مختارات من كتاب يوسيف نحماني (ليوسيف فايتس)../ د.إلياس شوفاني

-

مختارات من كتاب يوسيف نحماني (ليوسيف فايتس)../ د.إلياس شوفاني
المقدمة الطويلة التي صدّر بها الدكتور المؤرخ والباحث الياس شوفاني ترجمته لكتاب "يوسيف نحماني" (مذكرات سمسار أراض صهيوني) كانت في مكانها، وهي في حد ذاتها كنز يزخر بالمعلومات الدقيقة والتحليل العميق الثاقب.

يتناول الكتاب سيرة سمسار الأراضي الصهيوني يوسيف نحماني الذي عرفه الكثير من أبناء الجليل والحولة وغيرهما من مناطق فلسطين والذي قام بدور بارز في استيلاء المؤسسات الصهيونية على الأراضي العربية قبل قيام "إسرائيل" وبعد قيامها، كما كان له ضلع لا يستهان به في الاستيلاء على الأراضي العربية لإقامة "نتسيرت عيليت" و"كرميئيل".

بعد أن قرأ الكتاب بالعبرية في بداية السبعينيات من القرن الماضي، استقر رأي الدكتور شوفاني على ترجمتة إلى العربية لما يحتويه من حقائق تنفي التهمة الملفقة عن بيع الفلسطينيين أرضهم لليهود، لكن نشاطه الزاخر في منظمة التحرير ومعهد الدراسات الفلسطينية حيث تولى إدارة قسم الأبحاث فيه لعقد من الزمن، ثم قيامه بالإنتفاضة على قيادة المنظمة سنة 1983 بعد أن تيقن أنها انحرفت عن مسارها الصحيح، وما تبع ذلك من تضحيات بسبب خذلان بعض الرفاق، ثم وفاة زوجته وأزمات صحية كادت تودي بحياته، كل ذلك حال دون ترجمة الكتاب حتى عهد قريب.

من الجدير بالذكر أن الدكتور شوفاني ألف العديد من الكتب الهامة ومنها على سبيل المثال لا الحصر: إسرائيل في خمسين عاما ويقع في ثلاثة أجزاء، وهو كتاب فريد في شموليته وعمقه، "الموجز في تاريخ فلسطين السياسي" منذ فجر التاريخ حتى العصر الحديث، وهو سفر نفيس يستحق أن يدرس في جميع المدارس في العالم العربي، هذا بالإضافة إلى كتابين في سيرته الذاتية، أحدهما "رحلة في الرحيل، فصول من الذاكرة لم تكتمل" الذي صدر سنة 1994 وأعقبه في سنة 2009 بكتاب "مرثية الصفاء"، كما أن له العديد من الكتب الأخرى جميعها تبحث في الصراع العربي الصهيوني حتى روايته "منصور" جاءت من وحي مآسينا ومعاناتنا. أما رسالة الدكتوراه التي كتبها فقد كانت عن حروب الردة.

صدر الكتاب عن "دار الحصاد" في دمشق ( alhasad@scs-net.org )
.إذا كان التاريخ البشري عبارة عن سجلّ لحركة العلاقات بين الناس، فإنه لابد لكل ظاهرة تاريخية من قوة محرِّكة (صانع)، كما لا مناص لها من خلق أدواتها المحرَّكة (صنائع)، لتنقل فكرتها من المجرد إلى الملموس. وإذا كانت الحركة الصهيونية العالمية قد برزت على مسرح الأحداث بالتواكب مع تطورات كونية معينة، وكانت إلى حدّ كبير نتيجة للمتغيرات الدولية التي حددت محطات نشوئها وتبلورها الرئيسية، فإن المحرِّك الأساسي لهذا البروز كان صراع القوى الدولية في إطار «المسألة الشرقية»، بتجلياتها وذيولها.

ولكي تجسّد الصهيونية ذاتها كظاهرة استعمارية – استيطانية، فقد توجّب عليها بناء أدواتها من المؤسسات والأفراد، وبشكل مناسب لتجسيد الفكرة المركزية الكامنة وراء طرح هذا المشروع.

وإذا كانت المراكز الإمبريالية، على المستوى الأعلى، جنّدت القيادة الصهيونية الأولى، التي لعبت دور الوسيط بين تلك المراكز والجاليات اليهودية في العالم، بهدف توظيف الأخيرة في خدمة مصالح الأولى، فإن الحركة الصهيونية بذاتها شكّلت منظماتها وصاغت أدواتها، كما جنّدت صنائعها الميدانية، لإنجاز المهمة الاستيطانية المطلوبة.

وإذا كان هيرتسل، منظّر الصهيونية السياسية، رأى أن الصهيونية هي مسألة سياسية غربية، يتم حلُّها بالتعاون مع «الأمم المتحضّرة» (الإمبريالية)، فإن صاحب هذا الكتاب، لضيق أفقه وتدني وعيه السياسي، رأى أن الحلّ هو في استملاك الأرض للمستوطنين، وإحلالهم محلّ سكان البلد الأصليين، وبالتالي، فالمهمة المركزية للصهيونية تقع على عاتق «هكيرن هكييمت ليسرائيل» التي عمل فيها، وكان المسؤول عن نشاطها في الجليل الشرقي.

يقول مثل سائر: «عندما يغوص الضفدع في قاع البئر، فإنه يعتبر أن فم البئر هو كبد السماء». ويوسيف نحماني، موضوع هذا الكتاب وصاحبه، هو أحد تلك الضفادع الصهيونية، التي نشطت في «القاع» الصهيوني، بصفة سمسار أراضٍ؛ ومن هنا أهميته للقارئ العربي المعني، وبالتالي، أحد الأسباب الدافعة لترجمة هذا الكتاب، الذي هو مذكرات الشخص المقصود.

لم يكن نحماني مطّلعاً بشكل جدّي على السياسة الصهيونية العليا، التي ركّزت همّها على الحركة الدولية، بل حصر نشاطه في مسألة واحدة أساساً – استملاك الأرض للاستيطان اليهودي، خاصة في الجليل، وتحديداً في الجزء الشرقي منه، أي الحولة وغور الأردن الشمالي.

وهذا الكتاب، الذي هو رسائل نحماني، يومياته ومدوّناته، يعبّر بشكل صارخ عن النموذج الاستيطاني اليهودي، الذي صاغته الصهيونية بما يتلاءَم مع أهدافها، وبالتالي، فهو شهادة ميدانية صادقة إلى حدٍّ كبير عن نهج العمل الصهيوني الميداني في فلسطين.

لم يعِ نحماني تماماً العلاقة العضوية لمشروعه الاستيطاني مع الاستعمار العالمي، واعتقد جازماً، كما يبدو من كتاباته، التي كثيراً ما تذمّر فيها من تركيز القيادة الصهيونية نشاطها على الساحة الدولية، بأن المسألة تتوقف أساساً على استملاك الأرض وبناء الاستيطان. لقد دأب على التذمر من عمل السياسيين، الذي لم يفهمه تماماً، ورأى بعمله ونشاط رفاقه الركيزة الأساسية في «خدمة الوطن والشعب»، على حدّ تعبيره. وإذ يهنئ نحماني نفسه على الظفر برؤية إسرائيل تقوم في حياته، فإنه لم يلاحظ أن ذلك لم يكن نتاجاً لعمله في استملاك الأراضي، والذي لم يحقق نجاحاً كبيراً، بل بفعل قرار سياسي دولي، قادته الدول الإمبريالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.

لقد راودتني فكرة ترجمة هذا الكتاب، الذي هو عبارة عن مذكرات سمسار الأراضي للوكالة اليهودية، يوسيف نحماني، منذ عودتي من الولايات المتحدة إلى بيروت في بداية سبعينيات القرن العشرين، إلا أنه لأسباب مختلفة، بالتأكيد ليس العامل الذاتي هو الأصل فيها، لم تتوفر الإمكانية للإقدام على المشروع.

واليوم، وبعد حوالي أربعين عاماً، عدت إليه، وليس صدفة، أو من قبيل الحنين إلى الماضي أبداً، بل لعلّ الحافز الأقوى للعودة إلى هذا المشروع، الذي لم يكن اتخاذ القرار بشأنه سهلاً، هو ما يتردد هذه الأيام الصعبة في الأوساط السياسية والإعلامية العربية عن دور الفلسطينيين في قيام المشروع الصهيوني، خاصة لناحية بيع الفلاحين لأراضيهم. ويصدر هذا الكلام على خلفية أوهام التسوية، وبالتالي، تقرير مصير اللاجئين الفلسطينيين، والمعارضة التي تلامس العنصرية لما يسمى زوراً «التوطين».

وإذ ليس بين الشعب الفلسطيني من ينادي بالتوطين، وإنما هي دعوات صادرة عن أعدائه، كأحد مرتكزات ما يسمونه «الحل للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني»، فإن هؤلاء المعارضين لا يلحظون أن حلفاءهم هم الذين راحوا في السنوات الأخيرة يجاهرون، وبوقاحة فظة، بمواقفهم الداعية إلى تصفية القضية الفلسطينية من خلال إلغاء «حق العودة» للاجئين الفلسطينيين. وبدلاً من التوجه إلى حلفائهم، بل أسيادهم، بخطابهم هذا، فهؤلاء المعارضون يسددون سهامهم المسمومة إلى الضحية – إلى الشعب الفلسطيني، الذي نكب ضحية عن الأمتين – العربية والإسلامية، كما يجري تداول المصطلحين.

لقد قام المشروع الصهيوني في فلسطين كامتداد للغرب الإمبريالي، لإخضاع الشرق الأوسط بموارده وشعوبه لإرادة المراكز الإمبريالية التي احتضنت المشروع الصهيوني ورعت إنشاء كيانه الاستيطاني العدواني في فلسطين المحتلة.

