"هكذا تكلم جبران"..حكمة الأدب وسؤال الحرية

«لم يعرف العصر الحديث كتاباً لمؤلف عربي، لقي من الذيوع والانتشار ما لاقاه كتاب (النبي) لجبران، ففي أغسطس 1957 بيعت النسخة المليون منه في الولايات المتحدة الأميركية وحدها، ومنذ ذلك الحين يقرأ الأميركيون نصف مليون نسخة منه كل ثلاث سنوات، وقد تُرجم إلى أكثر من أربعين لغة، وتتوالى صدور طبعاته الجديدة في أنحاء العالم حتى اليوم»، والمعلومات مستقاة من كتاب «هكذا تكلم جبران» للشاعر الناقد السوري نزار بريك هنيدي، وهو يضم بين دفتيه سبعة عشر فصلا.


تبدأ بتسليط الضوء على حياة جبران الاستثنائية والتعريف بقائمة إبداعاته، ثم تنتقل إلى العوامل التي كونت أدبه والخصائص التي يتمتع بها، بعدها تتناول كتبه بالدراسة التفصيلية كل على حدة مع تسجيل العديد من الملاحظات الجديدة والمهمة حول أدب جبران. في فصل السيرة ذكر المؤلف أن جبران قد وُلد عام1883 في مدينة بشرّي شمال لبنان، وعانى الفقر والقهر منذ طفولته، فأبوه أُوقف بتهمة الاختلاس واحتُجزت أملاكه، مما اضطر والدته (كاملة) للهجرة بأولادها الأربعة إلى (بوسطن) في الولايات المتحدة الأميركية.


وهناك بدأت العمل هي وابنها البكر (بطرس)، أما جبران فقد ألُحق بمدرسة شعبية، ولفتت موهبته في الرسم انتباه إحدى معلماته فكتبت إلى صديقها المثقف الثري (فريد هولاند داي) كي يعتني به، وقد أُعجب الرجل بهذا الفتى الشرقي فتعهده بالتعليم، وعرّفه بعدد من الفنانين والأدباء، كما كلّفه برسم بعض أغلفة الكتب التي تصدرها دار (كويلا اند داي) ليسد بعض نفقاته، إلا أن جبران ظل يطمح للدراسة في لبنان، فوفرت له أمه ما يكفل له العودة أوائل خريف عام1899، هناك انتسب إلى مدرسة (الحكمة) ليدرس اللغة العربية وآدابها.


ونشأت علاقة عاطفية بينه وبين حلا الضاهر، أعاد استيحاءها بعد عشر سنوات في قصة (الأجنحة المتكسرة)، لكنه ما لبث أن اضطر للعودة إلى بوسطن في نيسان1902 إثر بلوغه خبر وفاة أخته (سلطانة)، فوجد أخاه (بطرس) مصاباً بالسل ثم أصيبت أمه، وسرعان ما قضى المرض عليهما، ورغم أن الحب الذي جمعه بالشاعرة الأميركية (جوزفين بيبودي)، كان عزاءه في تلك المرحلة، إلا أنها أيضاً تركته وتزوجت، ولم يبق من ذلك سوى ما لاح في صفحات كتابه (دمعة وابتسامة).


وبعد هذه الصدمات المتوالية تفرّغ جبران لرسومه وكتاباته، فأقام معرضاً للوحاته ترك انطباعاَ جيداً، وعبره تعرّف على الصحفي (أمين الغريب) الذي كان يصدر جريدة (المهاجر) فأخذ ينشر فيها مقالاً أسبوعياً، كما تعرّف على (ماري هاسكل) التي كان لها الفضل في إرساله على نفقتها الخاصة عام 1908 إلى فرنسا، حيث دخل أكاديمية (جوليان) وتعلم أصول الرسم، كذلك كان لماري الفضل في إرسال جبران إلى نيويورك حيث تعرف على الأدباء العرب وعرض لوحاته، وأصدر روايته (الأجنحة المتكسرة) وبدأت علاقته النادرة بالأديبة (مي زيادة) عبر الرسائل التي لم تنقطع بينهما حتى وفاته.


أصدر جبران كتابه الأول (الموسيقى) عام 1905، وأتبعه في العام التالي بكتابه (عرائس المروج) الذي نشره له (امين الغريب) في نيويورك، وبدأت كتاباته تلقى المزيد من الإعجاب، وراحت علاقته تتوطد بماري هاسكل التي عرّفته على صديقتها الفرنسية (إملي ميتشل) فاتخذها جبران موديلاً لرسوماته ووقع في هواها، وربما كانت هي التي أهدى إليها كتابه الثالث (الأرواح المتمردة) عام1908، ومنذ سنة 1912 بدا جبران أكثر التحاماً بقضايا وطنه الذي يعاني وطأة الاحتلال العثماني، فكتب المقالات التي تدعو العرب إلى الاتحاد والمقاومة.


