أساطير الفكر الكبرى

أساطير الفكر الكبرى
هنري بينا ـ رويز، مؤلف هذا الكتاب (بالفرنسية)، هو أستاذ الفلسفة في باريس، سبق له وقدّم العديد من الأعمال التي لاقت نجاحا كبيرا مثل «قصة العالم، أساطير فلسفية» و«العلمانية» و«ما هي العلمانية؟» ... الخ. يحاول «هنري بينا ـ رويز» في هذا الكتاب الجديد أن يجمع التراث الفكري الإنساني من خلال الصور والحكايات الموجهة للمخيلة والعقل كنوع من «الدليل» لفهم الأساطير التي شكّلت محطات مهمة في تاريخ الفكر.


وتعود فكرة الكتاب في الواقع إلى «النجاح» الذي لاقاه العمل السابق الذي قدّمه حول الأساطير الفلسفية التي صاغت «قصة العالم». إذ على قاعدة هذا النجاح طلبت إذاعة فرنسا الثقافية من المؤلف عدة حلقات حول «الأساطير الكبرى المؤسسة للفكر»، ومحصلة هذه الحلقات هي مادة الكتاب الذي نقدمه. يوزع المؤلف «أساطير الفكر الكبرى» بين خمسة فصول في الكتاب تخص «اختراع الإنسان» و«زمن العيش» و«خوارق الأهواء» و«العالم الخيالي» و«دوّامات الفعل».


إن كل أسطورة يتم تقديمها من أساطير الفكر ترمز إلى توجه فكري أو مضمون أو دعوة لسلوك. والأسطورة الأولى التي يعرضها المؤلف تخص «نار بروموثيوث» أو «فتوحات الثقافة». ويعود المؤلف بقارئه «بواسطة المخيلة» إلى تلك الفترة الأولى من حياة الإنسان البدائي الذي وجد نفسه، دون أي سلاح، في مواجهة طبيعة تتصارع فيها الأنواع من أجل البقاء.


لقد كان على ذلك الإنسان البدائي أن يواجه «الأسد» و«الأفعى» وغيرهما من الأكثر قوة منه. لقد كان إذن في حالة «ضعف» و«هشاشة». من هنا بدأ بتشغيل «فكره» ليحقق تفوقه بواسطة «المعارف» و«التقنيات» لتولد الثقافة بمعنى فعل الإنسان في الوسط المحيط به لتغييره.


وهنا تبدو النار أحد أهم الوسائل المستخدمة لتغيير طبيعة الأشياء من حالة إلى أخرى. وهذا ما كان قد عبّر عنه عالم تطور حياة الإنسان الانتروبولوجي كلود ليفي ستروس بكتاب حمل عنوان: «النيئ والمطبوخ»، وهذا ما يجده مؤلف هذا الكتاب عن «أساطير الفكر الفكري» في أسطورة «بروموثيوث».


ويشير المؤلف إلى عدة نصوص قديمة تتحدث عن هذا «البطل الإنساني» الذي عارض، كما تقول الأسطورة، إرادة آلهة اليونان القدامى كي يسمح للبشر بأن يعيشوا، بل وأصبح رمزا لتقدم البشرية. وأيضا لـ «الإنسان الذي سيعوّض بواسطة فتوحاته ضعفه الطبيعي». لكنه قد يصبح أحيانا ضحية جموحه وإرادته في امتلاك القوة.


وكان اليونانيون القدامى قد قدموه على أنه سيد الفنون والعلوم. بكل الحالات تتفق الأساطير المتنوعة للأزمنة القديمة على القول بأن «بروموثيوث» قد لاقى عقابا شديدا «نموذجيا» حيث شدّوا وثاقه على صخرة. من هنا جاءت تسمية بروموثيوث المصفّد ليأكل النسر من كبده. لكن ما إن يلتهم ذلك النسر الجارح الكبد كله حتى ينبعث كاملا من جديد كي «تستدام عذابات المصفّد».


وأسطورة أخرى هي من بين «أساطير الفكر الكبرى» إنها تلك التي تخص صخرة «سيزيف»، أو «الجسارة من أجل العيش». إن الحياة تهتز أحيانا بالنسبة للبشر ويعتريهم الشك، لذلك ينبغي على الإنسان دائما أن يبدأ من جديد ويعيد الكرّة في «عملية ابتداء أبدي متجدد» مثلما هي حالة دورة الفصول.


و«صخرة سيزيف» كان يجري حملها من أسفل سفح الجبل إلى قمته من قبل سيزيف الذي ما إن كان يبلغ القمة حتى تهوي الصخرة إلى أسفل السفح من جديد. وهكذا أصبحت رمزا للعمل العبثي إذ ما إن يتم إنجاز المهمة حتى ينبغي الشروع فيها ثانية.