ليست هذه هي المثلبة الوحيدة في وعي الفئات السائدة في الكيانات السياسية التي تركز همّها على هذه القضية، ولكن من الأهمية بمكان توضيحها، الأمر الذي هو أحد أهم أسباب ترجمة هذا الكتاب. لقد صاغت تلك الفئات مقولات زائفة لتبرير مواقفها المتساوقة مع أهداف المشروع الصهيوني، كونها في الأساس من صناعة نفس المراكز التي رعت نشوء الفكرة الصهيونية، وصولاً إلى تجسيدها في الكيان الاستيطاني القائم على أرض فلسطين المحتلة، والذي ما كان ليقوم بدون طرد سكان البلد الأصليين منها.

لم يكن من السهل الردّ على تلك الفئات الانتهازية بسلاحها، فاخترت هذه الوثيقة، التي كتبها صاحبها انطلاقاً من وعيه لذاته ولمشروعه، غافلاً عن الحقيقة أو متجاهلاً لها، بهدف محاولة وضع الأمور في نصابها على هذا الصعيد.

وإذ لا يساورني شك في أن تلك الفئات المنافقة ستجد سبيلها إلى ابتداع أطروحات زائفة أخرى لتبرير انحرافها الفكري والسياسي، فإنني قدرت أن تسليح البعض بهذه المعلومات، ولو كان قطاعاً محدوداً من القراء العرب، لا يخلو من الأهمية. فهذه المعلومات وردت في المذكرات الخاصة بسمسار الأراضي النحماني، بدون تلميع دعائي للتمويه على الحقيقة في طبيعة المشروع الاستيطاني الصهيوني، فجاءت إلى حد كبير تعبيراً صريحاً عن المعايير الأخلاقية التي حكمت سلوك هذا المستوطن العنصري.

إن هذا الكتاب هو شهادة إحدى صنائع الحركة الصهيونية، ومن أدواتها الناشطة ميدانياً، والمنخرطة في الممارسة اليومية لبناء مستوطَن عنصري على أنقاض تدمير مجتمع قائم في وطنه الأصلي. ومن التمعّن في فصوله تتبدّى الحقيقة حول مجمل العوامل التي تضافرت لجعل قيام هذا الكيان ممكناً.

إن أهمية هذا الكتاب ليست فقط في المعلومات الموثّقة التي يوردها عن سلوكه في استملاك الأرض، ولا في الكشف عن الحقيقة فيما يتعلق بالفئة المحصورة التي باعت الأرض، والتي نظرت إليها على أنها سلعة وليست وطناً، فحسب، بل أيضاً في إعطاء صورة جليّة عن الأساليب الملتوية التي استخدمها عملاء الحركة الصهيونية في انتزاع ملكية الأرض من أصحابها، أو العاملين عليها، من سكانها الأصليين.

وبوصفه مذكرات شخصية، وإن كانت لم تُنشر كاملة، فإنه أورد الوقائع كما رآها، ولم يتوخّ التلوّن بما يتناسب مع أهواء المخاطَب.

ومن أهم ما يبرز في الكتاب هو الوعي الزائف الذي يميز المستوطنين عامة، والصهاينة بوجه خاص، حول الانتماء اليهودي الاسترجاعي إلى فلسطين، وازدواجية المعايير التي يوردها في خطابه «الأخلاقي». فهو لا يكفّ يعظ في طيف واسع من الأمور، التي لا يعدو علمه بها معرفة الأشخاص العاديين جداً، لكنه لا ينفك يوجه النصائح التي كثيراً ما تلامس الكلام الفارغ من مضمون حقيقي. ولا غرو أنه لم يتولَّ منصباً هاماً بعد قيام الدولة، أسوة ببعض رفاقه، وذلك على الرغم من أنه لم يفوّت فرصة يعرض فيها نفسه لاحتلال مراكز قيادية.

وهو لا يتردد في التعبير، في رسائله ويومياته ومدوّناته، عن تطلعاته، وصولاً إلى التشكيك فيمن اعتبرهم ذات مرة من أعزّ أصدقائه، وحتى إلى ملامة النفس أحياناً على إضاعة الفرص. وعلى الرغم من كل ذلك، فصاحب هذه المذكرات نرجسي، يرى الكون من خلال ذاته وعمله، ويعتبر نفسه معلماً مبدعاً للجميع، ويستغرب دائماً لماذا لا تُسمع آراؤه، ويجري العمل بناءً على مقترحاته ونصائحه.

إن هذا العمل، كما نُشر، ليس كل المذكرات الأصلية، وإنما هو مختارات جمعها وحرّرها رئيسه في العمل وصديقه الشخصي، يوسيف فايتس، وصدر بجهد مشترك بين عائلة الكاتب ودار النشر «مسادا» (رامات – غان، 1969). والأكيد أن هناك رسائل أخرى، كما أن اليوميات انحصرت في الأعوام 1935-1949، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المدوّنات. ولدى الترجمة لم أجد ضرورة لإدخال الجزء الأول، الذي هو عبارة عن مراثٍ كتبها أصدقاؤه ومعارفه، إلا أنه جرت الإفادة منها في وضع المقدمة.

ولقد حاولت جاهداً البقاء وفياً للنص المنشور، وحتى التساوق مع الأسلوب قدر الإمكان، خاصة وأنه لا يتميز بالبلاغة اللفظية، وبالتحديد في اليوميات، التي كتبها كما يبدو لذاته. وفي الواقع، فإنه بدا لي أن نحماني لم يكن موهوباً بملكة الكتابة، وهو بالتأكيد ليس سميلانسكي الذي عاصره. ولعله ظلّ حتى آخر أيامه يفكر بالروسية، ويترجم إلى العبرية، ويكتب ربما بمساعدة قاموس.

وعلى أي حال، فقد حرصت على ترجمة الحواشي الأصلية كما وردت في النص، وكذلك الملاحظات التي أضفتها لتوضيح النص إلى القارئ العربي. كما أن كل ما هو بين قوسين مربعين [ ] من عندي. كما أنني ألغيت ترجمة فهرس الأسماء من الكتاب، لعدم الجدوى، بعد اختلاف الترتيب والصفحات... إلخ. وأخيراً فإنني أشكر جميع الأصدقاء الذين شجعوني على هذا العمل، وأسهموا بشكل أو بآخر في إصداره. وأخصّ بالذكر عائلتي الصغيرة على المساعدة في إنجاز المهمة. لقد حاولت، وأرجو أن أكون نجحت!

الياس شوفاني

يوسيف نحماني، صاحب هذا الكتاب (1891-1965)، ولد في مدينة ألكسندريا – روسيا، لعائلة يهودية متديّنة، أغرونوفسكي، صاحبة معصرة زيت، وحديقة مع فناء إلى جانب البيت، حيث عملت في زراعة الخضراوات وبعض أشجار الفاكهة، إضافة إلى بقرة وبعض الدواجن. وفي أعقاب مشاكل مع الدولة الروسية، هاجر مع أخيه الأكبر، موشيه، إلى فلسطين في نهاية العام 1907، وذلك بعد حصولهما على جوازات سفر بأسماء مستعارة.

ولدى وصوله إلى البلد، اشتغل نحماني عاملاً زراعياً في كروم العنب في جبال القدس، كما في مستوطنة زخرون يعكوف. وفي عام 1908، انتقل إلى القدس حيث انضم إلى مجموعة صغيرة، منها يتسحاق بن – تسفي، وزوجته لاحقاً، راحيل ينئيت، ي. زروبابيل ودافيد بن ـ غوريون. وعمل في مطبعة، حيث انضم إلى حزب «عمال صهيون» (بوعلي تسيون)، ونشط في تنظيم عمال المطبعة اليهود.

وفي تلك الفترة، رافق يتسحاق بن – تسفي وراحيل ينئيت، مع أنه يصغرهما سناً، في تجوالهما للتعرّف على المحيط وآثاره؛ ومن هنا علاقته الوثيقة بهما، والتي دامت لفترة طويلة. وفي عام 1911، خرج إلى الجليل، وانضم إلى منظمة «الحارس» (هشومير)، بقيادة يسرائيل شوحط وزوجته مانيا، وعمل بداية في مستوطنة مرحافيا، ثم تنقل في مستوطنات أخرى – السجرة، يفنئيل، وبيت – جن. وظل يعمل في «هشومير» إلى أن حُلّت المنظمة في عام 1920، وانتقل بعد ذلك للعمل في الشرطة العبرية، واستمر فيها خلال فترة الانتداب البريطاني (1918-1948)، وظل يتلقّى راتباً لفترة طويلة بصفة شرطي خيّال.

في العام 1921، انتقلت عائلة نحماني إلى طبرية، حيث نشط الرجل في شؤون المدينة، بصفة عضو في المجلس البلدي عن الطائفة اليهودية (1927-1950). وفي نفس الوقت عمل مع شركة «بيكا» في شراء الأراضي حتى العام 1935. وشركة «بيكا» (اتحاد الاستيطان اليهودي في فلسطين)، تأسست عام 1882، على يد الثري اليهودي الفرنسي، البارون ادموند دي روتشيلد، وظلت تحت إشرافه المباشر، عبر موظفين من قبله، إلى العام 1900، عندما نقل إدارتها إلى شركة «إيكا» (اتحاد الاستيطان اليهودي)، التي أسسها (1891) البارون اليهودي موريس هيرش.

وفي سنة 1924، تولى الابن الأكبر للبارون روتشيلد، جيمس، إدارة الشركة حتى موته في عام 1957. وقبل موته بفترة قصيرة، كتب جيمس دي روتشيلد رسالة إلى دافيد بن – غوريون، وهب فيها جميع أملاك الشركة إلى دولة إسرائيل، مع منحة مالية بقيمة ستة ملايين ليرة إسرائيلية لبناء كنيست إسرائيل في القدس. وكان همّ البارون روتشيلد إعالة المستوطنين اليهود الأوائل، وقد ساعدهم في زراعة كروم العنب، كما أقام لهذا الغرض معصرتين لإنتاج النبيذ في ريشون لتسيون وزخرون يعكوف. كما ساعدت «بيكا» في إقامة مشاريع استيطانية كبيرة، مثل شركة كهرباء فلسطين، وشركة أملاح عتليت، وأسهمت في بناء فندق «الملك داوود» في القدس، وغير ذلك.

