** الخليج الثقافي: "في المسألة العربية" إسهام نظري تحليلي يتسم بالعمق..

** الخليج الثقافي:
يعالج الدكتور عزمي بشارة في كتابه “الاستثنائية العربية” بشأن الديمقراطية تحت عنوان ما أسماه ب”المسألة العربية”. وهو يشير إلى استخدامه هذه التسمية للدلالة على عدم حلّ المسألة القومية العربية بتشعباتها المختلفة، وإشكالية الدولة والسياسة والثقافة في ظلّ بقائها قضية مفتوحة حتى كقضية حق تقرير مصير.

لذا ينطلق الكتاب من محاولة فهم معوقات التحوّل الديمقراطي ومن محاولة الإجابة عما إذا كان هنالك من استثنائية عربية. فيعالج في الفصل الأول هذا الموضوع مميّزاً بين شروط نشوء الديمقراطية تاريخياً ومكوناتها الجاهزة والمتطورة إبان عملية إعادة إنتاج ذاتها. ثم مبيّناً الخطأ في الفكرة القائلة إن الديمقراطية يمكن أن تصدر محمولة على دبابة، وليس فقط في ممارستها. أو أن حلفاء أمريكا من العرب غير الديمقراطيين المنصاعين لسياستها الخارجية قادرون على بناء الديمقراطية لمجرد أنهم استقووا بأمريكا ضدّ خصوم غير ديمقراطيين مثلهم.

كما أشار إلى سذاجة الاعتقاد بأنه إذا كان بعض المحافظين الجدد يؤمنون بتصدير الديمقراطية فهذا يعني بالضرورة أن الواقعيين في السياسة الأمريكية صمموا سياستهم وخياراتهم نهائياً بموجب هذا الخيار كأنه مذهب. ولم يكن نشر الديمقراطية حسب بشارة مذهب المحافظين الجدد أساساً. وإنما لاءم هذا المذهب سياسة الولايات المتحدة ومصلحة تطبيقها في مرحلة التعبئة وضرورة استغلال أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر.

كما يميّز بشارة بين الروح السائدة في مرحلة التحول الديمقراطي وتطلعها الثوري إلى العدالة والحرية والإنصاف، وحالة الانحلال وقيمه التي تبث لتقبل التدخل الأجنبي الاستعماري في فرض الديمقراطية نظاماً. ويعتبر أن ذلك ليس فقط غير مفيد للديمقراطية والتحول الديمقراطي فحسب بل يلحق أشد الضرر بالديمقراطية وقضيتها.

أما في الفصل الثاني من الكتاب وهو بعنوان “بؤس نظريات التحول الديمقراطي”، فقد رأى بشارة أن الوطن العربي موزع بين معسكرين: معسكر مؤيد للتدخل الأمريكي في المنطقة العربية، مؤلف من ديمقراطيين وغير ديمقراطيين. ومؤيدو التدخل هؤلاء يستخدمون خطاباً غربياً في مسألة الديمقراطية ويتساءلون عن أسباب تأخر الديمقراطية أو غيابها بلغة تبدو عقلانية وبراغماتية، ولكنها لا تتمسك بمواقف مبدئية في ما يتعلق بالعدالة والإنصاف، لا في الديمقراطية، ولا في غيرها، من القضية الفلسطينية وحتى القضايا الاجتماعية في البلد المعني.

وثانياً قوى المعارضة للتدخل الأجنبي مؤلفة أيضاً من قوى ديمقراطية وغير ديمقراطية. وتبدو هذه القوى كأنها تحتكر المواقف الأخلاقية والمبدئية في السياسة وغالباً ما تطرح خطاباً سياسياً اجتماعياً يكاد يكون غيبياً.

أما القوى الديمقراطية في المعسكرين فآخذة في الانحسار لنبقى في حالة ثنائية مطلقة بين أصوليين وقوميين من جهة، ونيوليبراليين من جهة أخرى. ناهيك بأن نظريات الانتقال إلى الديمقراطية غالباً ما تفسر عوائق الانتقال إلى الديمقراطية أو أسباب الردّة عنها أكثر مما تفسر سبب أو كيفية الانتقال إلى الديمقراطية.