يتساءل المؤلف: «هل الحياة اليومية المحكومة بالابتداء من جديد باستمرار تستحق أن تعاش؟».


ثم إن التأمل بمثل هذا السؤال دفع «ألبير كامو» صاحب رواية «الغريب» الشهيرة، ولكن أيضا صاحب «أسطورة سيزيف» كما حمل عنوان أحد كتبه، إلى القول، كما ينقل عنه المؤلف: «في تلك اللحظة الدقيقة حيث يلتفت الإنسان إلى حياته المتكررة يعود سيزيف نحو صخرته كي يتأمل تلك السلسلة من الأفعال غير المترابطة التي أصبحت مصيره». وكان هوميروس قد وصف في النشيد الحادي عشر من الأوديسة الجهود التي قام بها سيزيف وعودته الأبدية إلى نقطة البداية.


لكن بكل الحالات لا يمكن ل«سيزيف» أن يتصالح مع الحياة إلا إذا أخذ باعتباره واقع العالم الذي يندرج مصيره فيه. وعندما يفعل ذلك يمكن لقوته أن تنبعث دائما من جديد وذلك في مواجهة الخوف والتعب. وعندها «يستطيع أن يحمل أعباءه على كتفيه».


وبعد «سيزيف» هناك أسطورة «أوليس»، أو «الإنسان المسؤول عن حياته»، والذي يبدو كما ترسمه أسطورته إنسانا وبطلا بنفس الوقت. إذ أنه جسد المغامرة الإنسانية بعد عودته «الظافرة» من حروب طروادة التي يرويها هوميروس في «أوديسته». وكما في الأساطير اليونانية كان يُعتقد بأن أرواح البشر تتجسد في صورة أخرى. وهكذا اختار «أوليس» في حياته الجديدة أن «يعيش حياة بسيطة» بحيث يكون «مسؤولا عن حياته ويتمتع بالحرية التي ينبغي على الإنسان أن يضعها لنفسه وأن يختار حياته».


وأسطورة مؤسسة أخرى للفكر تتمثل في «غناء البجع» والذي يعني في القاموس العربي «خاتمة الإبداع». وذلك للإشارة إلى الإبداعات الكبيرة التي يقدمها النابغون في مختلف الميادين قبل موتهم. أو بمعنى ما أثناء «صحوة الموت». هكذا مثلا قام الموسيقى الكبير موزارت بتأليف رائعته الكبيرة المعروفة باسم «روكييم» التي لم تكتمل والتي أطلقوا عليها «خاتمة الإبداع».


و«غناء البجع» هو ذلك الحداء الحزين الذي يقال بأن البجع يصدره قبل الموت، وهكذا الأمر بالنسبة للمبدع، ذلك الإنسان الذي وضع حياته في منظور الإبداع والذي يكتسي عمله الأخير قيمة كبيرة باعتباره «خاتمة الإبداع».


وينقل المؤلف عن أفلاطون أنه عندما كان سقراط يهمّ بتناول كأس السم تحدث عن «غناء البجع» ولكن ليس باعتباره رمزا للحزن وإنما بالأحرى رمزا للحبور والغبطة، ذلك أن سقراط كان مخلصا لذاته ولمبادئه. يقول أفلاطون أن طيور البجع عندما تحس باقتراب الموت تصدح ببهاء وصفاء وبكثير من الفرح. لكن البشر وبسبب الخوف الذي يعتريهم من الموت يقولون بأن طيور البجع تتباكى على موتها وبأن الألم هو الذي يلهمها كي تنشد خاتمة إبداعها.


هكذا إذن كان سقراط لا يخشى الموت، بل كان يطلق «نشيده الأخير» وهو صافي الذهن والضمير ذلك لأنه كان قد عاش حياته كما أراد أن تكون عليه. إنه مثل الطيور البجع التي تعوّدت على أن تشدو بأجمل ما لديها عندما يقترب الموت. ومثل سقراط أيضا كان موليير الذي لعب أفضل دور له ـ كان ممثلا فضلا عن كونه كاتباً مسرحياً كبيراً ـ قبل أن يموت على خشبة المسرح. ومثل موزارت الذي ترك لنا أجمل موسيقاه «روكييم» قبل أن يغادر الحياة.


وما يؤكده المؤلف هو أن سقراط عندما قبل أن يتجرع كأس السم إنما أراد أن يقول بأن الإنسان وباختياره طريقة موته إنما يدل أيضا على اختياره لطريقة حياته. إنه اختار بأن يكون وجوده مرتبطا بالبحث عن الحقيقة والعدالة مهما كان ثمن ذلك. وفي المحصلة يكون التحرر الكوني للبشرية ملزم لكل إنسان باعتباره مسؤولا عن هذا التحرر عبر حياته، وموته أيضا.