ومنذ العام 1935، وحتى موته (1965)، عمل نحماني مع «الصندوق القومي اليهودي» (هكيرن هكييمت ليسرائيل)، بصفة مدير مكتبه في الشمال، الذي أقيم في مدينة طبرية، حيث أقام نحماني، وعمل في استملاك الأراضي، أساساً في الشمال، وخاصة في منطقة الحولة.

وقد تأسست "كيرن كييمت" في عام 1901، بصفة شركة مالية تابعة للحركة الصهيونية العالمية، بقرار من المؤتمر الصهيوني الخامس، وسجّلت في لندن (1907) بصفة شركة بريطانية. وفي عام 1922، نقل مركز الصندوق إلى القدس. وكان القصد من تأسيس "كيرن كييمت" أن يكون الذراع الاستيطانية للمنظمة الصهيونية العالمية.

وفي «مؤتمر لندن» الصهيوني (1920)، تقرر تأسيس «الصندوق التأسيسي» (كيرن هيسود)، الذي تولى مسؤولية بناء المستوطنات، فانحصرت مهمة كيرن كييمت في استملاك الأراضي. وقد تعاقب على رئاسة الصندوق القومي عدد من القادة الصهيونيين البارزين مثل بودنهايمر، الذي أصبح رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية، ومناحم أوسشكين، وأفراهام غرانوت.

ورغم كل المبالغة في أهمية هذه المؤسسة للاستيطان اليهودي في فلسطين، فإن الحقيقة أن ما أنجزته في سنيّ نشاطها الطويلة ظل محدوداً جداً مقارنة بما صادرته إسرائيل من الأملاك العربية بالقوة العسكرية والمصادرة بأشكال ملتوية متعددة.

ويقوم الصندوق أساساً على مبدأ أن الأرض التي استملكها تعدّ «وقفاً» على «الشعب اليهودي»، لا يجوز بيعها بعد، وإنما تؤجَّر للمستوطنين اليهود فقط، ولمدة 49 سنة، قابلة للتجديد والتوريث، لكن دون التقسيم. وبعد قيام إسرائيل، وتشكيل «لجنة أراضي إسرائيل»، انحصر عمل الصندوق جداً.

في هذه السنوات الطويلة (1935-1965)، عمل نحماني في استملاك الأراضي في الجليل وغور الأردن، وخاصة في منطقة الحولة. ومذكراته تتمحور أساساً حول نشاطه في هذا المجال، حيث لا يتورع عن الدخول في التفاصيل وإيراد أسماء الأشخاص الذين تعامل معهم، استخدمهم لأغراضه، اشترى منهم أرضاً، أو اصطدم بهم في مسار عمله. وهو لا يقتصد في الإطراء على نفسه وميزاته متناسياً المثل التلمودي السائر: «دع الآخرين يمدحونك، وليس فمك».

وبالفعل، فإنه كثيراً ما قلب هذا القول إلى عكسه وكأنما لسان حاله يقول: «إن لم يمدحك الآخرون فعليك بلسانك». ويتباهى نحماني بمعرفته بالمحيط العربي، وبالعلاقات التي صاغها مع أشخاص مختلفين هناك، وينسى أحياناً نفسه في تعبيره عن رأيه الحقيقي بهؤلاء «الأصدقاء»، والذي لا يخلو من الاستخفاف العنصري بهم. ومهما يكن، فإنه لا يخفي في كتاباته أن هذه الصداقات إنما هي للتوظيف الانتهازي في خدمة مصالحه الذاتية والسياسية.

وهو إذ يقرّ أن لا مناص له من الاستعانة بالعملاء، فإنه يعمل جاهداً لإقناع نفسه بمداهنتهم، على الرغم من احتقاره الشخصي لهم. ومذكراته تنضح بازدواجية المعايير التي حكمت سلوكه كمستوطن، استقى وعيه من حركة عنصرية، قامت على أسس يهودية استرجاعية زائفة من الانتماء التاريخي إلى فلسطين.

وفي شخصيته، شكلاً ومضموناً، كما تبرز من خلال مذكراته، يبدو نحماني نتاج وعي غيبي زائف، محدود الأفق، وصنيعة أفكار استيطانية راجت في عصره. لم يرَ علاقة مشروعه بالاستعمار الرأسمالي، وظلّ يتكلم عن الطبقة العاملة وقيمها، ولكن من زاوية نظر يهودية عنصرية.

لم يعِ المؤامرات التي كانت تحيكها قيادته الصهيونية على الصعيد الدولي، فظل يؤمن أن شراء الأرض هو الأساس في العمل الصهيوني، وطالما تذمّر من سلوك قيادته، وطرح أفكاراً لا مكان لها في العمل الذي كان بصدده، مثل الكلام عن الصداقة مع العرب، ووضع سياسة عربية، الأمر الذي لام قادته على إهماله.

والغريب أنه لم يرَ التناقض في عظاته حول السياسة الصهيونية تجاه العرب، مع الدعوة إلى تهجير سكان البلد الأصليين إلى البلدان العربية المجاورة. ومن هنا، لم يكن بين أصدقائه من هو أعزّ عليه من مديره في العمل، يوسيف فايتس، الذي كان في عداد «لجنة الترحيل»، التي أقامها بن غوريون إعداداً لإعلان الدولة اليهودية، بعد طرد سكان البلد الأصليين منها، وبالقوة العسكرية الفاشية.

وفي المحصلة، فنحماني لم يكن منظّراً سياسياً صهيونياً، بل منفذاً لمشاريع استيطانية، ولم يكن مؤهلاً، لا فكرياً ولا أخلاقياً، للحكم عليها، على الرغم من أنه لا يتوقف عن تقديم النصائح وطرح المواعظ، وفي شتى المجالات المعرفية والأخلاقية، وفي كل مناسبة طارئة.

حرّر هذا الكتاب، بعنوان «يوسف نحماني، رجل الجليل»، صديقه ورئيسه في العمل في الـ"كيرن كييمت"، يوسيف فايتس، الذي جمع المادة وصنّفها وأعدّها للنشر من أوراق الرجل بعد وفاته؛ فصدر الكتاب في العام 1969.

وهو في أربعة أجزاء: الأول منها بمثابة مراثٍ كتبها أصدقاؤه في ذكراه؛ والثاني يضم رسائله إلى مختلف الأشخاص الذين كانت له علاقات بهم، والتي اختارها المحرر مما وفرته له عائلة نحماني، ولم ينشرها كاملة لتحاشي التكرار ودرءاً للابتذال؛ والثالث، وهو اليوميات من سنة 1935 وحتى 1949، والتي أخضعت للتحرير، وبالتالي، الحذف لعدم الأهمية؛ والرابع، وهو الأصغر، ويضم ما توفر من مدوّنات، وهي ليست غزيرة.

وإضافة إلى ذلك، احتوى الكتاب فهرساً للأسماء في نهايته. ولدى ترجمة الكتاب جرى حذف الجزء الأول، الذي لا يهمّ القارئ العربي كثيراً. وكذلك الأمر بالنسبة إلى فهرس الأسماء الذي لم يعد يتناسب مع الترجمة. أما الأجزاء الثلاثة الأخرى فقد تُرجمت كاملة، وبصورة أمينة. مع الحفاظ قدر الإمكان على روحية النص، وحتى مراعاة الأسلوب في الصياغة والتعبير. كما تمّ الحرص على إيراد الحواشي الأصلية، وكذلك ملاحظات المترجم. وكل ما هو بين قوسين مربعين [ ]، هو إضافات توضيحية من المترجم.

كانت غالبية الرسائل بالطبع إلى يوسيف فايتس، وهي تتعلق أساساً بالعمل. إلا أن عدداً منها كان موجّهاً إلى يتسحاق بن – تسفي، الذي أصبح رئيساً لإسرائيل، وإلى زوجته، راحيل ينئيت، التي كانت من رفاق نحماني في منظمة «هشومير». وقليلاً ما كتب نحماني إلى دافيد بن – غوريون، ويبدو أن العلاقة بين الاثنين لم تكن حميمة، ونحماني لا يتورع عن التعبير عن ذلك، على عكس احترامه لموشيه شاريت.

والأكيد أن نحماني لم يستوعب لماذا لم يكن بن – غوريون، متحمّساً لمخططات "الكيرن كييمت" لشراء الأراضي. لم يفهم هذا السمسار أن بن – غوريون قد حسم أمره باحتلال الأرض بالقوة العسكرية، ولم يكن يريد تبذير الأموال الصهيونية على الاستملاك بأسلوب نحماني. ومع أن الزعيم الأبرز لـ«كيرن كييمت»، مناحم أوسشكين، استثنى هذا الخيار لعدم توفر القوة العسكرية اللازمة لتنفيذ هكذا سياسة لاستملاك الأرض، وركز اهتمامه على الشراء، خاصة في مرج ابن عامر، فإن بن – غوريون حقق مبتغاه بأسلوبه الخاص.

ولا عجب أن بن – غوريون ناصب "الكيرن كييمت" العداء، وسعى إلى إنهاء دورها بعد قيام إسرائيل، إلا أن الأوضاع الصهيونية حالت دون ذلك. وبعد صراع مرير، تم التوصل أخيراً إلى إقامة «سلطة أراضي إسرائيل»، التي تولى يوسيف فايتس إدارتها، والذي بدوره استجاب لتوسلات نحماني في توظيفه معه.

وتكمن أهمية هذا كتاب نحماني في أنه شهادة من عصره على الممارسات الاستيطانية الصهيونية، والأساليب الملتوية التي استخدمتها "الكيرن كييمت" في استملاك الأراضي واقتلاع الفلاحين العرب منها. كما أنه وثيقة دامغة للملاّكين الغائبين، الذين استحوذوا على مساحات واسعة من الأراضي، كانت بالنسبة إليهم بمثابة سلعة، وليست مصدراً للرزق، ناهيك عن علاقة بالوطن. ولذلك، وعندما لاحت لهم الفرصة للتخلص منها باعوها للحركة الصهيونية، التي كانت في المرصاد. بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك عندما تعاونوا معها، إلى جانب السلطات الرسمية، في إجلاء الفلاحين المرابعين عنها، وبالقوة الغاشمة، لتسليمها مفرغة من سكانها إلى المستوطنين اليهود.

