: من وحل المخيّم إلى الجامعة الأمريكيّة!../ رشاد أبوشاور
يفتح فتحي البّس ذاكرته لتنثال بغزارة بدءا من لحظة ولادته: ولدت في مخيّم الفوّار عام 1951، بعد أن سقط جيب الفالوجة بالسلم لا بالحرب، بموجب اتفاقيّة ( رودس) 1949 .( ص11)

معلومة الولادة عاديّة، وغير مثيرة، فالطفل فتحي هو واحد من ألوف ولدوا بعد نكبة عام 1948، ولكن ماذا عن اتفاقيّة رودس التي أضاعت مزيدا من الوطن الفلسطيني، والتي يمّر عليها فتحي بكلمات قليلة؟!

إنه يترك للقارئ العربي المعني أمر المتابعة، والتعرّف على فصل مغيّب من فصول النكبة، التي لا تنحصر فصولها زمنيّا في العام 48، ولكنها تمتد إلى العام 49 حيث التقت وفود عربيّة في جزيرة رودس، وأبرمت اتفاقيّة حملت اسم المكان، ومنحت الصهاينة مزيدا من وطن الشعب العربي الفلسطيني!.

لعلّ هذا التذكير ينبّه القارئ العربي إلى حقيقة مغفلة، وهي أنه كلّما عقدت مفاوضات، وأبرمت اتفاقيّات مع "العدو" فإن أرضا جديدة تضيع، وتضاف إلى الكيان الصهيوني.

تحت خيمة لا تقي اللائذين بها عواصف الشتاء، وزوابع الصيف، ولد الطفل فتحي، ومن شظف العيش، والخوف، والقلق، والجوع، وعدم فهم ما يحدث، بدأت رحلة الجيل الذي ينتمي له، والذي قرأ المأساة في حزن وجوه الآباء والأمهات والأجداد المقتلعين، والمرميين على مبعدة كيلومترات عن قراهم، وبيوتهم، وأيّام الآمان التي نزعوا من أحضانها، وبساطتها، لتتلقفهم الأمراض، وأيّام الجوع، ومواجهة شتاءات قارسة البرد.

والده من بلدة ( الفالوجة) التي أسسها رجل صالح متصوّف، هو السيّد أحمد الفلّوجي، وفد من بلدة ( الفلّوجة) العراقيّة، وانتشر خبره في الأرجاء، فتقرّب الفلاّحون في القرى المجاورة منه، وبعد وفاته أنشأ بعضهم بيوتهم حول ضريحه، لتزدهر بلدة اشتهرت بالتجارة، وحسن استقبال ضيوف (سوق الخميس) من القرى القريبة والبعيدة، من قضائي غزّة الخليل.

عندما يكتب فلسطيني سيرته فإن الخاص يتداخل مع العّام، ولكن يبقى أن لكّل شخص خصوصيته، وسيرة حياته التي وإن تشابهت، وتشابكت مع غيرها، فإنها تختلف كثيرا، بسبب طبيعة الشخصيّة، ومكوناتها، وطموحاتها، وخياراتها الفكريّة، والسياسيّة، والعلميّة، والظروف التي عاشتها.

فتحي ابن خليل البّس، تتداخل حياته بمسيرة شعبه من قبل ولادته بثلاث سنوات، أي منذ وقوع النكبة، وحتى يومنا هذا، كونه ما زال ( شّابا) لم يبلغ الستين، وحقق الكثير مّما أراد تحقيقه على المستوى الشخصي، وإن لم يحقق مع أبناء جيله تحرير فلسطين، والعودة إلى مسقط رأس الأب والأم، والأسلاف الذين عمروها جيلاً بعد جيل.

انثيال الذاكرة هو الكتاب الأوّل لفتحي البّس الناشر الذي أسس دار نشر كبيرة في الأردن- افتتحت فرعا لها في رام الله بعد أوسلو، وفرعا في غزّة ومكتبة مهمة، رغبةً منه في خدمة أهله ثقافيّا لا ربحيّا، ولكنه اضطّر لبيعها بخسارة بسبب الظروف التي سادت هناك - والتي أصدرت مئات الكتب الجامعيّة، والفكريّة، والسياسيّة، والأدبيّة، ناهيك عن المكتبات العملاقة في عمّان، ورام الله...

