أمريكا والإبادات الثقافيّة../ رشاد أبوشاور

-

أمريكا والإبادات الثقافيّة../ رشاد أبوشاور
هذا هو عنوان أحدث إصدارات الباحث والمفكّر والأكاديمي العربي منير العكش، المُقيم في أمريكا منذ نيّف وأربعة عقود، والذي يُعرّف بنفسه : سوري الأصل فلسطيني الانتماء.

العنوان الفرعي على الغلاف: لعنة كنعان الإنكليزيّة. وحتّى يعرف القارئ العربي سّر هذه اللعنة، فإنه يتوجّب عليه أن يقرأ الكتابين السابقين للعكش: (أمريكا والإبادات الجماعيّة) عام 2002، و(تلمود العم سام) عام2004 .

في مقدمة كتابه الجديد - والكتب الثلاثة صدرت عن دار الريّس- ينبّه العكش القارئ العربي: هذا الكتاب ليس مستقلاًّ بذاته. إنه متابعة لأعمال سبقته وتأسس عليها. وقد يكون محطّة على طريق لا حيلة لي في معرفة نهايتها.
وإذا كان العكش لم يستنفد ما لديه في كتبه الثلاثة، فإن هذا ما يدفعني لتنبيه القارئ إلى أن المرور على بعض ما جاء في الكتب الثلاثة والتوقّف عند الكتاب الجديد تحديدا، لا يغني أبدا عن قراءتها بتمعّن.

إنني أبدا بتحريض كل مثقف عربي، ومناضل معني بمصير أمته ووطنه، بقراءة هذه الكتب الثلاثة، لأنه سيكتشف بالوثائق، والحقائق، والوقائع، أن من خلقوا ( إسرائيل) وزرعوها في قلب وطننا العربي، وفي الأعز منه والأقدس فلسطين، لم يقترفوا جريمتهم لمصالح اقتصاديّة فقط، فالعمل على زرع الكيان الصهيوني ودعمه بكافة أنواع الأسلحة الإباديّة المتطورة، لا يعود إلى جهل بالحقائق، أو لانحياز إدارة معينة جمهورية أو ديمقراطية، أو بعض رؤساء أمريكا، ولكنه يعود إلى عقيدة وإيمان ديني بتلمود رأى المؤسسون أنهم أحّق به كشعب متفوّق ومختار لاحتلال أمريكا وتطهيرها من ( الكنعانيين)، أي أهلها الهنود الحمر!

درس العكش مراحل اجتياح البلاد التي سُميّت بأمريكا، وتسيّد الإنكلو ساكسون البروتستانت على تلك البلاد، وتبريرهم لكّل ما اقترفوا من جرائم أدت لإبادة عشرات الملايين من البشر، والإجهاز على 400 أمة وشعب، حتى لم يبق منهم سوى بضعة ألوف في معازل، تُشبهها معازل الفلسطينيين حاليا في الضفّة الغربيّة، وستزداد شبها بها مع زحف الاستيطان وقضم الأراضي وحشر الفلسطينيين على بقع محدودة من بقايا أرض وطنهم فلسطين، وهو ما تسهّل تنفيذه سلطة مستنسخة عن الإدارة الذاتيّة الهنديّة التي سمسرت للغزاة الإنكلوسكسون من الداخل.

مع توالي فصول الكتاب نستذكر مسيرة الاتفاقات التي أُبرمت ولم تحم الهنود ولا أرضهم، تماما كما يحصل في الضفّة الغربيّة!

الوهم المعشش في عقول بعض العرب بتحكّّم اللوبي اليهودي الصهيوني في السياسة الأمريكيّة، وبأنه العامل الرئيس في الانحياز التام للكيان الصهيوني، سيتغيّر بالتأكيد بعد قراءة كتب العكش، وآخرها كتابه ( أميركا والإبادات الثقافية). هذا أيضا ينطبق على الوهم بإمكانية تغيّر السياسة الأمريكيّة بتغيّير الإدارات والرؤساء، فالموقف الأمريكي تجاه فلسطين وشعبها- أرض كنعان وشعب كنعان- ثابت لأنه في صلب (فكرة أميركا) التي استنسخت عن ( فكرة إسرائيل)، ويعاد إنتاجها على أرض فلسطين.

برّرت (فكرة أميركا) حق وواجب الإبادة لامتلاك أرض الهنود ( الموعودة)، وهي إذا ما تخلّت عن هذه الفكرة فستنسف أسس ما قامت عليه، وسيتوجّب على أمريكا أن تعتذر عن ماضيها الذي يتواصل في فلسطين.

الثقافة التي انطلق منها المؤسسون تجاه الهنود الحمر، والتي تبرر في نظرهم حّق الإبادة الذي يباركه ( الرّب) صاحب الوعد بأرض كنعان ( الهنديّة)، بدأت بالإبادة وبكّل الوسائل، من القتل بالسلاح إلى القتل بإفشاء الأمراض، إلى القتل الثقافي البشع، وهو ما سخّر العكش له كتابه هذا.

كي تقضي على الهنود ليس لك سوى أن تلغي لغتهم، وتخرّب أجيالهم بانتزاع الأبناء من أحضان أسرهم، وتهتك أجسادهم - وهو ما كان يحدث في المدارس التي زُجوا فيها- تدمّر طفولتهم، وتهدم رجولتهم، لتمسخ نفوسهم وعقولهم وتشوّهها تماما بحيث لا يشعرون بكرامتهم الإنسانية وبآدميتهم!