وعلى الرغم من كل محاولات التعتيم على مقاومة الفلاحين لبيع الأراضي، فإن كتابات نحماني تنضح بالعداء لهم، والكلام عنهم بلغة عنصرية، تنسف كل كلامه المنمق والمتصنّع عن القيم الإنسانية والمعايير الأخلاقية التي يتغنى بها، وكثيراً ما يغدقها على نفسه.

وإضافة إلى الأهمية التاريخية لهذه الشهادة، خاصة لناحية الممارسات الصهيونية على الأرض، وليس على الصعيد الدعاوي الدولي، فإن الكتاب يشير إلى وجود تيارات متباينة داخل الحركة الصهيونية، وصاحبه ينتمي إلى التيار الاستيطاني التقليدي، الذي هُزم أمام التيار العميل للمراكز الإمبريالية، والذي أراد بناء المشروع الاستيطاني على شكل «ثكنة»، في خدمة مصالح تلك المراكز الراعية للمشروع الصهيوني، والذي قاده دافيد بن - غوريون.

وإذ يحاول الكاتب إظهار أن المقاومة العربية للاستيطان الصهيوني هي نتاج أعمال التحريض لفئة محصورة من «القوميين» العرب، الذين يشكّك في مصداقيتهم، فإنه يناقض نفسه وهو يتكلم عمن يعتبرهم خصومه في المعركة. وفيما يحاول، تبريراً للذات، تجريد أهل البلد الأصليين من الوعي السياسي، وبالتالي، نفي وجود المعارضة للمشروع الصهيوني لديهم، بل على العكس، ترحيبهم به لما يدرّه عليهم من فوائد اقتصادية، فإن كلامه عن متاعبه والعقبات التي تعترض سبيل عمله، وبالتالي، تشجيعه ذاته للتحلّي بالصبر والمثابرة لتحقيق أهدافه، يفضح ادعاءاته بغياب المقاومة العربية الشعبية لهذا الاستيطان.

وفي الواقع، فإنه ما قامت مستوطنة يهودية واحدة في فلسطين بدون مقاومة عربية، بشكل أو بآخر. وتبلغ عنصريته ذروتها عندما يتكلم عن «المرابعين»، وضرورة إجلائهم عن الأرض التي باعها ملاّكها من الإقطاعيين الغائبين، وبشتى الأساليب القمعية. ولا يتوقف عن استخدام القوانين والمحاكم لتبرير اقتلاع هؤلاء المرابعين من الأرض، كونها ليست مسجّلة بأسمائهم، لكنه لا يتورّع قط، على الرغم من ثرثرته عن الأخلاق والنظام والقانون، عن العمل على الالتفاف على القوانين بشتى السبل والوسائل، وصولاً إلى تسجيل الأرض بأسماء مستعارة.

وفي الواقع، فإنه ما من صفحة في الكتاب لا تفضح نفاق هذا العميل الصهيوني، من خلال ازدواجية المعايير التي يستخدمها في هذا الاتجاه أو ذاك؛ الغاية تبرّر الوسيلة، فالاستيطان اليهودي هو الهدف السامي بالنسبة إليه، والذي لا توازيه قيمة أخرى.

ويتباهى نحماني، وكذلك أصدقاؤه ومعارفه الذين أسهموا في الكتابة عنه في مقدمة مذكراته، بأنه كان يعرف الجليل جيداً، الأرض والشعب، وكانت له صداقات واسعة النطاق بين سكان القرى العربية. إلا أن الحقيقة ليست كذلك تماماً. لقد عرفه الناس في الجليل الشرقي، أما في الغربي فلم يكن معروفاً قبل قيام إسرائيل (1948). كان نشاطه محصوراً في منطقة غور الأردن، من بيسان إلى الحولة، مروراً بطبرية وسمخ، ثم تمدّد في سنواته الأخيرة إلى قضاء صفد. أما بعد قيام إسرائيل فأصبح معروفاً لقطاع واسع من الناس، كونه أضحى رديفاً للحاكم العسكري، همّه حياكة المؤامرات لمصادرة الأراضي العربية لمن بقي تحت الاحتلال الإسرائيلي، وابتداع الأساليب الملتوية لانتزاع ملكيتها من أصحابها الأصليين.

وبرز نحماني في طرحه الدؤوب لتهويد الجليل، الذي ظل جزء كبير من سكانه فيه بعد ذلك الاحتلال. وكان يعتبر المحامي المعروف حنا نقارة، الذي كرّس معظم أوقاته للدفاع عن قضايا الفلاحين الفلسطينيين تحت الحكم الإسرائيلي في المحاكم، عدوّه اللدود، فلا يفوّت فرصة يتناوله فيها بالتقريع والسباب والشتائم البذيئة، والتي حفظها عن ظهر قلب. ومع ذلك، فإنه من كتاباته المتأخرة، يبدو غير راض تماماً عما آلت إليه الأمور التي عمل من أجلها بنشاط خلال أيام شبابه، على الأقل، لناحية أنه لم يتولّ منصباً رفيعاً في الدولة اليهودية، أسوة برفاقه من مستوطني الهجرة الثانية (1904-1914).

ويبالغ نحماني جداً في تمجيده لإنجازات "الكيرن كييمت" في مجال بناء الاستيطان اليهودي في فلسطين، والذي يعتبره العامل الرئيسي في إقامة الدولة العبرية. وفي الواقع، فإن هذه المؤسسة الصهيونية، التي أنشئت منذ بدايات العمل الصهيوني، بهدف تهويد الأرض، كذراع للوكالة اليهودية العاملة على تهويد فلسطين – الأرض والشعب والسوق، لم تقم بالدور الذي كان متوقعاً منها.

وفي المحصلة، فإن إسرائيل لم تقم بفعل الاستيطان اليهودي في فلسطين، بل نتيجة مباشرة للغزو العسكري من الداخل، بدعم إمبريالي من الخارج. ولا غرو أن بن – غوريون لم يعطِ تلك المؤسسة أهمية حيوية، كما يعبّر عن ذلك نحماني في مذكراته، وبلا توقف. لم يفهم نحماني أن بن – غوريون، وبعد قرار «لجنة بيل» بتقسيم فلسطين (1937)، والذي منح الدولة اليهودية أكثر من نصف فلسطين، حسم أمره باحتلال فلسطين بالقوة وطرد سكانها بالعنف الفاشي؛ فلماذا العمل على شراء الأرض ودفع ثمنها؟ كان الأفضل في نظر بن – غوريون توجيه موارد الحركة الصهيونية المالية إلى بناء القوة العسكرية، المؤهلة لاحتلال البلد وطرد سكانه، والتي تشكل العمود الفقري للمشروع الاستيطاني الصهيوني، الذي يتخذ في بنائه شكل «الثكنة»، وليس "الكيرن كييمت" كما اعتقد نحماني وأقرانه.

وفي واقع الحال، فإنه قبل انطلاق العمل الصهيوني السياسي (1897)، لم تكن عملية شراء الأراضي للاستيطان الصهيوني خاضعة لسياسة، أو لمؤسسة، مركزية.

ويلخص الباحث باروخ كيمرلنغ حصيلة تلك الفترة في كتابه (الصهيونية والأرض، ص42) (بالإنكليزية) كالتالي: «فعمليات شراء الأراضي التي قام بها البارون روتشيلد ومنظماته الاستيطانية كانت منسجمة مع النهج العام لانتقال الأرض وأشكاله، مع أنها تبدو للوهلة الأولى مجردة من البعد السياسي وعنصر الاعتبارات القومية. فقد كانت هذه عمليات شراء قطع كبيرة، أوجدت في بعض المناطق تواصلاً إقليمياً يهودياً، خاصة بعد أن اندمجت مع مشتريات يهودية أخرى.

كما تشير إلى نهج يرمي لإيجاد احتياطي من الأرض. وهكذا جرى التوكيد على حقيقة ألا تكون الأرض مأهولة بالسكان العرب الذين قد يطرحون المطالب. ورأس المال الوفير نسبياً، من جهة، وغياب أية عقيدة بالنسبة إلى العمال العرب (الذين استمر بعضهم بالعمل في هذه الأراضي)، من جهة أخرى، منحا سياسة البارون والمنظمات التي تابعت نشاطه بالنسبة إلى الأرض مرونة كبيرة».

إلا أنه بعد تأسيس "الكيرن كييمت" في المؤتمر الصهيوني العام الخامس (1901)، فقد نصّ قرار تأسيسه على ما يلي: 1) تخويل «الشعب اليهودي» ملكية «الصندوق القومي ليسرائيل» (كيرن كييمت)؛
2) إناطة إدارة الصندوق بلجنة الأعمال المصغرة (الهيئة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية)؛
3) إن أموال الصندوق تستخدم فقط لشراء الأرض في فلسطين وسوريا؛
4) لن يبدأ الإنفاق حتى يتحقق جمع مبلغ يحدده المؤتمر الصهيوني؛
5) يمكن استخدام نصف هذا المبلغ لشراء الأرض والاحتفاظ بالباقي لتجميع فوائده، وحتى يصبح الاستعمار على نطاق واسع ممكناً، يمكن التصرف فيما يجمع سنوياً على ذلك النحو؛
6) لا يمكن في أية حال استنفاد الصندوق، فلابد أن يتوفر فيه دائماً مبلغ لا يقل عن مئة ألف جنيه استرليني.

وكان مقر الصندوق بداية في كولون (ألمانيا)، وبعد تسجيله في لندن (1907) نقل إلى فيينا، وأثناء الحرب العالمية الأولى نقل إلى لاهاي، وفي عام 1921، تقرر نقله إلى القدس. وفي حينه تولى إدارته القيادي الصهيوني مناحم أوسشكين (1923-1941)، الذي طوّره وأعطاه طابعه الاستيطاني. وبعد وفاة أوسشكين، تولى أبراهام غرانوت إدارته (1941-1960)، وخلفه يعكوف تسور (1960-1977)، ثم موشيه ريفلين، وبعده شلومو غرافتس. وتتمثل في مجلس إدارة الصندوق جميع القطاعات والفئات الصهيونية في إسرائيل والخارج.