الطفل الذي ولد في مخيّم ( الفوّار) قرب الخليل، انتقل به أهله إلى مخيّم ( عقبة جبر) قرب أريحا، وهناك بدأ مرحلته الدراسيّة الأولى، حيث نبغ في الدراسة، وحصل على الترتيب الأوّل في كّل سني دراسته، ومن المفارقات أن والده زجره عندما طلب منه مبلغا متواضعا ليشترى حلوى للمعلمين: مين قال لك تجيب الأوّل؟!
في مخيّم عقبة جبر وهو أكبر مخيمات أريحا عاش فتحي مع أسرته، وإلى جانب تفوّقه الدراسي، فإنه تعلّم الاعتماد على النفس، ومن أعمال بسيطة جمع قروشا ساعد به أسرته المحتاجة.

بدأ فتحي ببيع ( الأسكيمو): كنت أعرف الشوارع التي يسكن فيها أثرياء أريحا ويشترون منّي. بنيت صداقة مع امرأة كانت تشتري منّي كل ما يزيد. أدخلتني إلى بيتها، وشربت الشاي فيه، وأكلت الموز والبرتقال والتفّاح الذي كنّا نحصل عليه إذا مرض أحدنا أو زارنا ضيف أغنّى منّا. وحصلت على أكثر من حمّام دافئ، حيث عرفت جسد امرأة لأوّل مرّة في حياتي.( ص17)

5 حزيران 67 قصم الأحلام الفلسطينيّة، فالفلوجة لن تعود، ومن حزموا أمتعتهم واستعدوا للعودة دهمتهم الهزيمة، وشرّدتهم من مخيماتهم على أرض فلسطين - الضفّة الغربيّة - وقذفت بهم شرقا ليعودوا من جديد إلى الخيام، بعد أن استبدلوها ببيوت من الطين، وحوطوها بأسوار تمنحها استقلاليّة، وزرعوا أمام غرفهم نباتات عطريّة، وحلموا بالعودة.

إلى الأردن رحل فتحي، وتنقّل مع أسرته في مخيمات أنشئت على عجل قرب (الكرك)، وفي الأغوار ( مخيّم غور نمرين)، ثمّ ليستقر الأمر بالعائلة في مخيّم (البقعة) على طريق عمّان - جرش: بدأت رحلتي في مخيمات شرق الأردن. حياة مريرة وكئيبة وقاسية ومذلّة، لكنها شكّلت منعطفا في حياتي. تعرّفت فيها مباشرة على طلائع الفدائيين الذين يعبرون النهر. (ص25)

الفدائيون الأوائل الذين التقاهم في مقهى والده في مخيّم ( غور نمرين)، والذين انبهر بهم: حدثوني عن الثورة، وعن الكفاح المسلّح، وأمل الشعوب في قهر الاحتلال. قالوا إن الجيوش الرسميّة لا تستطيع هزيمة ( إسرائيل) مهما كان عددها أو تسليحها. أمّا هم، الفدائيون، فإنهم يستطيعون ضرب ( إسرائيل) في حرب عصابات تنهكها وتجبرها على الانسحاب، وصولاً إلى تحرير فلسطين كل فلسطين.

بدأ الزمن الفدائي، ورغم العيش في طين المخيّم - مخيّم البقعة - فإن الحياة أخذت منحى يبعث على الأمل: أنشأت الفصائل معسكرات تدريب على أطراف المخيّم. التحقت بمعسكر فتح للأشبال مع إني كنت أعتبر نفسي رجلاً .( ص33)
من المخيّمات إلى بيروت، انتقل فتحي مع ثلاثة زملاء تفوّقوا في الفحص، وهو ما منحهم فرصة الحصول على منحة دراسيّة ستمكنهم من الالتحاق بمدرسة (الإنترناشيونال كولدج) ليلتحقوا بعد إكمال دراستهم الثانويّة بالجامعة الأمريكيّة.
انتقل فتحي إلى بيروت، بفورانها السياسي، والاجتماعي، والثقافي.. ومن بعد لجوء الثورة الفلسطينيّة بعد (أيلول) 70 من الأردن إلى جنوب لبنان، والعاصمة بيروت، يكتب فتحي من ذاكرة مفتوحة متدفقة، بعد أن عاش التجربة: ها أنا من المخيّم إلى بيروت، عاصمة المال والسياسة والثقافة والحياة...

