الفلسطينية مي جليلي تضيء "قناديل الجليل" في روايتها/ محمد اليوسفي

-

الفلسطينية مي جليلي تضيء
رواية ذاكرة متمسكة بالتفاصيل هي رواية «قناديل الجليل» (دار الشجرة، دمشق، 223 صفحة من القطع المتوسط) للكاتبة الفلسطينية مي جليلي التي سبق لها التعامل مع القصة القصيرة والرواية، وتتميز بمتابعة التفاصيل الحياتية للأرض والناس في قرى الجليل قبل النكبة، ويحصل فيها القارئ على متعة خاصة عبر متابعة طريقة عيش البشر وانصرافهم إلى شؤونهم اليومية وتعقيداتها الاجتماعية والحضارية، وإن كان كل ذلك يجري ضمن خلفية قد تكون معتادة في ما بات يعرف بـ «أدب النكبة»، وهي الخلفية المتعلقة بتدفق اليهود على أرض فلسطين بتواطؤ إنكليزي وخذلان عربي.

خط سير أحداث الرواية يأتي مفاجئاً بتشخيصاته الذكية، وفوران الحياة الذي تجيد الكاتبة نقله بتدفق فوار، وذلك عبر لغة جريئة في التعامل مع القاموسين العامي والفصيح والذي يأتي بحرارة خاصة عندما لا يتعلق الأمر بالمزج بين الاثنين فحسب بل انطلاقاً من محاولة تفصيح العامي وإدراجه ضمن سياق يبدو موحَّداً للوهلة الأولى.

هذه المفاجآت والتشخيصات الغنية سيضمحل دورها لاحقاً في سياق الرواية عندما تنضوي هذه الأخيرة - منطقياً - تحت حتمية السياق التاريخي للأحداث بحيث تغدو النتائج والأحداث والمصائر متوقَّعة تحت مآلها العريض الذي هو «النكبة» تماماً كما نعرف من التاريخ وليس من الرواية.

ففي مقابل سرد انكسارات الواقع في بداية الرواية ثمة ما يمكن تسميته بسرد واقعية الانكسار (تاريخيته) في نهايتها. وهذا لا يقتصر على رواية مي جليلي وحدها بل يطاول الأدب الفلسطيني عموماً في سرده الاضطراري للواقع التاريخي الذي عصف بكل تطور تلقائي سواء بالنسبة الى الواقع أم بالنسبة الى مصائر الشخوص.

وكمثال صغير على ذلك، ثمة حدث في الرواية يتعلق بقضية ثأر من محمود الذي أحب هند المتزوجة فهربت معه إلى بيت مهجور على شاطئ يافا. وبعد اشتداد الملاحقة ومحاولة الثأر يأتي هذا التعليق على لسان الراوي، بل الراوية هنا، في قولها: « قتلوا الحمير العائدة من السهول... بقروا بطون البقرات السارحات في المراعي، وسرقوا الخراف لبعضهم وأشبعوا الرعيان ضرباً... لكن دياب لم يشف غليله... يتقصى القادمين والذاهبين، إن كانوا قد لمحوا هذين الطريدين، إلا أن سيارات الإنكليز التي كانت تقتحم البلد، وتنقضُّ على الدور بحثاً عن الثوار والسلاح، قد شغلت الناس عن قصة صارت أقل بكثير من فجيعة البلد بثلاثة شبان، أتوا محملين على ظهور البغال والدم يقطر من أطرافهم. إلى أن تقول: (بدأت الأحداث تسقط ثقيلة على فلسطين.... ونسي الناس هند ومحمود...) غير أن الرواية في الحقيقة لم تنسهما.

فهل يمكن القول إن كل رواية تتحدث عن فلسطين لا يكتب المؤلف خاتمها بقدر ما يكون التاريخ قد سبقه إلى فعل ذلك؟

ما تتميز به رواية قناديل الجليل هو هذا الوصف المجنح المغتني بلغة رعوية فوارة كما أسلفت القول. لكن ما يزيدها بهاء هو تمايز الشخصيات وتنوع أسرارها وهواجسها: خديجة التي ترفض دفن ابنتها زهرة، بعد أن أصابتها رصاصة غادرة، في غياب والدها الذي جرّه الأتراك إلى حروبهم «حيث عرب الشمال يقتلون عرب الجنوب وعرب الشرق يقتلون عرب الغرب» فأدخلتها الغرفة الصغيرة وطينت الباب وتركت شبّاك الزجاج براقاً... وكذلك مصير شمسة التي قتلها جمل حاقد لأنها أتلفت عينه من طريق الخطأ، وفاطمة التي تبني مزاراً لزوجها في باحة البيت... وجنون الحب في بيئة قروية محافظة لا تمنع الأنثى من اتخاذ قرارات مصيرية قاتلة بسبب الظلم والاضطهاد الذكوري، وغير ذلك من الأحداث التي تغتني بها الرواية.

وكما تعج الرواية بأحداث كثيرة فهي تتسع أيضاً للكثير، الكثير، من الشخصيات. وليست المشكلة هنا بالنسبة الى تلقي الرواية، بل في مصيبة توارث الأسماء لدى الشخصيات! وهذا ما يتطلب الانتباه لأفول جيل وحلول جيل آخر يحمل الأسماء نفسها!

وعلى غرار توالد الشخصيات تتوالد الحكايات أيضاً من بعضها، وقد تمتزج في مونتاج سينمائي أجادت الكاتبة تقديمه في مزجها بين موت صاحبة البيت الأولى، بُشْرى، وموت هند محترقة بعد هروبها مع حبيبها محمود إلى ذلك البيت المهجور على شاطئ يافا، وهو البيت الذي سبق أن ماتت فيه بشرى، المسيحية هذه المرة، لكن بسبب مغامرة حب أيضاً.

تبدأ الرواية بضمير المتكلم، على لسان الراوية، وهي تخاطب ابنتها، هدى، في دمشق، وتنتهي عائدة مرة أخرى إلى ضمير المتكلم، على لسان الراوية دائماً، وقد تمت الهجرة الجماعية بعد النكبة، باتجاه دمشق، مع ما رافقها من تيه وبؤس وإذلال وفقــدان الشخصيات لمراكزهــا الاجتماعيـــة وقيمهــا السابقة.

أما بالنسبة الى عنوان الرواية الذي يشير إلى «قناديل» الجليل فهو يكاد يحاكي حركة أحداث الرواية، من العنفوان والفوران إلى الانكسار والأفول، تقول الراوية بعد اشتداد الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتزايد عدد الشهداء (الصفحة 198): «غرقت البلاد يا فاطمة بليل لا فجر بعده وأعتمت القناديل وظلت معلقة مطفأة خرساء بين السماء والتراب تنتظر يوماً تمتد الأيدي وتشعل الفتيل، الزواحف الدبقة ذات الحراشف تبتر فلسطين قرية وراء قرية، تذبح الناس وتشرب دم الأطفال وتبقر بطون النساء...».

قناديل الجليل التي جاءت محملة بتفاصيل السيرة الذاتية والجمعية تؤكد شغل الذاكرة لدى جيل لاحق من الكتاب الفلسطينيين مع حساسية خاصة ومتميزة تضطلع بها المرأة الفلسطينية الكاتبة بعيداً من أسوار الأيديولوجية والمكابرة. إنها رواية الذاكرة بامتياز.


"الحياة"

التعليقات