سنان انطون والكوابيس.. ولا كوبسة تفوق الحياة نفسها أحيانا

في مجموعة سنان انطون الشعرية "ليل واحد في كل مكان" يعيش القارىء عالما من الكوابيس مرسوما بدقة وبتنبؤ مرعب وبجمال.. فرسم الموت والرعب قد يأتي بجمال ايضا وقد عرف الادب منذ زمن تعبيرا مماثلا هو "الجمال في القبح".

سنان انطون والكوابيس.. ولا كوبسة تفوق الحياة نفسها أحيانا

في مجموعة سنان انطوان الشعرية "ليل واحد في كل مكان" يعيش القارىء عالما من الكوابيس مرسوما بدقة وبتنبؤ مرعب وبجمال.. فرسم الموت والرعب قد يأتي بجمال ايضا وقد عرف الادب منذ زمن تعبيرا مماثلا هو "الجمال في القبح".

وحين يتفلت الشاعر من قبضة الموت والدمار العراقي وينتقل الى بعض ما في العالم -وهذا ليس كثير الحدوث في المجموعة- يأتي بالجميل المدهش شبه الغرائبي ويصور تصويرا "احيائيا" ممتعا شديد الايحاء.. وهو معبأ دائما بالرموز. لكنه لا يبتعد طويلا فالموت يلاحقه بل يحتل نفسه.

الشاعر والروائي والاكاديمي العراقي سنان انطوان المسكون بالام بلده يبدو عند الحديث عن فواجع هذا البلد كأحد انبياء الويل والهلاك وبنفس من بعض عالم ابي العلاء المعري. ويبدو سنان انطون كأنه يقول عبر عالمه الكابوسي انه ليس هناك اشد "كوبسة" من الحياة نفسها اذا نظرنا اليها من خلال واقع رهيب كما في العراق.

جاءت المجموعة في 111 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن "منشورات الجمل - بغداد بيروت". قسم الشاعر قصائد المجموعة الى اقسام ثلاثة هي "ليل واحد" و"معبر" و"تجاعيد على جبين الريح".

القصيدة الاولى حملت عنوان "رأس".انها قصيدة جميلة في غرائبيتها وسرياليتها. الا ان القارىء قد يشعر بأنه كان على الشاعر ان يتوقف اي ان ينهيها في مكان ما فلا يستمر ليصل الى القسم الاخير. ويبدو ان القسم الاخير ربما صح فيه ما كان يقال عن حلم جميل او رمزي لا تلبث حادثة غير ملائمة ان تدخل اليه. وكان التعبير المألوف هنا هو القول ان ذلك "افسد الحلم".

فلنقرأ القصيدة "بقسميها" النظريين. قال الشاعر "لم اكن شجرة/ او خروفا/ لكنهم تمتموا شيئا ما/ ثم قطعوا رأسي/ بسكين عمياء/ فتدحرج بعيدا/ ورأيتني راكعا هناك/ ويداي خلف ظهري/ سكتت نافورة الدم بعد ثوان/ ابتعدوا/ دون ان ينظروا وراءهم."

والواقع ان القصيدة لم تنته هنا وليتها انتهت بهذه الصورة الغريبة التي تترك ابواب الايحاءات عند القارىء مشرعة كلها وتقول كل كلام " محدود" بذلك الشكل غير المحدود.. ولعل في هذا كثيرا من روعتها.

الا ان الشاعر انهاها كما يلي.. "وبعد ساعات جاءت الكلاب الجائعة/ تشمشم/ فقلت لها.. خذي حصتك/ ولا تبق شيئا من جسدي/ لكنني توسلت اليها/ ان يظل رأسي/ هنا/ في قعر القصيدة."

والقارىء هنا يسجل انطباعاته وتذوقه وليس له ان يقول للشاعر ما عليه ان يشعر به او يقوله لكن ربما بدا لهذا القارىء انه مهما كانت الذرائع لدى الشاعر ومهما كانت الاهداف التي ارادها من هذه الخاتمة فقد صب ماء باردا على حار عالم من الاحياءات غير المحدودة.

وفي قصيدتين اخريين كتبتا في برلين ايضا كالاولى يخرج سنان انطون ما في نفسه بتصويرية جميلة تراوح في حزنها بين الواقعي والرمزي وتدمج الواحد منهما بالاخر احيانا. اسم القصيدة "أرخ قرنيك" يقول الشاعر "الريح الليلة ثور هائج/ مثخن بالطعنات/ يركض في كل الشوارع/ تبكيه السماء بحرقة/ كل الابواب موصدة/ أمامه/ والناس نيام."