وأنا أقرأ فصول الكتاب كنت أصاب بالرعب، وأتساءل رغم كل ما أعرفه عن هذه ( لأميركا) ونشوئها: أيعقل أن يوجد بشر على هذه الصورة؟ هل نشأت أمّة في التاريخ كما نشأت أميركا على الإبادة ووفقا لمنظومة أفكار تجيز ذبح البشر، وسلخ فروات رؤوسهم، وقتلهم بالكوليرا والجدري، وفوق ذلك تلصق بهم كل أنواع الجرائم التي اقترفت بحقّهم؟!

شعرت بنوبات حزن وخجل وأنا استعيد لحظات المتعة بأفلام رعاة البقر وهم يطاردون الهنود، ويجتثونهم من أرضهم، ويفسدون الطبيعة الجميلة التي عاشوا فيها واحترموها بما يشبه القداسة، وتآخوا مع عناصرها بما فيها الحيوانات التي نظروا لها باحترام لأنها تساعدهم على التغلب على مشاق الحياة، وتمنحهم من لحمها ولبنها وجلودها.

كنت أستعيد في ذاكرتي أفلاما بررت الإبادة، فالسينما الأمريكيّة وظّفت إمكاناتها الفنيّة لتشويه حياة الهنود الحمر لتبرير اجتثاثهم.

وأنا أتابع قراءة الوثائق التي حشدها البروفسور العكش في كتابه، كنت أستعيد في ذاكرتي تلك الأفلام التي ضُخت إلى بلادنا وعرضت في دور السينما لتضللنا وتغسل عقولنا وعقول ملايين البشر في العالم، مروّجة للأكاذيب ولحرب الإبادة التي أودت بعشرات ملايين البشر من الهنود الحمر، وكنت أتساءل: كيف مُررت علينا تلك الأفلام، ولماذا لم تُفضح؟ وكيف استقبلت بحياديّة ولامبالاة بل وبتعاطف أحيانا؟!

ومع توالي فصول كتاب ( أمريكا والإبادات الثقافيّة)، تيقنت أننا نحن العرب جميعا استقبلنا الخطاب الثقافي الأمريكي في السينما- ويا لخطورة السينما الأمريكية!- ببراءة وسذاجة، وصفقنا أحيانا وقد انبهرنا بالفرجة والمتعة البصريّة والبطولة المفبركة، بسينما تتحدث عن قتلنا القادم، لأن ( فكرة أميركا) المستنسخة من (فكرة إسرائيل)، تعود لتتجلّى على أرضنا وعلى أجسادنا بالدعم الأمريكي المطلق، والتطابق التام، وبنفس الخطاب الذي برر إبادة (كنعانيي) أمريكا الهنود الحمر.

هذا الكتب الثالث في ثلاثية البروفسور العكش يفتح عيوننا على ما ينتظرنا من ( فكرة أميركا)، التي هي خطاب فكري ثقافي لاأخلاقي للأمة الإنكليزيّة البروتستانتيّة التي تمتد من لندن إلى واشنطن.

يرى العكش أن انتقال العاصمة من لندن إلى واشنطن هو كانتقال العاصمة من دمشق إلى بغداد في الدولة العربيّة الإسلاميّة.

سيذهل القارئ العربي وهو يقرأ الكتاب، بما اقترفه رؤساء أمريكيّون لهم شهرة عالميّة، وسمعة طيبة إنسانيّة، بما اقترفوه في حروب الإبادة، يتقدمهم إبراهام لينكولن الذي أمر بإعدام 37 من رؤساء القبائل الهنديّة، وجورج واشنطن،وغيرهما من قادة أمريكا ( العظام)، ناهيك عن كتّاب قرأنا لهم وبخاصة مارك توين الذي كان يلّح على إبادة الهنود الحمر، أو تعليمهم لتبديلهم بحيث لا يعودون هنودا!

غاص العكش مُنقبا عبر ألوف الوثائق، ومئات الكتب، انطلاقا من هّم إنساني شغله وأجج حماسته لمعرفة الحقيقة، ومن ثمّ توصّل إلى أن ما حاق بالهنود الحمر هو ما يحدث لنا كعرب ومسلمين، فزرع (إسرائيل) لتحقيق في قلب وطننا العربي، يمهد ( لهيرمجدون) ونزول السيّد المسيح، و..نهاية البشريّة!

يرى العكش أن ( الهنود الحمر) كانوا في المحرقة الإباديّة كبش الفداء لنا كعرب ومسلمين، ولعلّه لهذا ردّ لهم بعض الدين بالكشف عن المحرقة التي استهدفتهم، والتي لا شبيه لها في التاريخ البشري من قبل ومن بعد.
ولأن الأمة الإنكلوساكسونيّة البروتستانتية واحدة، فسنجد في الكتاب أفكار تشرشل التي نظّرت لإبادة العرب الفلسطينيين!

اقرؤوا هذه الكتب لتعرفوا ما ينتظرنا جميعا، ولتجعلوا من فلسطين معركة وجود في مواجهة أمريكا و(إسرائيل)...

التعليقات