وقبل تسجيل الصندوق جرت مناقشات مستفيضة لقانون تأسيسه، عكست عدداً من الخلافات في وجهات النظر حول طبيعته وصلاحياته ونمط عمله. وإذ تمّ اعتماد مبدأ الملكية الجماعية اليهودية على الأرض التي يحوزها الصندوق، وأبدية هذا الوضع، بحيث لا يجوز مطلقاً بيع تلك الأراضي، ولا تأجيرها لغير اليهود، فقد جرت مع الزمن تعديلات على صلاحيات الصندوق وأساليب عمله. ففي قانون تأسيسه يرد: إن الهدف الرئيسي هو شراء واستئجار أو مبادلة أو استملاك أية أرض أو غابات. واكتساب حقوق الحيازة وغيرها، والمرافق والأملاك الأخرى غير المنقولة في المنطقة المقررة، وهي في القانون تشير إلى فلسطين وسوريا، وأي جزء آخر من تركيا في آسيا وشبه جزيرة سيناء، أو أي جزء منها لتوطين اليهود فيها. والقانون الأساسي للصندوق يمنحه صلاحيات واسعة، مثل استصلاح وزراعة وريّ أي جزء من أراضي الصندوق و تحسينه، وكذلك بناء أو تغيير أو صيانة وتحسين أي بناء على هذه الأراضي. والمهم تأجير أي قسم من أراضي الصندوق أو أملاكه الأخرى غير المنقولة لأي يهودي، وبأية شروط، لكن لا يخوّل المستأجر بالبيع والنقل والرهن والتوكيل، كما لا يحق له التأجير أو التخلي عن أية منفعة في أرض الصندوق غير تلك التي يمنحها الصندوق للمستأجر في نتاج الأرض.

وفي «مؤتمر لندن» (1920)، جرت مناقشة جذرية لوضع الصندوق، وتقرر أن يكون «أداة السياسة اليهودية تجاه الأرض»، وبالتالي، فهو ينوب عن المالك (الشعب اليهودي) في امتلاك الأرض وإدارة شؤونها وتطويرها والانتفاع بها وتأجيرها، كما أنه «يحمي مصالح العمال اليهود بتأمين تشغيلهم وحدهم فيها». وقرر مؤتمر لندن:
1) تجديد التأجير لمدة 49 سنة أخرى، وبذلك يكون مجموع مدة الإيجار 98 عاماً؛
2) يمكن لهذه الأرض أن تورّث، لكن لوريث واحد، وذلك للحيلولة دون تقسيمها؛
3) على المستأجر العيش على الأرض؛
4) إذا كانت الأرض زراعية فعليه فلاحتها بنفسه؛
5) وعليه دفع إيجار سنوي قدره 2% من قيمة الأرض الريفية، و4% من المدينية؛
6) يجب تخمين قيمة الأرض كل سبعة أعوام وتعديل الإيجار وفقاً لذلك؛
7) تحدد مساحة الأرض المستأجرة على أساس قدرة المستأجر وأسرته على فلاحتها، من دون الاعتماد على استخدام العمال؛
8) لا يجوز لأي مستأجر الحصول على أكثر من عقد إيجار واحد.

وإزاء التطورات السياسية في فلسطين، المتأثرة أساساً بالمقاومة العربية للمشروع الصهيوني، كان على "الكيرن كييمت" أن تعدل أساليب عملها في استملاك الأراضي، الأمر الذي أصبح عنوان الصراع العربي – الصهيوني في عهد الانتداب البريطاني. وفي أعقاب ثورة 1936-1939، وما ترتب عليها من توصيات «لجنة بيل» (مشروع التقسيم لعام 1937)، أدخلت كيرن كييمت تعديلات على سياستها في استملاك الأراضي، أهمها مبدآن جديدان وثيقا الصلة أحدهما بالآخر: الأمن الاستراتيجي والسياسة القومية.

وهذا المشروع أعطى الوكالة اليهودية أراضيَ لم تكن تملكها، وبمساحات تفوق عدة مرات ما كان في حوزتها، وكان طبيعياً أن يعكس ذلك نفسه على صناعة القرار داخل القيادة الصهيونية بالنسبة إلى سياسة استملاك الأراضي وأنماط عملها الميداني.

وعلى أية حال، فإن بداية الاستيطان اليهودي في فلسطين كانت متعثرة. فقد تضافرت عوامل موضوعية – السياسة العثمانية، المقاومة المحلية، قلة الأراضي المتوفرة للاستيطان وأسعارها المرتفعة نسبياً، وأنماط الملكية القائمة... إلخ، مع أخرى ذاتية – التركيب الاجتماعي للمستوطنين، تنظيمهم، الإمكانات المادية المتوفرة لديهم، والخبرات التي يمتلكونها... إلخ، لعرقلة تطور الحركة الاستيطانية اليهودية. ففي بداية العام 1890، كان في فلسطين 7 مستوطنات فحسب، أقيمت كلها في النصف الأول من الثمانينيات، وتوقفت الحركة في النصف الثاني منها. وفيما خلا غديرا، التي أقيمت بدعم من «أحباء صهيون»، ونيس تسيونا، التي كانت لا تزال مزرعة خاصة لعائلة ليرر، كانت كل المستوطنات الأخرى برعاية البارون روتشيلد.

وقد فشلت محاولتان استيطانيتان: الأولى في بئير طوفيا، رغم دعم البارون، والثانية في الجولان (الرمثانية)، التي قام بها عدد من يهود صفد. ويقدّر عدد سكان تلك المستوطنات بحوالي 3.000 نسمة، غالبيتهم تنتمي إلى نحو 300 عائلة مزارعة، امتلكت حوالي 100.000 دونم من الأراضي، منها 41.000 مزورعة. وبذلك، وبحسب التقديرات المتوفرة، كان هؤلاء يشكلون حوالي 6% من عدد السكان اليهود في البلد حينئذ (حوالي 47.000 نسمة).

وشهد العام 1890 بداية موجة جديدة من الهجرة دامت حوالي عامين، وكانت أساساً من روسيا، وتأثرت بعاملين: زيادة القيود الحكومية على اليهود فيها، وصولاً إلى طردهم من موسكو، من جهة، والسماح لحركة «أحباء صهيون» بالعمل العلني، وإقامة مكتب لها في أوديسا (لجنة أوديسا)، من جهة أخرى. وخلال العامين 1890، 1891، أقيمت 6 مستوطنات: رحوفوت (ديران)، حديرا (الخضيرة)، عين زيتيم (عين الزيتون)، مشمار هيردين، شفيا، وبات شلومو. إلا أن هذه الطفرة لم تدم طويلاً، إذ أنعشت السمسرة بالأراضي فأدت إلى ارتفاع سعرها، وبالتالي، إلى تحريك السلطات العثمانية لوقفها، من خلال تشديد القيود على بيع الأراضي، كما على تأشيرات دخول المهاجرين اليهود الروس إلى البلد.

ومع أن النشاط اليهودي الاستيطاني تراجع في الفترة ما بين 1892-1899، فقد أقيمت 6 مستوطنات أخرى: موتسا (1894)، بالقرب من القدس، بني يهودا، هرطوف، بئير طوفيا، ومتولا (المطلة). وكانت هذه على العموم مستوطنات صغيرة، في كل منها أقل من 20 عائلة مزارعة، ولم تتطور كثيراً، فيما هجرت مستوطنة عين زيتيم قبل العام 1900.

وكان العام 1900 أيضاً منعطفاً آخر في توسيع النشاط الاستيطاني. ويعود ذلك إلى سببين: 1) بدء نشاط المنظمة الصهيونية العالمية؛ 2) التحول الجذري في سياسة البارون روتشيلد تجاه المستوطنات التي يرعاها. وبعد أن أوكل إدارتها إلى شركة «إيكا»، قامت هذه في الفترة ما بين 1901-1909 ببناء عدد من المستوطنات في الجليل الأسفل، منها: كفار تافور (مسحة)، إيلانا (السجرة)، منحمية، يفنئيل، متسبيه، وكنيرت.

وفي عام 1907، سعت الشركة إلى شراء سهل عكا، عبر سمسارها حاييم مرغليت كالفارسكي، لكن الصفقة لم تتم. ولم تحقق هذه المستوطنات نجاحاً كبيراً، وكانت تسير نحو الانهيار عندما بدأت «الهجرة الثانية»، التي جاءت برعاية المنظمة الصهيونية العالمية.

وتعزو المصادر الصهيونية أهمية كبرى للهجرة الثانية (1904-1914) في جوانب متعددة من المشروع الصهيوني الاستيطاني. لقد فرض أفرادها مبدأ «العمل العبري» على مستوطني الهجرة الأولى، وتولّوا بأنفسهم أعمال الزراعة المأجورة والبناء والحراسة... إلخ. وكانت الحركة الصهيونية أنشأت (1908) «مكتب فلسطين» في يافا، بإدارة القيادي الصهيوني آرثر روبين، الذي أصبح مركز النشاط الاستيطاني اليهودي في فلسطين.

وفي تلك الفترة، ولأسباب عملانية، تم تأسيس «شركة تطوير أراضي فلسطين»، والتي من أهم الإداريين فيها المهندس الزراعي أبراهام غرانوت. وكان عمل هذه الشركة الأساسي شراء الأراضي بالأشكال المختلفة، متجاوزة القيود التي فرضتها "الكيرن كييمت"، فاعتمدت عدداً من السماسرة، كان أبرزهم يهوشوع حانكين (1864-1945)، ويوسيف فايتس (1890-1973)، لشراء الأراضي من الملاك الغائبين، لصالح المؤسسات الصهيونية العامة، والجمعيات الخاصة، وحتى الأفراد. إلا أن هذه الشركة اصطدمت بعقبات مالية ومعارضة حكومية، فلم تنجز كثيراً، وانحصر عملها في إقامة مستوطنات صغيرة مثل: دغانيا وكنيرت في غور الأردن، بن شيمن وخلدة في وسط البلاد، مرحافيا في مرج ابن عامر، وغان شموئيل في السهل الساحلي، وتوقفت عن العمل تماماً مع اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914).

