رواية " حيث لا تسقط الأمطار"../ رشاد أبوشاور

-

رواية
 
أسئلة الحياة الشقيّة، وتمزّق الإنسان العربي، حيث يصبح الواحد اثنين!
 
وضعت رواية ( حيث لا تسقط الأمطار) على الطاولة، وتأملتها، قبل أن أشرع في قراءتها، وتساءلت: هل سينجو أمجد ناصر، الشاعر المتألّق، وكاتب السيرة البارع، من ( شعريته)، فيكتب نصّا روائيّا، يقنعنا بأنه رواية، يجذبنا كنّص روائي، لا كتحليقات وتهويمات شعريّة ؟!
ليس بدعا أن يكتب شاعر رواية، فشعراء عرب كتبوا من قبله روايات، بل إن بعضهم بدأ شاعرا حقق مكانةً، وانتقل من بعد للكتابة الروائية حتى الاحتراف، يخطر ببالي إبراهيم نصر الله، وسليم بركات.
 
في الأدب العالمي يرد اسم فيكتور هوغو الشاعر الفرنسي العظيم، الذي ما زلنا نقرأ روايتيه الخالدتين: البؤساء، و..أحدب نوتردام.
وثمّة أسماء كتبت الشعر واحترفت الرواية: فولكنر، وهمنغوي.
ومن الشعراء من برع بكتابة السيرة، ويحضرني اسم شاعر كبير، سعدت بمعرفته عن قرب، هو رسول حمزاتوف، صاحب ( داغستان بلدي).
 
أمجد ناصر كاتب سيرة لفتت الانتباه إليه، وبين السيرة والرواية وشائج، وإن اختلفا كجنسين أدبيين.
خمّنت أن أمجد سيكتب رواية عن مسقط رأسه ( المفرق) الأردنيّة التي تقع على تقاطع طرق، والجارة للصحراء، والتي كلّما مررت بمحاذاتها، متجها إلى الشام، أو بيروت، وجدتني ألتفت إلى بيوتها، وشوارعها وأطرافها، مستذكرا أمجد، الذي لمّا ولد فيها لم يكن ( أمجد)، بل منحه والده ووالدته اسم النبي ( يحيى): يا يحيى خُذ الكتاب بقوّة ( ص).
 
ويحيى أخذ الكتاب بقوّة، ومع الكتاب والكتابة انطلق إلى فضاء آخر، غير الصحراء، والمدينة الصامدة لنوائب الزمن، وتقلباته، والثابتة في مكانها رغم عواد مرّت عليها.
 
مكر أمجد ناصر بي كقارئ، بعد أن استدرجني في مفتتح روايته، أو مدخلها: ها أنت تعود، أيها الرجل الهارب من عواقب اسمه، أو ما فعلته يداه. مضى وقت طويل على خروجك الذي لم يُشكّل حدثا إلاّ لقلّة تهتم بأمرك ( ص13)
 
قلت لنفسي: هذه رواية عودة، تصفية حساب، مكاشفة، وحزرت المكان، والزمان، وتداعت إلى ذاكرتي سيرة أمجد الذي عرفته منذ وطأت قدماه بيروت، قادما من الأردن، منحازا لفصيل فلسطيني يساري، والذي جمعتني به من بعد صداقة ممتدّة، تعمدّت بمعركة بيروت وجحيمها وحتى يومنا، وزميلين في ( القدس العربي) ، يتواصلان بالهاتف، والبريد الإلكتروني، واللقاءات السريعة في عمّان عند حضوره لزيارة الأهل ومرابع الصبا.
 
في هذه الرواية لم يُعد أمجد كتابة سيرته، وإن استفاد منها جزئيّا، فالأب مثلاً، وهو شخصية حاضرة، والحبيبة رلى، ومحمود أبوطويله، هم شخصيّات روائية، ( خُلقت) ببراعة، وأخذتنا بعيدا عن الشخصيات الواقعية الحميمة في حياة أمجد، الذي بدا حياته حتى العشرين في المفرق، والزرقاء، وعمّان العاصمة، باسم يحيى.
 