وحين عمّت المجاعة لبنان سنة1916 كتب نصّه (مات أهلي) كما اشترك في حملة لجمع التبرعات، وفي عام1918 أصدر جبران أول كتبه باللغة الإنجليزية (المجنون)، وفي عام1919 أصدر قصيدة (المواكب) وهي القصيدة الوحيدة التي اعتمد فيها الوزن والقافية، أما العام 1920 فقد كان حافلا بالنشاط ففيه أصدر كتابه (السابق) وأسس مع ميخائيل نعيمة وإيليا أبي ماضي وأمين الريحاني وآخرين (الرابطة القلمية) وانتُخب رئيساً لها، ثم أصدر كتابه (العواصف).


وفي العام1923 نشرت له مكتبة العرب في مصر كتاب (البدائع والطرائف)، وصدر كتابه (النبي) الذي سرعان ما أصبح أكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة، وفي سنة 1925 التقى الشاعرة الأميركية (باربرة يونغ) التي أصبحت سكرتيرته الخاصة، وكان قد اتجه نهائياً إلى الكتابة بالانجليزية، فأصدر كتاب (رمل وزبد) عام1926، وكتاب (يسوع بن الإنسان) عام1927، و(آلهة الأرض)عام1930، و(التائه) سنة1931 وكتب فصولاً من كتابه (حديقة النبي) الذي قامت سكرتيرته بإتمامه ونشره بعد وفاته في ربيع1931 ونقل جثمانه إلى بلدته (بشري) تلبية لوصيته.


بعد الإطلالة على حياة جبران بحث المؤلف في عوامل التكوين التي جعلت من أعماله منعطفاً جديداً في تاريخ الثقافة العربية وعلامة فارقة في الأدب العالمي كله، موضحا أن من هذه العوامل ما كان مركوزاً في عمق شخصيته التي تجنح نحو مثالية طهرانية لا تعترف بالإنسان إلا متعبداً في محراب القيم العليا، ومنها ما كان نتيجة للواقع الذي عاشه، ومنها ما ورثه من الثقافة العربية والغربية، فقد قرأ جبران الشعر العربي والفلسفة العربية، فأعجب بابن الفارض وقال: (في شعره ما لم يحلم به الأولون ولم يبلغه المتأخرون).


كما فتنته قصيدة ابن سينا في النفس وبعد أن قارنها بأبيات لشكسبير وشيللي وغوته وبراونن قرر أن (الشيخ قد تقدم جميع هؤلاء بقرون عديدة)، كما أبدى إعجابه بالغزالي الذي اعتبره (أقرب إلى جواهر الأمور وأسرارها من القديس أوغوسطينوس)، وكان من أهم ما ورثه جبران عن الثقافة العربية والشرقية، هو تمثله لشخصية المخلص أو (النبي)، غير أن النبوة الجبرانيّة (على حد تعبير أدونيس في كتابه الثابت والمتحول) «هي نبوة إنسانية، والفرق بين النبوة الإلهية وبينها، هو أن النبي في الأولى ينفذ ارادة الله، ويعلّم الناس ما أُوحي له.


أما جبران فيحاول ان يفرض رؤياه الخاصة على الأحداث والأشياء، أي وحيه الخاص»، أما بخصوص الثقافة الغربية فقد تأثر جبران بنيتشه وكتابه (هكذا تكلم زرادشت) الذي اعتبره (من أعظم ما عرفته كل العصور)، وأُعجب بشكسبير وشللي لأنهما تحررا من (ربقة الماضي) كذلك أُعجب بـ (وليم بليك) وقال فيه: (لن يتسنى لأي امرئ أن يتفهّم بليك عن طريق العقل، فعالمه لا يمكن أن تراه إلا عين العين).


اعتبر هنيدي أن الرومانسية والواقعية والصوفية والثورية والحداثية مزيج من عناصر استطاع جبران أن يجمع بينها في توليفة سحرية لا تتأتى إلا لمبدع كبير، وأوضح أن رومانسية جبران تتجلى في تمجيده للإنسان الذي لا يراه محور الكون ولبَّ الوجود وحسب، بل يرفعه إلى مصاف الألوهية، ثم الاحتفاء بالطبيعة وتغنّيه الدائم بالحزن والألم والوحدة، وتحويل الكثير من صفحات كتبه إلى مسارح تصول فيها الأرواح والأشباح والجنيات والساحرات، وواقعية جبران وجدها الباحث في قراءته المتعمّقة لأحوال الواقع وما يعجّ به من مآس ومظالم وآلام.