في المحصلة، بلغ مجموع ما امتلكه اليهود من الأراضي في فلسطين عشية الحرب العالمية الأولى 418.000 دونم فقط، منها 16,000 بملكية "الكيرن كييمت". وقد تراكمت هذه المساحة خلال الفترة 1882-1914، وفيها وصل عدد المستوطنات إلى 44، وسكانها إلى 12.000 فقط، من أصل حوالي 85.000 يهودي في البلد كله، نصفهم تقريباً في القدس وحدها. ففي سنة 1890، نجح يهوشوع حانكين في شراء أراضي ديران (10.000 دونم، بسعر بخس – 11 فرنكاً للدونم الواحد) من عائلة روك (يافا). وفي عام 1891، اشترى حانكين أراضي الخضيرة، التي بلغت مساحتها 30.000 دونم، من مالكها سليم الخوري (وكيل عائلة سرسق اللبنانية)، بسعر مرتفع نسبياً (18 فرنكاً للدونم الواحد). وكذلك، وبعد أن ذاع صيته كسمسار أراضٍ لصالح الاستيطان اليهودي، اتصلت به عائلة سرسق البيروتية، والتي كانت تملك 225.000 دونم في مرج ابن عامر، وعرضت عليه أراضي الفولة (العفولة)، ومساحتها 9.400 دونم، لكن الصفقة لم تنجز حتى عام 1910، فأقيمت عليها مستوطنة مرحافيا (1911). وأخيراً، وبعد الحرب العالمية الأولى، انتقلت جميع الأراضي التي يمتلكها السراسقة في مرج ابن عامر إلى "الكيرن كييمت". ويقدر مجموع ما اشتراه حانكين خلال حياته بحوالي 600.000 دونم (أي نصف ما امتلكه اليهود من الأراضي في فلسطين حتى تاريخه – 1945).

ويتضح من الأرقام المتوفرة أن "الكيرن كييمت" لم تحقق نجاحاً كبيراً في المهمة التي أنشئت من أجلها قبل عهد الانتداب البريطاني، وذلك لأسباب سياسية وعملية واقتصادية. وفي تقريرها إلى المؤتمر الصهيوني السابع (1905) أفادت "الكيرن كييمت" أنها تملك 200 دونم من الأرض فقط، حصلت عليها كهدية، وليس بالشراء، الأمر الذي عرّضها إلى نقد شديد. ولذلك تحركت عام (1905) واشترت أرضاً مساحتها 2.000 في قرية حطين، من المصرف الإنكليزي – الفلسطيني، وكذلك قطعتين أخريين، مساحة الأولى 2.000 دونم في خلدة، والثانية 1.600 في بن- شيمن – منطقة اللد والرملة. وفي عام 1908، اشترت من المصرف الإنكليزي – الفلسطيني قطعة مساحتها 6.500 دونم على الطرف الجنوبي الغربي من بحيرة طبرية، أقيمت عليها مستوطنتا دغانيا وكنيرت. وفي عام 1906 اشترت قطعة في حيفا، أقيم عليها معهد الهندسة التطبيقية (التخنيون). وفي عام 1910، اشترت 3.524 دونماً من أراضي الفولة، أقيمت عليها مستوطنة مرحافيا. ومنذ 1910 وحتى 1920، استملكت "الكيرن كييمت" 1.010 دونمات أخرى، تبرع بـ775 دونماً منها أصحابها اليهود. وبذلك وصل مجموع ما امتلكه هذا الصندوق في عام 1920 إلى 16.366 دونماً.

والظاهر أنه حتى عام 1920 لم تكن للصندوق سياسة واضحة بالنسبة إلى استملاك الأراضي، ولا برنامج عمل واضح لمجالات نشاطه، ولذلك كثيراً ما تعرض للنقد في المؤتمرات الصهيونية، لأن مشترياته كانت عشوائية – حيث عرضت الأرض للبيع وحين توفر المال اللازم للشراء. ولهذا كانت الأراضي التي اشتراها ذات إمكانات زراعية مختلفة اختلافاً بيّناً، وتكاليف الاستملاك والتطوير باهظة، وقطع الأرض صغيرة ومبعثرة. وهذه كلها وسائل باهظة التكاليف، وغير فعّالة وبطيئة للقيام باستيطان يهودي واسع النطاق في فلسطين. وإضافة إلى شحّ موارده المالية، والتعقيدات الإجرائية لنقل ملكية الأراضي، وبالتالي، كلفتها السياسية للرشاوى والسمسرة والتحايل... إلخ، فوجئ الصندوق على ما يبدو من أنه قلّما كان صغار الملاك العرب على استعداد لبيع أراضيهم حتى بأسعار مغرية. ولذلك استملك الصندوق حوالي 75% من أراضيه، خلال الفترة من بداية عمله وحتى عام 1948، من مالكي الأرض الواسعة، الذين كانوا في الكثير من الحالات من المالكين الغائبين.

ومع ذلك، بدأ الصندوق مبكراً يمارس نشاطات أخرى مختلفة: تأسيس المستوطنات، توطين المهاجرين الجدد، تقديم القروض للمستوطنين، وأعمال التحريج واستصلاح الأراضي، وإنشاء البنى التحتية (الاقتصادية والاجتماعية والتربوية)، وحتى تطوير المدن.

وفي «مؤتمر لندن» (1920) تقرر إنشاء «الصندوق التأسيسي» (كيرن هيسود) ليكون الذراع المالية للمنظمة الصهيونية في مشروعها الاستيطاني بعد صدور «وعد بلفور» (1917)، ودخول العمل الصهيوني مرحلة جديدة. وقد سجّل الصندوق التأسيسي (1921) كشركة بريطانية في لندن، برأسمال قدره 25.000.000 جنيه استرليني، وفي سنة 1926 نقل مقرّه إلى القدس.

وتعاون «كيرن هيسود» مع «الكيرن كييمت» بشكل وثيق، كونه أصبح بعد تشكيل «الوكالة اليهودية الموسعة» (1929) الأداة المالية الرئيسية لها والمصدر الأكبر لتمويلها. وفي قرار إنشائه خصص 20% من وارداته إلى "الكيرن كييمت"، كما تقرر صرف ثلث ما تبقى من أمواله على أعمال الهجرة والتعليم والخدمات الاجتماعية، بينما يخصص الثلثان المتبقيان لإنشاء المؤسسات العامة والمشاريع الاقتصادية.

والواضح أن هذا الصندوق جاء ليدعم الصهيونية العملية، التي انتهجت سياسة التغلغل الاقتصادي والاستيلاء على فلسطين، عبر بسط السيطرة اليهودية على مقدراتها ومرافقها الاقتصادية. وفي الواقع، فقد قام بتمويل جميع نشاطات الوكالة اليهودية في فلسطين، في حقول الاستيطان والهجرة والاستيعاب والتعليم والأمن وشراء الأسلحة وتمويل الهجرة غير الشرعية وحرب عام 1948.

وفضلاً عن الأموال التي حوّلها إلى الصندوق القومي ليسرائيل، أي 20% من إيراداته، والتي ذهبت لشراء الأراضي واستصلاحها، فقد قام الصندوق التأسيسي بتمويل الكثير من النشاطات والهيئات والشركات الصهيونية. ومنها على سبيل المثال لا الحصر: مكاتب الوكالة اليهودية، ومنظمة «هداسا» الطبية، وشركة كهرباء فلسطين، وشركة البوتاس الفلسطينية، ومشاريع المياه القطرية (مكوروت)، ومشاريع ملاحة – ميناء تل – أبيب وشركة تسيم للنقل البحري، وشركة الطيران «إل – عال»، وبنك الرهونات العام». وقد رفدت هذا الصندوق مؤسسات مالية صهيونية متعددة. وخلال فترة الانتداب أدى الصندوق التأسيسي دوراً بارزاً في تعزيز الاستيطان اليهودي في فلسطين، وقام بمهام الهجرة، الاستيعاب، التوطين، الثقافة، الإسكان، العمل، الزراعة، الصناعة، التعليم، الصحة، وهجرة الشبيبة وغيرها. وبعد قيام إسرائيل أسهم الصندوق في جمع الأموال الطائلة لها، ومساعدتها في استيعاب المهاجرين والبناء والتسلح وغير ذلك.

بعد احتلال فلسطين على يد بريطانيا في الحرب العالمية الأولى ووضعها تحت الانتداب الإنكليزي، سارعت حكومة الانتداب إلى برهنة التزامها سياسة «الوطن القومي اليهودي». فأصدرت قانوناً للهجرة يسمح لليهود بالمهاجرة والاستيطان في فلسطين، وأتبعته (1920) بقانون نقل ملكية الأرض لتسهيل شراء اليهود للأرض. وأعيد فتح مكتب تسجيل الأراضي، ووضع نظام جديد لتسوية ملكية الأراضي التي كانت تتسم بالتعقيد في زمن العثمانيين. وكانت نتيجة هذه الإجراءات استملاك الأرض على نحو أبسط وأسرع وأقل تكلفة. كما أنها عادت فعلاً بأكبر النفع على الصهيونيين، وعلى "الكيرن كيميت"، الذي وافقت حكومة فلسطين على اعتباره «مؤسسة ذات نفع عام»، وبناء عليه جرى تسجيله في فلسطين، وخوّل صلاحية شراء الأراضي وتطويرها. ومن الواضح أن حافز حكومة الانتداب لإدخال تشريعات جديدة بالنسبة إلى الأرض وملكيتها ونقلها، هو إلغاء القوانين التي سنّتها الحكومة العثمانية لمنع بيع الأراضي اليهود في فلسطين. إلا أنه على الرغم من كل التسهيلات التي قدمتها إدارة الانتداب للمؤسسات الصهيونية الاستيطانية، فقد ظلت هذه الأخيرة تتذمر وتشتكي، وكأنها، على أرضية وعد بلفور، أرادت أن تستولي على أرض فلسطين مجاناً، وأن تقدم لها بريطانيا ذلك على طبق من فضة. وتفيد التقارير، بما فيها الصهيونية ذاتها، أن الوكالة اليهودية لم تكن تمتلك الأموال اللازمة لشراء الأراضي المعروضة في السوق، على قلّتها.