تُكتب عن صدمة الانتقال من مخيّم البقعة ومدارس وكالة الغوث إلى بيروت روايات طويلة، لكنني أذكر بعض طرائفها، فحينما استلمت غرفتي في السكن الداخلي أردت الاستحمام ، فدخلت حمّام السكن. بحثت عن الطشت، وعن البابور، والليفة، والماء، والأوعية ، لتسخينها وتبريدها في الطشت.. لم أجدها!

قلت لنفسي : كيف أستحم؟ بعد 5 دقائق دخل زميل إلى الحمّام المجاور المفصول عن حجرة حمّامي جزئيّا. لاحظت أن الماء ينهمر من الأعلى، من ( الدوش). بقيت نصف ساعة أجرّب حتى تعلمت كيف ينساب الماء، وكيف يتّم المزج بين الماء البارد والساخن..كم كانت فرحتي كبيرة...( ص45)

من الصدمة إلى التكيّف، هذه هي رحلة فتحي ابن المخيّم، من مدرسة مخيّم البقعة إلى مدرسة مجاورة للجامعة الأمريكيّة، من الدراسة في كتب بالعربيّة إلى دراسة تعتمد اللغة الإنكليزيّة، وهذا هو التحدّي الذي واجهه فتحي وزملاؤه، وتخطّاه بما يشبه المعجزة، فقد كان يحفظ النصوص حرفيّا دون أن يفهم معاني الكلمات، وهو ما أذهل أساتذته...

انتقل فتحي إلى: سكن داخلي جميل، فيه رفاهيّة زائدة، سرير أنيق بدل فرشة الإسفنج، أغطية نظيفة تتبدّل بانتظام، بدلا بطّانيات الوكالة، دفء يفوق طاقتي على التحمّل بعد سنوات البرد الشديد في خيم المخيمات المختلفة..( ص49)

ليست نعم الحياة ورفاهيتها في المدرسة سوى الجوانب المّادية التي رفل بها فتحي، فماذا عن الحياة الثقافيّة، والسياسيّة، والتعليميّة، و..الحب، التي منحتها بيروت له ؟!

يصف فتحي شارع ( بلس)، الجامعة، المدرسة، رحلته في إتقان الإنكليزيّة عن فهم ومعرفة لا بصما: يمتّد حرم الجامعة الأمريكيّة على مساحة واسعة، على طول شارع ( بلس)، ويطّل على البحر...
كنت أجلس وأتأمل وأقارن، أحزن على أهلي وأبناء شعبي في المخيمات، وأتمتع بفرصتي في تذوّق جمال افتقدته سنوات طفولتي .( ص53)

في المدرسة يلتقي فتحي بشّاب يعرّفه بنفسه: أنا يوسف.. في كافيتيريا المدرسة وعلى فنجان قهوة ، فاجأني بأنه يعرف أشياء كثيرة عنّي . تحدّث عن فلسطين، عن المدرسة، عن المخيمات، عن الفدائيين، عن ضرورة أن ننظّم صفوفنا، وسأل: هل أنت مستعّد، أنا (فتح)، هل تكون معنا؟! ( ص55)
بيروت وفتح، وخلفيتهما المخيمات والنكبة.. كانت نقطة انطلاق فتحي في العمل العّام الوطني، والمعرفي، والثقافي، ومسيرة الحياة.

من المدرسة ينتقل فتحي إلى الجامعة الأمريكيّة لدراسة ( الصيدلة)، ويبدأ في البروز كقائد طلاّبي في فتح، منحاز لتيّار فكري يلتزم ب(خّط الجماهير خّط الشعب)، الذي هو في جوهره نقيض للفرديّة، وما عرف بالقيادة ( اليمينيّة)، والتوجهات ( السلميّة) المساومة التي برزت بعد حرب تشرين 73...

