أزمة الديمقراطيّة في البلدان العربيّة

أزمة الديمقراطيّة في البلدان العربيّة
يستجمع هذا الكتاب أوراق العمل والتعقيبات والمداخلات التي قدمت في اللقاء السنوي لمشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية، الذي عقد في الأول من سبتمبر 2001 بكلية سانت كاترين، جامعة أكسفورد. ويتناول مسألة الاعتراضات والتحفظات على الديمقراطية في البلاد العربية، حيث يعترض كثيرون على الديمقراطية، وكلّ ينطلق من زاوية مختلفة. وتشكو البلدان العربية بشكل عام من غياب الديمقراطية، مع أنها بحاجة ماسة إليها للخروج من حالات القمع والتسلط، حيث تطالب بها غالبية الفئات والمجموعات الوطنية، إلا أن هذه المطالب لم تلق الأذن الصاغية من طرف الأنظمة السياسية الحاكمة، بل وتزاود هذه الأنظمة على دعاة الديمقراطية بادعاء أن نظمها ديمقراطية، لكن ديمقراطيتها ليست كالديمقراطية الغربية، إنما ديمقراطية وطنية!


ومحرر الكتاب هو الدكتور علي الكواري الذي يشرف إلى جانب رغيد الصلح على تنسيق نشاطات «مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية»، وسبق له أن حرّر عدة كتب، منها: «مداخل الانتقال إلى الديمقراطية في البلدان العربية، 2003»، و«الخليج والديمقراطية:


نحو رؤية مستقبلية لتعزيز المساعي الديمقراطية، 2002»، و«المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية، 2001»، و«حوار من أجل الديمقراطية، 1996»، وله عدة مؤلفات، منها «تنمية للضياع أم ضياع فرص التنمية، 1996»، و«نحو استراتيجية بديلة للتنمية الشاملة، 1986».


ويعزو الكواري سبب اختيار موضوع التحفظات على الديمقراطية إلى اعتبارين أساسيين، أولهما الرغبة في سماع حجج المتحفظين والمعترضين ومناقشتها من أجل فهمها وتفهم أسبابها،


وثانيهما اختبار فرضية وجود محبذين للديمقراطية ومتحفظين عليها في جميع التيارات الفكرية والقوى السياسية الفاعلة على الساحة العربية، بغية تنمية تيار ديمقراطي عبر تلك التيارات والقوى، من خلال الحوار البناء والمقاربات المسؤولة لإشكاليات الديمقراطية في البلدان العربية.


ويضم الكتاب دراسات وتعقيبات عدد من المفكرين والمثقفين العرب، منهم: فواز جرجس، وسعد الفقيه، ومحمد محمود، وراشد الغنوشي، وخالد سليمان، ومحمد الرميحي، والفضل الشلق، وبرهان غليون، وعصام العريان، وعبد الله حمودة، وخالد سليمان، وسمير عبد الرحمن هائل الشميري، وعبد الوهاب الأفندي، ومنصور الجمري، وعمر عثمان، وكامل مهدي، وتوفيق السيف.


ويسعى الكتاب إلى فك «رموز» الأسئلة حول جدوى الإصلاح المنشود في البلدان العربية، ومدى مشروعيته وقدرته على النجاح، في ظل غياب الديمقراطية، وفي ظل تحفظات النخب والتيارات الحزبية والإسلامية عليها. ويطرح في المقابل سؤالاً ملحاً حول ما تعنيه النخب العربية بحديثها عن الديمقراطية:


هل هي تأمل في أن يتحقق مبدأ تداول السلطة بشكل سلمي؟ وهل يمكن تداولاً سليماً للسلطة أن يتم من دون إحداث تغييرات حقيقية في مواقف هذه النخب تجاه السلطة؟ كما يطرح تحفظات كل من التيارات السلفية والنخب السياسية والفكرية الأخرى في البلدان العربية على الديمقراطية.


ويسعى كذلك إلى تفكيك هذه المواقف وإيجاد نوع من الحوار في ما بينها، من أجل فهم أسباب اعتراضاتها عليها، وبهدف التمهيد لقيام «مصالحة» لا بد منها بين المنادين بالديمقراطية والمعترضين عليها، حتى لا يظل الحديث عن الديمقراطية، والنقاش حولها من «التابوهات» الممنوع المساس بها !


لكن هذه الأهداف المرجوة من الكتاب طغى عليها سيل الاعتراضات التي جاءت من زوايا ورؤى سياسية مختلفة ومتناقضة، بل ومتحاربة أحياناً في المشهد السياسي العربي. الأمر الذي يوحي بأن ثمة اتفاقاً على عدم أهلية وجدوى الحل الديمقراطي، بواسطة توجيه سيل من الاعتراضات والتحفظات عليه، حتى يبدو وكأن الوضع الراهن هو البديل الشرعي والممكن من خلال نقد الديمقراطية والتشكيك بأهليتها.