في الواقع، كان جذر المشكلة التي واجهت المشروع الصهيوني يكمن في المقاومة العربية المحلية له. فليس فقط أن الملاكين الفلسطينيين الصغار امتنعوا عن بيع أراضيهم لليهود، بل حتى أصحاب الأرض الكبار تحاشوا ذلك أيضاً، لأسباب وطنية وسياسية واجتماعية، فلم يبقَ أمام المؤسسات الاستيطانية الصهيونية إلا الملاّك الغائبين والدولة. ولكن الدولة لم تكن تملك أرضاً واسعة صالحة للزراعة لتمنحها إلى المؤسسات الاستيطانية الصهيونية، فانحصر دورها على هذا الصعيد في أراضي السلطان (الجفتلك) وما شابهها من الموات والمتروكة. وكذلك، فإن حصة المالكين الغائبين من الأراضي الفلسطينية لم تكن كبيرة بشكل خاص، وعنهم يقول آرثر روبين: «كانت الاعتبارات السياسية تعني أن مالكي الأرض العرب المحليين، الذين وعوا العلاقة بين الموقع الاجتماعي وملكية الأرض، وأفزعتهم الدعاية المضادة للصهيونية، كانوا أقل ميلاً لبيع الأرض لليهود، بينما لم تكن هذه الاعتبارات تهم المالكين الغائبين.

وكذلك، فالاعتبارات الاقتصادية قد تكون جعلت المالكين الغائبين أشد رغبة في التخلص من أراضيهم، لأن الحكم البريطاني وزيادة الضرائب والرسوم جعلا هذه الأراضي تبعة قانونية. فالمالكون الغائبون، الراغبون في البيع السريع بدلاً من المفاوضات الطويلة، من المرجّح ألاّ يصمدوا طويلاً بانتظار أسعار أعلى." وهذا كله، إضافة إلى عجز الوكالة اليهودية المالي، وتطلعها إلى الاستيلاء على الأرض بالقوة في الوقت المناسب، يفسّر صغر حجم مساحة الأراضي التي امتلكها اليهود لدى إعلانهم دولتهم، والتي بقيت حتى عام 1948 في حدود 6% تقريباً من مساحة فلسطين.

ومع ذلك، فشراء أراضي المالكين الغائبين لم يكن سهلاً، وانطوى على تعقيدات قانونية وإجرائية. ولعلّ استملاك أرض مرج ابن عامر، من عائلة سرسق البيروتية، يقدّم مثالاً على تلك التعقيدات، مع أنه لا يشكل ظاهرة فريدة. لقد استهدفت المؤسسات الاستيطانية اليهودية أرض مرج ابن عامر منذ تسعينات القرن التاسع عشر، إلا أن السلطات العثمانية عرقلت الصفقة. وفي ظل حكومة الانتداب وتشريعاتها الجديدة تمكن حانكين (1920) من إتمام الصفقة. وعن هذه الصفقة يقول آرثر روبين: «فقط بعد إقامة الحكومة المدنية برئاسة هربرت سامويل، عام 1920، سُمح بشراء الأرض ثانية والتقط حانكين الفرصة على الفور، لإنهاء الاتفاق المؤقت على 70.000 دونم. وأوضح ميخائيل أبكاريوس، المساعد الأول لأمين الصندوق في إدارة الانتداب، السرعة التي تم فيها عقد الصفقة بالتوكيد على «وضع الملاكين، الذي لا يُحسَدون عليه»، حيث مع انحلال الإمبراطورية العثمانية، أصبحوا أجانب، وكانوا حريصين على تحاشي مصاعب إدارة أملاك في دولة أجنبية. وبعد سنين عديدة كتب أبكاريوس: «لقد شملت عملية البيع 22 قرية، وكان على السكان أن يرحلوا. وفيما خلا قرية واحدة، ترك المزارعون أرضهم المستأجَرة وتلقوا تعويضاً مالياً... وكان القانون الساري المفعول في حينه هو قانون ملكية الأرض 1921، الذي يحظر البيع بدون موافقة الحكومة كشرط مسبق لتسجيل الأرض. وقد منحت الحكومة موافقتها تمشياً مع سياسة «الوطن القومي اليهودي»، بصرف النظر عن مصير الفلاحين». وكانت المؤسسات الصهيونية تصرّ على إخلاء المزارعين عن الأرض كشرط لعقد الصفقة.

وبالطبع، أثار ذلك ردات فعل عنيفة من قبل المزارعين، وحركات احتجاج سياسية وشعبية، فوقعت اشتباكات بين المزارعين والمستوطنين، تدخلت فيها السلطة لقمع المزارعين وإجلائهم بالقوة. كما احتجت «اللجنة التنفيذية العربية» (25/8/1924) أمام المندوب السامي على بيع أراضي مرج ابن عامر وطرد المزارعين منها.

وإذ واكبت المقاومة العربية، بأشكال مختلفة، الاستيطان الصهيوني واستملاكه الأرض منذ بدايته، فقد تصاعدت هذه المقاومة مع تفاقم المشكلة بعد وعد بلفور والانتداب البريطاني. فمنذ بدايته، أثار الاستيطان اليهودي عداءً شديداً بين العرب – وليس فقط بين الفلاحين والبدو، الذين فقدوا استغلال الأرض، وإنما أيضاً بين الجماعة السكانية العربية عامة. وكان كلما اتضحت معالم المشروع الصهيوني، كلما شملت المقاومة له قطاعات أوسع من الفلسطينيين. وفي ظل الانتداب، بأهدافه المعلَنَة من تهيئة فلسطين لتكون «وطناً قومياً يهودياً»، أصبحت المقاومة وطنية، بل قومية عربية. وفي الواقع، لم تقم مستوطنة يهودية واحدة في فلسطين قبل الانتداب البريطاني دون اشتباك مع السكان المحليين، أما بعد الانتداب، فقد أصبح الصراع معه، كونه تولى الأمن وبسط حمايته على الاستيطان اليهودي.

ولذلك اتخذت المقاومة أشكالاً أخرى، من المقاضاة على أساس بنود صك الانتداب وتشريعات إدارته، إلى المقاومة السلبية، فالهبات الجماهيرية، وصولاً إلى الثورة المسلحة. وقاوم الفلاحون والبدو اقتلاعهم من الأرض التي يعيشون عليها، لدى انتقالها إلى المؤسسات اليهودية. هكذا حصل في مرج ابن عامر (الفولة)، وكذلك في السهل الساحلي، وفي وادي الحوارث، وسهل عكا والغور والحولة، وغيرها.

وفي عرض سريع لمسار الاستملاك اليهودي للأرض في فلسطين يتضح ما يلي: في العقود الثلاثة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، كانت السمة البارزة لعمليات شراء الأراضي هي المبادرة الفردية. ويقدّر ما استملكه هؤلاء بحوالي 400.000 دونم. وفيما توقفت عملية بيع الأرض أثناء الحرب العالمية الأولى، فإنها انطلقت ثانية في ظل حكومة الانتداب، فقفز مجموع ما امتلكه اليهود إلى 557.000، وذلك على الرغم من أحداث تلك الفترة (ثورة يافا وصدور الكتاب الأبيض الأول، 1921)، والتي وقعت جراء الهجرة الصهيونية الثالثة (1919-1923). وفي فترة الهدوء النسبي (1923-1927) وتدفق الهجرة الرابعة (1924-1931) قفزت مساحة الملكية اليهودية إلى 864.000 دونم، كان نصيب "الكيرن كييمت" منها 125.000 دونم. ثم تراجعت الوتيرة في الفترة (1928-1931)، وأساساً بسبب المقاومة العربية (ثورة البراق وصدور الكتاب الأبيض الثاني 1929)، وذلك على الرغم من توسيع الوكالة اليهودية، وبالتالي، ازدياد الأموال المتوفرة للمنظمة الصهيونية. وعندما تراجعت الحكومة البريطانية عن هذا الكتاب الأبيض، ارتفعت معدلات شراء الأراضي مرة أخرى، وبلغ مجموع ما امتلكه اليهود في عام 1935 ما مساحته 1.232.000 دونم. ثم عاد المعدل للهبوط في فترة «الثورة العربية الكبرى» (1936-1939)، وبالتالي صدور الكتاب الأبيض الثالث (1939)، عندما أصبح مجموع ما يملكه اليهود 1.358.000 دونم. وكذلك الحال في سنوات الحرب العالمية الثانية، وبلغ مجموع ما امتلكه اليهود في نهاية الحرب (1945) ما مساحته 1.506.000 دونم. وبعد الحرب ارتفع المعدل مرة أخرى في غياب المقاومة العربية، ووصلت ملكية اليهود عشية الإعلان عن قيام إسرائيل (1948) ما مساحته 1.734.000 دونم، منها 933.000 بملكية "الكيرن كييمت".

ومن هنا، فإن عملية «تهويد» الأرض الكبرى في فلسطين تمت من خلال حرب العام 1948، وهي الكبرى في تاريخ العمل الصهيوني. فكما رمت تلك الحرب إلى اقتلاع العدد الأكبر قدر الإمكان من أهالي البلد الأصليين، وبالتالي، تهويد السكان في الجزء المحتل من فلسطين، هكذا، بطبيعة الحال، كانت تهدف إلى الاستيلاء على القسم الأكبر من الأرض لتهويدها. وفي المحصلة، كانت بمثابة عملية نهب واسعة النطاق للأراضي العربية، التي تمت السيطرة عليها بقوة السلاح، وبالعنف الفاشي العنصري، كما أراد بن-غوريون، وخطط ونفذ، وليس كما توهم يوسيف نحماني وأقرانه من عملاء المؤسسات الاستيطانية الصهيونية. فهذه المؤسسات لم تقم بالدور الذي توقعه منها قادة العمل الصهيوني، ولا غرو أن بن-غوريون لم يعطها التقويم المناسب الذي تطلع إليه نحماني وأقرانه، كما يتضح من مذكراته.