ويتطرق عزمي بشارة في الفصل الثالث من كتابه إلى موضوع مطروق وهو علاقة الاقتصاد الريعي بالتطور الديمقراطي، لكن من زاوية المسألة العربية. وذلك في محاولة الكشف كيف أن هذه المسألة تجعله يتجاوز دوره داخل دول صغيرة إلى تأثير ثقافي سياسي أوسع. كما يتطرق إلى بروز اقتصاد ريعي ذي طابع أمني سياسي متعلق بالمسألة العربية.

وتحت عنوان “الثقافة كعائق” يتوقف المؤلف في الفصل الرابع من كتابه عند مفهوم الثقافة السياسية بوصفها تلك القيم التي تعزز أو تضعف (تدعم أو تقوض) منظومة معينة من المؤسسات السياسية، أو توزيع معين لأنماط التوجهات السياسية والسلوك تجاه النظام السياسي ومركباته المتعددة، والسلوك تجاه دور الذات الإنسانية، (الفرد، المواطن) في هذا النظام. ولكنه يعتبر أنه لا يوجد عالم اجتماع جدّي ينكر أهمية الثقافة السياسية في الديمقراطية، فكم بالحري مميزات الثقافة التي تؤدي سببياً إلى غياب الديمقراطية.

وفي ذلك رفض بشارة وجود ثقافة جوهرية ثابتة تعيق الديمقراطية، شأنه في ذلك شأن رفضه في الفصل الخامس من الكتاب المعنون بـ”إشكالية القبيلة والدولة” التفسير الاستشراقي للفجوة بين الغرب والشرق الذي حدّد خطاً فاصلاً بين ثقافة الغرب والعالم الإسلامي بجعل الانتماء للمكان مميزاً للأولى، والانتماء للنسب والسلالة مميزاً للثانية. وكأن هذا المبدأ الثقافي يتحدّى في ثباته تقلب الظروف المادية. فيستعيد عدد من المفكرين العرب هذا الخطاب الاستشراقي في بحثهم عن أصل واحد وسبب واحد لتخلف العرب في استعادة لسؤال النهضة بعد الأزمات والنكبات.

ثم يعالج بشارة في الفصل السادس من كتابه العلاقة الإشكالية بين الفكرة القومية والإسلام كدين وكحضارة. ويفند في هذا الفصل عملية ترويج فكرة خاطئة أن القومية العربية نخبوية في مقابل شعبية الإسلام. ويبيّن تهافت اعتبار الأمة هي الطائفة الدينية بواسطة تحويل الدين من عقيدة ومذهب إلى انتماء طائفي، أو قومية من نوع آخر.

وتحت عنوان “المواطنة بين التجانس والتعدّد” يقارن الدكتور عزمي بشارة في الفصل السابع من الكتاب بين نموذجي المواطنة في التاريخ، ويخلص إلى نتيجة مفادها أن المواطنة الحديثة هي مواطنة الفرد، الإنسان المتفرد في المجتمع، الحامل للحقوق في علاقة مع الدولة. وهذا خلافاً للمسار التاريخي العربي حيث يجري إنكار الجماعة القومية حتى داخل الدولة القطرية، ويرتبط الفرد بجماعة ما قبل قومية تعيق الانسجام داخل المجتمع، ويستعاض عن الديمقراطية بالتوازن بين الجماعات العضوية والطوائف والقبائل، ويستعاض عن المواطنة بالعضوية في جماعة تتوسط بين الفرد والدولة. وينتقل بشارة في الفصول الباقية إلى معالجة عينية للإستثنائية العربية.

الكتاب برمته يستعرض معيقات التحول الديمقراطي كمساهمة منه في الجمع بين الفكرة القومية والديمقراطية وفي تبيين أنه لا غنى عن تنظيم القوى الديمقراطية سياسياً لطرح مشروع التحول الديمقراطي. لقد أراد عزمي بشارة لعبارة “كما تكونون يولى عليكم” أن تكون دافعاً للتغيير وليس لتبرير وجود من يولى علينا. وربما نصنع حالنا -على حدّ تعبير بشارة وما نكون عليه ليس من خلال تحديد من يولى علينا، بل كيف يولى علينا من يولى؟ وكيف يساءل ويُحاسب وتحدد صلاحياته. إذ إن مسألة الديمقراطية عربياً هي مسألة من يكون المواطنون، وكيف وبأي طريقة يولى من يولى عليهم؟

جدير بالذكر أن الكتاب صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت 2007.

التعليقات