الأحداث خارج الجامعة انعكست على مدرسة الإنترناشيونال كولدج، والجامعة الأمريكيّة، وجامعة بيروت العربيّة. وإذا كان للثورة الفلسطينيّة حضورها الطلاّبي، وللقوى الوطنيّة اللبنانيّة حضورها، فإن القوى اليمينيّة الانعزالية كانت حاضرة بخطابها الطائفي والإقليمي، ولهذا وقعت اشتباكات، ومعارك، وأحيانا تقاطعات في الاتفاق على مطالب جامعيّة طلاّبيّة تهّم الجميع.

عن الارتباك أمام الأسئلة يكتب: شكّل صيف 1969 تحولاً نوعيّا في حياتي: كفاح من أجل فلسطين، يصطدم بسؤال: كيف نتعامل مع الواقع اللبناني دون أن يعيقنا ذلك عن توجهنا الأصلي؟ (ص71)
الحرب الأهلية التي فجّرت عام 75 كانت هي الجواب على هذا السؤال، وكذلك ترحيل الثورة الفلسطينيّة عام 82...

النضال الطلاّبي، دور الطلاّب في الدفاع عن الثورة عام 73، ومواجهة الحرب على لبنان عام 82، والصراعات داخل ( فتح) والفصائل الفلسطينيّة، واغتيال القادة الفلسطينيين، كّل هذا عاشه فتحي، وفتح ذاكرته لتكتبه بصدق، وبهذا فإن من عاش تلك المرحلة سيستعيد الوقائع والأحداث، ومن لم يعشها سيتعرّف على تفاصيلها، ويتأملها، وللجميع أن يأخذوا منها الدروس، لاسيّما من سيأتون بعدنا...
ولكن ماذا عن خصوصيات هذا الفتى الذي حملته أقداره من المخيم إلى بيروت؟ ماذا عن الحّب، والقلب الفتي؟!

في بيروت أحّب فتحي مرتيّن، عائدة التي كانت الحّب الأوّل في المدرسة بعد الحبيبة ( الرومانسيّة) التي تركها في البقعة، وحّب مع فاتن الفتاة البرجوازيّة التي وجدت نفسها من خلال علاقتها بفتحي وبأجواء الحركة الطلابيّة في الجامعة الأمريكيّة.

في ( انثيال الذاكرة) ينتقد فتحي جهل قادة فلسطينيين، وسلوكيات بعضهم المفتعلة، فهو لا يخفي نقده للأخطاء والخطايا...
من يقرأ كتاب (انثيال الذاكرة) سيضع يده على أسباب تفجّر الخلافات داخل صفوف حركة فتح، ولن يدهش لما آلت إليه أمور الثورة الفلسطينيّة.

كتب فتحي البّس دارس ( الصيدلة ) في الجامعة الأمريكيّة، والفلسفة في الجامعة الأردنيّة، الناشط والناشر المثقّف، كتابه بسلاسة دون تنظير، بعيدا عن الادعاء والانتحال، ولذا فإنني أجده أحد أهّم الكتب التي دونّت التجربة الفلسطينيّة، والتي تبقي في الذاكرة تفاصيل الأحداث، والمعارك، وخلفيات الصراعات السياسيّة والفكريّة، وأسماء أبطال يجب أن لا يغيبوا في النسيان أمثال البطل علي أبوطوق، والدكتور حنّا ميخائيل، وغيرهما...

بكلمة أخيرة : هذا كتاب فيه صدق، وصراحة، وجرأة.. قريب إلى النفس لأنه مكتوب بألفة وحميميّة وشجن، وحزن على ما ضاع...

يختم فتحي البّس كتابه بهذه الفقرة: ها أنا في خريف العمر، أعيش ما تبقّى منه، لا ألتزم إلاّ بإعلاء شأن شعبنا ثقافيّا وحضاريّا، مع وحدته وسيادته، عربيّا حرّا مستقلاًّ. ردّدت دائما على مسامع أحبائي: قهرتني الأيّام لكنها لم تهزمني بعد!
الذاكرة وهي تنثال برواية ما حدث، تتسع للامتلاء بما هو آت، لأنها ذاكرة شعب لم ينهزم، ولن..

_______________
* انثيال الذاكرة ، صدر عن دار الشروق( عمّان) نهاية 2008

التعليقات