ويضيف كأنه مصارع ثيران محب لا يصارعها ولا يلوح لها باللون الاحمر بل بمحبة مهدئة وشراكة في التعاسة والحزن "الا انا/ اقف بانتظاره/ ألوح له بقلبي/ وأهتف../ أرخ قرنيك/ ها هنا/ كي ننزف معا."

في قصيدة برلينية ثالثة يحملنا الشاعر في مجازات وتشبيهات وعملية "احيائية" فنية اخاذة الى صورة رائعة دون شك.. صورة تعبر عن الحياة والموت من خلال تغير الفصول.. الحياة عبر اليناع والموت عبر اوراق خريفية متساقطة او شتاء متيبس.

عنوان القصيدة هو "ربيع" وفيها يقول سنان انطون "لا اعرف/ اسم الشجرة التي وقفت/ شتاء كاملا تحت شرفتي/ لكني اعرف/ بأنها الان اصبحت طاووسا/ يتبختر بألوانه/ ويرفرف كلما همست الريح بأذنيه/ رسائل من اخوته/ كم حاول ان يطير اليهم/ لكن الارض ترفض/ فيتساقط ريشه على الرصيف/ ويدوس عليه المارة/ بعد اشهر سيتعب/ سيطأطيء رأسه/ ثم يتلاشى/ اما الشجرة فستظل واقفة/ تحلم به/ في ليالي الشتاء."

من القصائد البرلينية ايضا واحدة كابوسية بعنوان "ليل واحد في كل المدن" وهو عنوان المجموعة. كأننا هنا لا نستطيع الهرب من اوطاننا بل نحملها كوابيس على اكتافنا. الليل في كل المدن. انه الموت والخراب مهما ابتعدت. ألم يقل الشاعر العربي القديم "فانك كالليل الذي هو مدركي".

يقول سنان انطون "اتكيء على جذع نخلة/ احترقت منذ سنين/ لكن ظلها يصر/ على ان يؤانسنا/ حتى في ليل الغربة/ تلوح السعفات مودعة/ من شبابيك اغنية قديمة/ عن النهر/ قبل ان تختنق امواجه/ بالجثث/ ونحن على ضفة ثالثة/ في كل مكان/ نراقب الاغنية تغرق/ هناك ما يكفي الليلة/ حتى لاشباح الغرقى/ الذين تحلقوا حول المائدة/ بحثا عن رؤوسهم المقطوعة/ غدا/ علينا ان نخرج جثثهم/ من الاغنية/ ونكفنها بالكلمات."

في قصيدتين كابوسيتين اخريين نجد انفسنا امام صرخة كصرخة ابي العلاء " لدوا للموت وابنوا للخراب/ فكلكم يسير الى تباب" وأمام ما يذكر بصرخته الاخرى "لا تبك ميتا ولا تطرب لمولود/ فالميت للدود والمولود للدود".

لعل الفرق هو في ان الامر عند ابي العلاء كان قدرا الهيا اما عند سنان انطون فهو قدر من صنع "ارباب" من نوع اخر في هذا العالم.

في "الى جنين عراقي" أي القصيدة الاولى التي كتبت في نيويورك حيث يقوم سنان بالتدريس في جامعتها يقول "اتعلم بأن كوة الرحم تطل على وطن مصادر../ اتعلم/ بأن غدك بلا غد../ ودمك حبر/ للخرائط الجديدة../

"لا تخجل ( فالمعزون قد شربوا قهوتك) ورحلوا/ وأمك تنسج لك مرثية/ من بطء دقائقها.../ لا تخف ان تكون وحيدا فأصدقاؤك كثر/ ويزدادون كل يوم/ ستلعب ارواحكم معا../

"لا تتأخر ( فقبرك ينظر الى ساعته) سنرتب عظامك برفق/ ونضع جمجمتك كزهرة/ فوقها/ هيا/ تقدم."

اما القصيدة الاخرى "حروب" التي كتبت في عاصمة الالام بغداد فيقول فيها "ذات حرب/ اخذت ريشة/ مبللة بالموت/ رسمت على جدار الحرب/ نافذة/ وفتحتها/ بحثا عن غد/ أو حمامة/ أو لا شيء/ لكنني أبصرت حربا اخرى/ وأما تنسج كفنا/ لقتيل/ ما زال في رحمها."

التعليقات