"ربيع حار" رواية سحر خليفة، شخصيات من تفاصيل وعلاقات

-

الكتاب: <<ربيع حار (رحلة الصبر والصبار)>> (رواية).
الكاتب: سحر خليفة (فلسطين).
الناشر: <<مؤسسة دار الهلال>> (سلسلة <<روايات الهلال>>، العدد 668، آب 2004)، القاهرة.

لا تزال الروائية الفلسطينية سحر خليفة مهمومة بالواقع الإنساني للفرد الفلسطيني. لا تزال روايات عدّة لها مرايا الذات في العلاقات الملتبسة الناشئة في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي.

لا تزال نصوصها الأدبية شهادات حيّة عن الوجع والتمرّد وفعل المواجهة، أكان ذلك على مستوى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أم على مستوى صراع الفرد ضد المجتمع والعادات والتقاليد. هذا كلّه حسن، إذ يُمكن أن يُشكّل أداة فاعلة في كشف بعض المستور في داخل العقل (الفردي والجماعي) الفلسطيني إزاء أنماط العيش اليوميّ والعلاقات الإنسانية وكيفية الجمع بين خصوصية الكيان الفرديّ وتميّزات البيئة الجماعية، وفي إضاءة بعض ما يعتمل في داخل المجتمع الفلسطيني وتفاصيله وتحوّلاته ومساره ومناخه، اجتماعياً وسياسياً وإنسانياً، برسمه شيئاً من السلوك الفلسطيني في عيشه اليوميّ، كما في مقاومته إسرائيل.

نصّ مفتوح

تُبيِّن مراجعة روايات سابقة لها ملامح عدّة من المناخ العام المعتمد في تشريحها الأدبي والثقافي والنقديّ الواقع الإنساني في فلسطين. فهي تُصوّر جوانب مختلفة لتعيد صوغ المشهد المختار في نصّها، ولا تتوانى عن اختراق بعض الباطن والمخفيّ لتصنع نصوصاً روائيةً مقتبسةً من حالات وأوجاع وعيش. وإذا بدت رواياتها مشحونة بهذا الهمّ الإبداعي الملتزم نقل المعاناة الجماعية من خلال التجربة الفردية، فإن بنية السرد تقع، أحياناً، في <<ورطة>> الخطاب والإيديولوجيا والحوار المباشر والمثقل بلغة تقريرية.

تعكس روايتها السابقة <<صورة وأيقونة وعهد قديم>> (<<دار الآداب>>، بيروت، 2002) شيئاً من النمط المتجدّد في كتابة نصّ إنسانيّ فلسطينيّ لا يبتعد عن محيطه البشريّ، ولا يغيب عن قراءة الهمّ الفرديّ في معاينة التحوّل الاجتماعيّ والثقافيّ الشعبيّ والذاتيّ. ذلك أن سحر خليفة صاغت حكاية هؤلاء الناس من صلب معاناتهم، من دون أن تغرق في التنظير الخطابيّ، بقدر ما أبدعت في صوغ التفاصيل اليومية، جامعةً الحسّي بالمُتخيّل، والأسطوريّ بالواقعيّ، والمُجتمعيّ بالروحيّ، والعشق بالنضال، والحلم بالانكسار، ومُستعينة في هذا كلّه بلغة سلسة ومُبَسّطة، تزخر بجمالية الوصف ومتانة التعبير الأدبيّ وهي تحكي <<عن روح فلسطين المُتغيّرة وعن شعب بسيط يصمد راضياً ومطمئناً، وتتأمّل ما تبقّى من القدس، وترصد أرواحاً ميّتة تتاجر بأحجار فلسطين وبأخرى تحوّل الحجر سلاحاً فريداً>>، كما كتب فيصل درّاج في تقديمه هذه الرواية، مضيفاً أنها <<نصّ مفتوح متعدّد المستويات، يرى البشر في حياتهم اليوميّة ويرى إلى التاريخ الذي لا يلتقي به أحدٌ>>.