وهناك أساطير أخرى كرّست فكرة «الهوى القاتل» الذي لا براء منه. وكمثال عليها يقدم المؤلف أسطورة «تريستان وايزوت» المعروفة في الأدبيات الغربية وحيث ارتبط الشاب والفتاة في وثاق الحياة والموت. وكان تفكير كل منهما يذهب باتجاه الآخر إلى الأبد. لقد عرفا العاطفة بكل أشكالها وألوانها، الهادئة والعنيفة، السعيدة والكئيبة. لقد كان التزامهما يسمو فوق كل شيء بنوع من الرابطة السرية بين كائنين فيما هو وراء اللحظة والمكان.


ومثل «تريستان وايزوت» هناك «روميو وجولييت» و«بول وفيرجيني» وغيرهم... وفي كل الحالات يُعطى لعاطفة الحب بُعدا «ميتافيزيقيا» يرمي إلى استعادة «الوحدة المفقودة». ويرى المؤلف بأن الحضارات القديمة كلها عرفت مثل هذا النزوع، وأحيانا عبر الكائنات المعروفة ب«الخنثى» أي التي تجمع بين الرجل والمرأة في الوقت نفسه. وفي جميع هذه الحالات يشكل الاثنان «واحدا» ... وهذا ما عبّر عنه فيما بعد الكاتب الشهير توماس مان بالقول: «الأنت والأنا مجتمعان دائما في سعادة سامية».


وأسطورة «أنف كليوباترة» يرمز «للأسباب الصغيرة التي تنجم عنها آثار كبيرة» وهذا ما يبدأ المؤلف الحديث عنه بكلمة كان الفيلسوف الألماني الشهير هيغل قد قالها وجاء فيها تأكيده بأن التاريخ الإنساني يصنعه الرجال الشغوفون بما يفعلون إذ «لا شيء عظيم يمكن عمله دون شغف».


هكذا كان نابليون جنديا متحمسا في خدمة الثورة الفرنسية الكبرى لكنه أعاد بناء الإمبراطورية بعد ذلك. وهكذا كان شغف الإنسان (نابليون) قد حمله إلى ما هو أبعد مما كان قبوله ممكنا في التاريخ. يقول المؤلف: «إن نابليون، جندي الثورة قد أخلى المكان لنابليون الإمبراطور، لكن هذا الثاني سحقه التاريخ».


وكان الفيلسوف «باسكال» قد ناقش دور الانفعالات في التاريخ الإنساني عبر قوله بأن الأسباب الصغيرة كلها يمكن أن تؤدي ظاهريا إلى نتائج كبيرة جدا. وقد تحدث عن «أنف كليوباترا الصغير» الذي جعل قيصر يسقط في هواها. فهل لعب أنف كليوباترة دورا «لا يتناسب مع حجمه» في التاريخ؟ وهل يمكن لأشياء صغيرة أن تؤدي إلى تشكل إمبراطوريات أو ربما إلى انحطاطها؟ يتساءل المؤلف. وهذا ما يجيب عليه باسكال بالقول: «لو كان أنف كليوباترة أقصر فلربما أن وجه الأرض كلها كان قد تغير».


ويلح «باسكال» بأن كليوباترة التي حكمت مصر خلال الفترة الواقعة بين عام 51 وعام 30 قبل الميلاد إنما قد استطاعت أن ترسي أساس حكمها بمساعدة يوليوس قيصر الذي وقع تحت إغرائها وأنجبت منه ابنا هو «سيزاريوس». وبعد وفاة قيصر جعلت كليوباترة «أنطونيوس» يتعلق بها حيث أقنعته ببناء إمبراطورية كبرى في الشرق.


لكن روما ما كان لها أن تقبل قيام مثل هذه القوة الكبيرة عند بواباتها فتولى «أوكتاف» مهمة أن يمنع ذلك. وانتهى به الأمر بقتل «أنطونيوس» في معركة اكتيوم. لقد انهار الحلم.


أما «أنطونيوس» وكليوباترة فقد انتحرا.


وهناك أساطير أخرى عديدة ساهمت في التأسيس للفكر الإنساني من بينها «مياه الطوفان» أو ما يسميه المؤلف ب«مخيلة الخطأ» وأسطورة «دونكيخوتة وطواحين الهواء» أو «الحنين إلى المبدأ المثالي» و«أفيون الشعوب» أو «السعادة الموهومة» وأسطورة «إصابة أوديب بالعماء» أو «خفايا القدر»، وأسطورة «اجتياز نهر الروبيكون» من قبل جيوش الاسكندر الأكبر أو «مصاعب القرار».


كتاب عن الأساطير التي أسست للفكر كما وصلتنا عبر العصور ومن خلال صور وحكايات. وهو كتاب فيه الكثير مما يشبه حوار حراً بين أصدقاء.

(عن "بيان الكتب")

التعليقات