ومن المؤسف أن يُعترض على الديمقراطية في البلدان العربية، مع أنها برهنت على الدوام بأنها أفضل نظام سياسي ممكن، وهي تعني مهما اختلفت أقلماتها وحمولات مركباتها، حكم الشعب. وفي الحالة العربية، تشكل الديمقراطية أحد المسائل الملحة التي لا تزال مطروحة في الساحة السياسية والثقافية العربية.


وكثيراً ما يتم طرح السؤال حول إمكانية تطبيق الديمقراطية في أي مجتمع عما إذا كان المجتمع في حد ذاته مؤهلاً لممارسة الديمقراطية بشكل صحيح، أم أنه لا يملك المستوى المطلوب من الثقافة السياسية الذي يؤهله لهذه الممارسة. وهناك أطروحة مزدوجة المصدر ذات مضمون واحد، مفادها أن المجتمعات العربية ليست مؤهلة للديمقراطية.


بينما حقيقة الأمر تبيّن أن هذه الأطروحة هي حجة الخطاب التسلطي العربي الذي لا يؤمن إلا ب«ديمقراطية» ملحقة بشعاراتية مخادعة، مثل الديمقراطية الشعبية، الديمقراطية المسؤولة، ديمقراطية الجماهير، وغير ذلك.


لكن أشد الاعتراضات والتحفظات على الديمقراطية تأتي على لسان بعض فصائل الحركة السلفية، وهي اعتراضات مثيرة للجدل والفزع، حتى أن العديد من الباحثين يعزو مشاركة بعض الحركات الإسلامية السلفية في التحولات السياسية في البلدان العربية إلى ضرورات فقه المصلحة التنظيمي المؤقت، وليس إلى الاقتناع بالديمقراطية وحق الآخرين في حمل آراء فكرية وسياسية مخالفة للفكر السلفي.


لذلك يقول سعد الفقيه: «يفرق السلفيون في معظم تياراتهم بين مناقشة الديمقراطية كواقع متحقق قائم ينبغي التعامل معه بشكل أو بآخر، وبين الموقف من الديمقراطية كنظام حكم في جملته وفكرته العامة وفي تفصيله. وأساس الحكم على الحالتين مختلف اختلافاً جذرياً لأن السلفيين ينطلقون في الحكم على الواقع القائم من منطلق المصالح والمفاسد، بينما يحكمون على المشروع الديمقراطي أو منهج الحكم الديمقراطي على أساس فكري وعقدي».


وهذا يعني أن ليست ثمة قناعة بالديمقراطية أساساً، وكل ما في الأمر هو تعامل مصلحي بسبب ضغط الواقع. وفي حال تمسك الفصائل السلفية التي ترفض الديمقراطية كمنهج حكم فإنهم سيغيرون «الواقع المتحقق» بما فيه أي اضطرار للمشاركة «شبه الإجبارية» في الديمقراطية، وسيأتون بواقع جديد سلفي الشكل وعلى أساس «فكري وعقدي»!


هذا الكلام يعزز شكوك الآخرين في نوايا الإسلاميين تجاه الديمقراطية، وخاصة الفصيل السلفي منهم. إذ يتبدى الأمر وكأنه مجرد مسرحية سيتم إلغاؤها فور السيطرة على المسرح الذي تجري عليه. وما هو أخطر من فكرة اعتبار الديمقراطية مسألة هامشية يُنظر لها من باب المصلحة هو «التأصيل» لفكرة شرعية الحكم.


فبحسب ما يورده الفقيه هناك مقاصد تعتبر ضرورية من وجهة نظر الفكر السلفي لإسباغ الشرعية على أي نظام حكم، وغيابها «يقدح في أصل الشرعية». وهذه المقاصد هي:«أن يكون الشرع الإسلامي هو المحكم في الدولة، وأن يكون الإسلام أساس وجود الدولة وعلاقتها مع الكيانات الخارجية،


وأن تكون شعائر الإسلام ومظاهر الإسلام هي السائدة في الدولة الإسلامية. وهناك في المقابل، وأيضاً بحسب الفقيه، مقاصد « يختلف السلفيون في كون غيابها يقدح في أصل الشرعية رغم أهميتها لاكتمال الشرعية»، وهي: «أن يكون الحاكم مرضياً عنه من قبل الرعية ويكون عرضة للمحاسبة من قبلهم،


وأن تكون الدولة يسود فيها العدل ويتحقق فيها استقلال القضاء، وأن تسود فيها الشورى، وأن تسود فيها الطمأنينة من خلال تأمين الحريات التي كفلتها الشريعة، وأن يكون الحاكم قائماً على تأمين الخدمات والأمن للأمة».


إذن، المقاصد التي ينظر إليها الفكر السلفي على أنها ثانوية وغير قادحة في شرعية الحكم، مثل العدل والمساواة، ومحاسبة الحاكم، وخضوعه لمراقبة الشعب، وقيامه بمسؤولياته، هي أسس الديمقراطية وهي غاياتها الكبرى التي إن غابت، أو حتى إن غاب واحد منها يصبح الحكم الديمقراطي مفرغاً من محتواه.