أما الصوفية فقد رآها الباحث في إيمان جبران بوحدة الوجود، فما الإنسان إلا بضعة من الذات الإلهية، كذلك في اعتناقه للنهج العرفاني الذي يعتمد الحدس والرؤيا والبصيرة للوصول إلى المعرفة، ورأى الباحث أن (الثوريّة) هي السمة الأكثر نصاعة من سمات الأدب الجبراني، فجبران ثائر متمرد لا يرى للحياة معنى إن لم تكن نضالاً دؤوباً في سبيل الحرية، لأنها وحدها التي تحقّق إنسانية الإنسان، ولذلك فقد حرّض على كل ما يستلب الحرية أو ينتقص منها.


وعلى كل من يمارس الاضطهاد والاستغلال ويبث الآثام والشرور ويعيق ممارسة الإنسان لحقه الطبيعي في التمتع بالخير والعدل والجمال، ولهذا أعلن جبران ثورته على الحكّام والأمراء ورجال الدين والإقطاعيين والأغنياء الذين يتحالفون فيما بينهم ضد جماهير الفقراء والمستضعفين، ورأى في تحالفهم (علّة مزمنة قابضة بأظفارها على عنق الجامعة البشرية)، وأما بخصوص حداثة جبران فقد أكد الباحث أنه كان إيذاناً بالثورة التي نقلت الكتابة العربية من حال إلى حال، أو على حد تعبير أدونيس (مؤسساً لرؤيا الحداثة، ورائداً أوّل في التعبير عنها).


من الملاحظات المهمة التي سجلها الناقد حول أدب جبران كان ما تعلق برواية (الأجنحة المتكسّرة) حيث خالف تأكيد (ميخائيل نعيمة) على أن جبران كان يروي قصة حبه الأول يوم كان طالباً في بيروت، وأوضح أن هذه الرواية في بنائها العام وحركة شخصيّاتها وسيرورة أحداثها تمثّل خير تمثيل الرواية الرومانسية، ولاحظ ما يكاد يكون تطابقاً في الخطوط العامة بينها وبين رواية (هيلويز الجديدة) لروسو التي يعتبرها النقاد الأصل الذي تمثّله الكثير من الروائيين الرومانسيين الأوائل في ما كتبوه من روايات وقصص تتخذ من الحب المعذّب موضوعاً لها.


كذلك قدم الناقد قراءته الخاصة لقصيدة (المواكب) التي قامت على رفض فكرة الصوتين المتمايزين فيها (صوت الشيخ وصوت الشاب)، وهي الفكرة التي سيطرت على أذهان النقّاد والقراء بعد أن قال بها الشاعر (نسيب عريضة)، ذلك أن القراءة المعمّقة للأبيات المكتوبة على وزن الرمل والأبيات المكتوبة على مجزوء الوافر، تبيّن بجلاء أنها تصدر عن متكلّم واحد، هو الشاعر نفسه، في حالتين متباينتين لكنهما تتكاملان ولا تتناقضان، وفي دراسته لكتاب (السابق) رأى المؤلف أنه يدور حول فكرة التقمص، وهي الفكرة التي تطرق لها جبران في كل أعماله.


فمن المعروف أن جبران كان مؤمنا بها لا في كتاباته فقط بل في حياته الشخصيّة أيضاً، وقد أكد في إحدى رسائله إلى ماري هاسكل: (ان لديه شعوراً واعياً بكونه عاش حياة بشرية في الماضي) وقد أرجع المؤلف هذا الإيمان إلى قراءات جبران ونشأته، فمن المعروف أن فكرة (التقمّص) تشكّل ركناً رئيساً من أركان المعتقد الديني عند طائفة الموحدّين الدروز الذين يستوطن قسم منهم جبل لبنان، وهؤلاء لعبوا دوراً رئيساً في تاريخ لبنان السياسي لاسيّما أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.


أي فترة حياة جبران، وتقوم عقيدة (التقمّص) عندهم على أن الجسم الإنساني قميص للروح، التي هي النفس المتحدة بالعقل، ولما كان الجسم عَرَضاً قابلاً للاستحالة والفناء، فإن جوهر الحياة يبقى متمثلاً بالنفس المنتقلة من القميص الذي يدهمه الموت إلى قميص آخر، هو جسم المولود في لحظة ولادته، وهكذا تتقمّص الأنفس، إناثاً إناثاً وذكوراً ذكوراً، وتبقى هي هي لا تنقص ولا تزيد ولا تستبدل، وإنما الذي يتبدّل جيلاً بعد جيل هو صورة الأقمصة التي هي الأجسام.


تهامة الجندي

الكتاب: هكذا تكلم جبران


الناشر: مؤسسة علاء الدين ـ دمشق 2004


الصفحات: 249 صفحة من القطع الكبير

(تهامة الجندي، عن "البيان")

التعليقات