بصرف النظر عن المنافحة الصهيونية في خطابها السياسي حول حرب عام 1948، أسبابها ومجرياتها ونتائجها، فإنها كانت أساساً تهدف إلى طرد العرب الفلسطينيين والاستيلاء على أملاكهم.

ومهما يكن، فإن كل ما كان يملكه اليهود لدى الإعلان عن قيام دولتهم يساوي 6.6% من مساحة فلسطين اليابسة، والتي تبلغ 26.305.000 دونم. وجاء قرار التقسيم ليخصص للدولة اليهودية حوالي 16.000.000 دونم، أي أكثر من 60% من مساحة فلسطين، ويمنحهم بذلك 9 أضعاف ما يملكونه. فكان طبيعياً أن يرفضه الفلسطينيون ويقاوموه. لكنهم هزموا في الحرب، فاحتلت إسرائيل حوالي 20.250.000 دونم، أي أكثر من 80% من مساحة البلد، فيما طردت حوالي 80% من سكان المنطقة المحتلة العرب.

وعدا المدن الكبيرة، المختلطة السكان أو العربية الصرفة، فقد تمّ تهجير سكان 356 قرية تقريباً، وتدميرها والاستيلاء على أراضيها، وبالتالي، تهويدها، وذلك من أصل 452 قرية (عدا الضيع الصغيرة التي لا تظهر على الخارطة الرسمية). إلا أن الجليل (الأعلى والأسفل)، وخاصة القطاع الغربي منهما، فإنه لم يفرغ من سكانه بنفس النسبة كما في المناطق الأخرى. ومن هنا، دأبت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على رفع شعار «تهويده» بعد احتلاله. وتميز نحماني بالدعوة إلى ذلك، ولم يتوقف عن العمل لهذه الغاية حتى وفاته.

وقد مرّت عملية «تهويد الجليل» بثلاث مراحل، هي:

المرحلة الأولى:
ـــــــــــــــــــــــــــــ

وامتدت من 1948-1974، وشملت فترة الاحتلال وموجة بناء المستوطنات الأولى بعد الحرب (1948)، واستيعاب المهاجرين الجدد في المدن والقرى العربية، وتمت في ظل الحكم العسكري (ولعب نحماني، كما يرد في مذكراته، دوراً بارزاً على هذا الصعيد). فمع انتهاء هذه الحرب، كان حوالي نصف سكان الجليل قد هجروه، وبقيت الناصرة المدينة العربية الوحيدة فيه. في المقابل، كانت مدن بيسان وطبرية وصفد قد أفرغت من سكانها العرب، وحلّ محلهم فيها مهاجرون يهود جدد.

واحتل المهاجرون اليهود على الفور عدداً كبيراً من القرى والضيع العربية التي هُجرت. وفي الأعوام الأولى جرى الاستيطان الفوري لأسباب سياسية واقتصادية، إذ كانت هناك حاجة إلى استيعاب السيل المتدفق من المهاجرين اليهود في الدولة بأسرع وقت ممكن. وفي نفس الوقت، كان هناك شعور بالحاجة إلى خلق أمر واقع (كما يؤكد نحماني) من خلال إسكان اليهود في مباني وأراضي القرى العربية المهجورة، للحيلولة دون عودة أحد من أهلها السابقين، الذين طُردوا من هذه الدولة الجديدة، أو الذين تحوّلوا إلى نازحين بدون مأوى داخلها. وبالفعل، مارس نازحو الجليل الضغط على السلطات الإسرائيلية لإعادتهم إلى قراهم، لكن تلك السلطات رفضت الإذن لهم بذلك، كي لا يشكل الأمر سابقة، (كما يؤكد نحماني).

وخلال هذه الفترة، أُعلنت 17 قرية عربية مناطق مغلقة، وأُبعد سكانها أو ضُمّوا إلى قرى عربية أخرى. ذلك أن إقامة المستوطنات اليهودية الريفية الجديدة على الحدود الشمالية «لتأمين» المناطق الحدودية، اقترنت باستراتيجية تقضي بإزالة قرى كاملة من هذه المناطق. وبالإضافة إلى إقامة 117 مستوطنة جديدة في الجليل، فإن هذه الفترة شهدت محاولة اختراق لقلب الجليل، وذلك بإنشاء ثلاث «مدن تطوير» للتوصل إلى توازن ديمغرافي، وهي: معلوت (1957)، نتسرات عيليت (1957)، وكرميئيل (1964). وكان للمواقع التي اختيرت لهذه المدن اليهودية الجديدة الثلاث، المحاطة بالقرى العربية المتعددة، دور استراتيجي وأمني، يهدف إلى قطع الاتصال الجغرافي للقرى العربية، وإقامة حاجز يحول دون توسعها.

وقد أُنشئت معلوت على أراضي ترشيحا ومعليا وسحماتا والبقيعة. أما نتسرات عيليت (الناصرة العليا)، فأقيمت على أراضٍ تابعة لمدينة الناصرة ولقريتي عين ماهل والرينة. وكذلك كرميئيل أُنشت على أراضٍ صودرت من قرى البعنة ودير الأسد ونحف والبروة وغيرها. في المقابل، جرى إخلاء سكان مناطق أصبحت مغلقة على العرب، وتجميعهم في قرى ومدن أخرى.

المرحلة الثانية (1974-1982):
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفيها طرحت استراتيجية التهويد للاستيطان الريفي في قلب الجليل. ففي حزيران/ يونيو 1974، اقترحت دائرة الاستيطان التابعة للوكالة اليهودية وجوب رفع عدد السكان اليهود في جبال الجليل من 62.000 (سنة 1973) إلى 100.000 بحلول سنة 1980. وتلا هذه الاقتراحات إنشاء 58 مستوطنة ريفية قبل منتصف سنة 1981. وكان 28 منها جزءاً من برنامج يهدف إلى التغلغل في منطقة القلب العربية، من خلال إقامة ثلاثة مجمّعات من المستوطنات هي: سيغف وتيفن وتسالمون. واقترنت سياسة التغلغل عن طريق الاستيطان على نطاق واسع، بفكرة إنشاء منطقة قلب يهودية بديلة داخل منطقة القلب العربية في المنطقة. وقد جرى تخطيط هذا التغلغل بحيث يؤدي إلى:
أ ــ عزل القرى المتجاورة عن بعضها البعض؛
ب ـــ تقييد التوسع المكاني للقرى العربية. وهذه السياسة الاستيطانية التي اتُّبعت لاحقاً في المناطق المحتلة عام 1967، كانت ترمي إلى إنشاء حزام من الأرض يصل بين المستوطنات الإسرائيلية، ويقيم في الوقت ذاته حاجزاً مادياً بين التجمعات العربية الكبرى في المنطقة.

وقد أُقيمت المجمعات الاستيطانية الثلاثة، وكذلك «المناطر» كلها على أراضٍ عربية مصادرة، لم يكن اليهود قبل عام 1948 يملكون منها شيئاً قط. ويشتمل مجمع تيفن على ست مستوطنات، تمتد على مساحة 36.000 دونم، وتقع جنوبي مدينة معلوت، وتشكل إسفيناً يفصل بين ثلاثة تجمعات عربية كبيرة هي: مجموعة قرى ترشيحا وكفر ياسيف من الشمال والغرب، ومجموعة قرى الشاغور إلى الجنوب والشرق. وكذلك خُطط مجمع سيغف ليضم 12-14 مستوطنة يهودية جديدة، تهيمن على 30.000 دونم، ويحقق غايات شبيهة بمجمع تيفن، ويفصل القرى العربية الواقعة في مجمع شفاعمرو إلى الغرب، وتجمع سخنين والشاغور إلى الشرق والشمال. أما مجمع تسالمون فيمتد فوق منطقة شاسعة تبلغ مساحتها 38.000 دونم، وتضم 13 مستوطنة جديدة. وقد جرى تصميم هذا المجمع ليشكل حلقة اتصال بين المستوطنات في المجمّعين الآخرين، من جهة، وبين المستوطنات الأقدم الموجودة شمالي بحيرة طبرية. وإذ حققت هذه السياسة غايتها في تفتيت الكتلة السكانية العربية في الجليل، فإنها أخفقت في تغيير الواقع الديموغرافي هناك بشكل جذري.

المرحلة الثالثة (1982 فما بعد):
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفيها اتخذت سياسة التهويد منحىً جديداً، وهو تدخلها المباشر في الحياة الاقتصادية لقرى المنطقة وتوسعها المكاني. ويعود ذلك أساساً إلى أن «التطور الانتقائي» لم يحقق أهدافه المتوخّاة في التهويد. وقد جرى التعبير عن هذا التحول في سياسة التهويد في إنشاء مجالس إقليمية، هدفها الظاهري تقديم الخدمات، فيما هي في الحقيقة محاولة لمنع القرويين العرب المحليين من الانتفاع بأراضيهم حتى لو كان معترفاً لهم بملكيتها.

ففي الواقع، أخرج هذا الإجراء عشرات آلاف الدونمات التي يملكها العرب من أيدي المجالس القروية العربية، وألحقها رسمياً بالمجلس الإقليمي اليهودي الجديد. وترتّب على هذه السياسة إضعاف البنية التحتية الاقتصادية للقرويين العرب في ديارهم وأرضهم، الأمر الذي دفعهم إلى البحث عن العمل المأجور في المدن اليهودية خارج الجليل.

في المقابل، تعزّزت قاعدة الاستيطان اليهودي الاقتصادية، مما يحفز المستوطنين على البقاء في المنطقة، وعدم الانتقال إلى المدن، مما يساعد على هدف «تهويد الجليل».

التعليقات