يضاف إلى ذلك، أن أصحاب الفكر السلفي لا يترددون بالقول إن اعتراضاتهم على الديمقراطية لا تأتي من منطلق الشرعية والسلطة التي تعطيها للشعب فحسب، بل وبسبب منطقها المساواتي. فهم، وبحسب سعد الفقيه، يرفضون فكرة المواطنة واعتبار مواطني الدولة سواسية بغض النظر ديانتهم،


بل هناك أولوية واضحة للمسلم على غيره. كما يرفضون قضية المساواة بين الرجل والمرأة كمواطنين يحق لهما تسلم أي منصب في الدولة. وهم يعترضون على فكرة صوت واحد لفرد واحد، ويعتقدون أن «أهل العلم» يجب ألا يتساووا مع «دهماء الناس»! بسبب تمكنهم من العلم الشرعي و«وعيهم»!


من جهة أخرى، وفي سياق «الفقر الديمقراطي» يميز الدكتور فواز جرجس في ورقته بين «تنظير ليبرالي عجز في بلادنا» وبين ديمقراطية لم تتبلور، بسبب «جفاف ينابيع التعددية في تراثنا»، و«كأن الأرض العربية تخاصم الديمقراطية» بحسب رأي محمد الرميحي، الذي يميز هو الآخر بين الليبرالية والديمقراطية،


من حيث تشديد الليبرالية «على الحرية الفردية وقدسيتها» مع ما يرافق ذلك من حريات اقتصادية وعلاقات مجتمعية موائمة. ثم يجمل تحفظات النخب العربية تجاه الديمقراطية في عدة نقاط، منها أن الديمقراطية لا تأخذ بعين الاعتبار القوى الخفية في الطبيعة الإنسانية، وهي قوى إن لم تكن شريرة بالأساس فهي من دون شك أنانية. وما نراه من حركة تقدم وانتشار واسع للديمقراطية في عالم اليوم قد ينقلب غداً إلى الضد،


فالديمقراطية نبتة هشة لا تنسجم مع معطيات النفس البشرية. ومنها أن الديمقراطية تحمل تهديدات ومخاطر كبيرة للدول النامية والفقيرة، والسبب في ذلك أنها تحتاج إلى درجة معينة من التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، كما لا تساعد الديمقراطية بالضرورة على التقدم الاقتصادي، فهي غالباً ما تتيح استلام السلطة من طرف نخب غير مخلصة وكاذبة. كما أن الديمقراطية في الدول النامية، ضعيفة التطور، تهدد وحدة الأمم واستقرارها،


ففي المجتمعات غير المتطورة تؤدي التعددية إلى تعميق التقسيمات العرقية والإقليمية القائمة. ثم إن الديمقراطية ليس لها حظ من النجاح في مجتمعات تفتقر إلى الطبقة الوسطى. والطبقة الوسطى من صنع الأنظمة الاستبدادية، لكن عندما وصلت إلى حجم معين وثقة بالنفس ثارت على صانعها. ويزداد الأمر سوءاً عندما نأتي إلى البلاد العربية، حيث سنجد معوقات أكبر، وبالتالي حظوظاً أقل لممارسة الديمقراطية.


فالديمقراطية في مجتمعاتنا فكرة مستورده، وليست ثمرة تطور مستقل للظروف الذاتية والموضوعية. وهي تواجه تاريخا فكريا يتسم بالجمود واستمرار الأطر الاجتماعية المعرفية السلبية التي لا تزال سائدة بصرف النظر عن الأشكال السياسية التي تأخذها الدولة.


وحين تكون الديمقراطية فقط مجرد انتخابات حرة تجرد عن عمد أو عن غفلة من محتواها الحقيقي. فالانتخابات الحرة في ظل التخلف العربي الراهن لن تأتي بدعاة النهضة. بل لأن المنطق يقول أنها قد تأتي بالأكثر غوغائية والأعلى صوتاً، والأكثر كذباً. والأسوأ من هذا وذاك أنها قد تأتي بقوى فاشية معادية للتقدم وللديمقراطية ذاتها.


هكذا يعبر الرميحي في ورقته عن تحفظات النخب العربية تجاه الديمقراطية. ويستنتج برهان غليون من هذا الموقف أن النخب العربية تحبذ الديمقراطية وتقدرها، وتجد أنها تمثل تقدما كبيرا من الناحية السياسية والأخلاقية، بيد أن هذه النخب تخشى منها على الدولة والوطنية والتقدم والتنمية في البلاد العربية، ولا تؤمن بإمكانية تطبيقها، أو على الأقل في الوقت الراهن.


ويرى غليون أن مشكلة بعض النخب العربية هي أنها تتردد بين التشكيك بصلاح الديمقراطية والأخذ بها كوصفة. ومع الاعتراف بأن الديمقراطية غير صالحة لحل جميع مشاكل المجتمعات، إلا أنها تعبر عن تطور نظرة جديدة للإنسان، تضعه في إطار المشاركة، وتراهن على عمقه الأخلاقي الإيجابي.


(عمر كوش - "البيان")

التعليقات