في روايتها الجديدة <<ربيع حار (رحلة الصبر والصبار)>>، بدت سحر خليفة وكأنها تُفتّت واجهة الحدث كي يتسنّى للقارىء أن يعي إنسانية الفرد الفلسطيني، بمشاعره وأحلامه وأسئلته ورغباته، وإن بشيء من <<الخطابيّة المباشرة>>، التي يتطلّبها سرد تفاصيل عدّة من قلب الواقع الإنسانيّ الفلسطينيّ. هناك أعمالٌ أدبيةٌ وأفلامٌ سينمائيةٌ عدّة، وإن لم يكن عددها كبيراً، أسّس لمفهوم الفرد الفلسطيني ككائن حيّ، في مواجهة هذا الكمّ الهائل من النتاج الثقافي النضالي الذي انشغل (وينشغل) بال<<القضية>>، وتجاهل ناسها ولا يزال يتجاهلهم باسم <<القضية>> ومن أجلها. هذا كلام مُكرّر ومعروف يُمكن تجاوزه إلى ما هو أهمّ، والأهمّ كامن في أن نتاجاً فنياً وأدبياً فلسطينياً و/أو عن فلسطين لم يعد مجرّد نصّ ممجوج أو مُستهلك، لأنه نجح في كسر المُقدّس فحرّر الفرد الفلسطيني من سطوة الجماعة.

جزآن مختلفان

لا شكّ في أن <<ربيع حار>> لسحر خليفة أرادت المُساهمة في (محاولة) <<تحرير الفرد من سطوة الجماعة>>، بسردها مقتطفات من السيرة الحياتية لعائلة متواضعة مُقيمة في بلدة عين المرجان في منطقة نابلس، بدءاً من تبيان التناقض بين الأب (المهموم بفلسطين وصراعها ضد المحتلّ) والولدين (أكبرهما مشغول بالموسيقى والغناء والعيش كشاب في مقتبل العمر يحلم بالسفر، وصغيرهما مهووس بالرسم وهو في بداية تفتّح وعيه بمحيطه وشعوره بالحبّ وأسئلته عن الآخر، أي عن المستوطنّ وعن اليهوديّ والإسرائيلي إلخ.)، وصولاً إلى الانفجار الداخلي الذي تمثّل بانكسار الأب وأحلام الولدين بعد أن وجدا نفسيهما في داخل الصراع والموت والعنف والتشرذم. حدث هذا كلّه في مرحلة اجتياح إسرائيل رام الله ومحاصرة <<المقاطعة>> (مقرّ الرئيس ياسر عرفات).

تميّز الجزء الأول من الرواية بغلبة البُعد الإنساني للفرد الفلسطيني، إذ صوّرت الكاتبة هواجسه وأحلامه وتصرّفاته وسلوكه ونظراته الخاصّة بفلسطين والحياة والمجتمع والعلاقات. وغاص الجزء الثاني في عمق الصراع والمواجهة وبداية الانحدار الذي عاشته العائلة الممزّقة بتمزّق الأحلام المختلفة، والمتناقضة أحياناً، التي عاشها كل فرد منها على حدة. وفي الجزئين تصوير حسّي للمشاعر والعادات والعلاقات والتفاصيل اليومية لأناس بدوا وكأنهم منذورون للقهر والتحدّي.

هناك اهتمام واضح بالمرأة، أكانت أماً أم صديقة أم زوجة أم محبوبة/عاشقة أم جدّة صقلتها الأيام فاكتسبت حنكة وحكمة شكّلتا معاً مظلّة لشباب مُساق إلى خراب روحي وذاتي. هناك أيضاً قراءة مبطّنة وعادية لأصولية/تطرّف ديني، من دون تناسي العلاقة <<المتينة>> الناشئة بين المسيحي والمسلم في فلسطين، وإن صُوّرت هذه العلاقة بشكل ساذج وعابر.

لعلّ الوصف الأدقّ ل<<ربيع حار>> يكمن في اعتبارها نصّاً أدبياً مزج التقرير الصحافي بشهادات واقعية، واستعاد محطّات تاريخية لدمجها بخطابية مخفّفة عن الفساد في داخل فلسطين والأحلام المنكسرة للشباب والعذاب الأبدي (هل أقول القدري؟) لجيل الآباء (!) والنزاع الحاصل على مستوى التناقض بين حقّ العيش لتفعيل المقاومة وتنامي أصوليّة متطرّفة للدين، كما على مستوى الذات الفردية (خصوصاً بالنسبة إلى المرأة) في مسألة الحبّ والزواج ونمط المواجهة اليومية. وإذا احتفظ معظم الجزء الأول من هذا النصّ الأدبي بجمالية ما في تقديم الشخصيات الأساسية والحالات النفسية والاجتماعية والانفعالية، فإن الباقي ليس إلاّ مجرّد تقرير إخباريّ عن هذه الشخصيات والحالات، مصبوغة ببعض الصُوَر الجميلة.




عن "السفير"

التعليقات