 هذا نّص روائي لا يغرق في الشعر، ولا يلتمس تبريرا لنفسه بالشعر، ولغته الروائيّة أحيانا جافة، وأحيانا رخيّة أنيقة، وهي تأتي معبّرة عن المشهد، لتقنع، وتوصل، لا لتضلل وتبهر، وتغطي فقر النّص بحلاوة الكلام.
 
اختار ( لابطل) الرواية - هو لا يدّعي البطولة - الذي لم يقم بأعمال خارقة، ولكن الذي تحوّل، وابتعد عن الذي كانه ( يونس)، واختار لنفسه اسما آخر، وحياةً أخرى، كونه غادر المكان الذي ولد فيه ونشأ.
 
بدا يونس عاشقا للكتب، ساعيا لامتلاكها وقراءتها، ودفع ثمن قراءة وامتلاك كتاب للينين وشما على بطنه، ثمّ منتميا لتنظيم يؤمن بالعمل ( إلى العمل)، يدّعي أنه يختلف عن غيره من الفصائل اليساريّة بأنه ( عملي)، ويبلغ به الأمر أن يحاول اغتيال ( الحفيد)، حاكم البلاد، بلاد (الحامية)، البلاد التي غادرها من ترك يونس وراءه.
 
تلك بعض التفاصيل التي يسردها لنا الروائي، وبضمير الـ أنت، المخاطب، فهو اثنان، واحد بقي( يونس) والآخر باسم لا نعرفه، وحتى هو ينساه، وإن كان صاحب الاسم الملتبس قد اشتهر وهو يتنقّل اضطرارا من مدينة البحر والرصاص- بيروت- إلى جزيرة ( الشمس) ..قبرص، ثمّ ليحّط الرحال في مدينة الرماد والقرميد الأحمر( لندن).
 
هذه الأمكنة التي تنقّل منها وإليها، وحقق فيها شهرته، نتعرّف عليها بسهولة، ولكن مكان الحامية يبقى ملتبسا، وهذا بعض مكر الروائي، الذي يتجنّب أن يكتب رواية تهجو نظام حكم بعينه، والتعميم هنا ليس خشية من عقاب، ولكن لأنه ينطبق على واقع حال بلدان عربيّة كثيرة (حيث لا تسقط الأمطار)، حيث يُتوارث الحكم، وحيث الجفاف، والرعب، والجهل، والخوف، ونبذ أصحاب الرأي، ومطاردة من يقرأ كتاب (ما العمل)، وحيث يُحتضن أصحاب كتب نقائض الوضوء، وعذاب القبر، و..الذين يفجّرون أنفسهم من بعد في شوارع مدن احتضنتهم فيها نظم البلاد التي لا يسقط فيها المطر، أي مطر!
 
يمكر أمجد بالقارئ، فالحامية ليست أبدا مسقط رأسه، إنها وبحسب وصفه لسفارتها في المدينة الرمادية والحمراء، مكان آخر، فالحاكم يزور لندن، وسفارته هناك تكون قد استعدت على مدى سنتين لهذه الزيارة، كونه لا يغادر الحامية إلاّ نادرا ...
هنا تقول لنفسك: كأن الحامية دولة خليجيّة!.
ما الفرق، فبلاد العرب تتشابه، قمعا، وجهلاً، وفقرا، وبطشا، وأمتهانا لكرامة مواطن يعيش جفافا نفسيّا.
 
مراوغة المكان مكر لا يهدف للتضليل، ولكن لبلوغ ما هو جوهري: أسباب غربة ( لا بطل) الرواية، الذي كان يونس، وهنا لعبة أخرى، فيونس بقي في مكانه، بينما ابتلعت الغربة الأخر، وقذفت به من مدينة إلى مدينة.
 
بمتابعة الفصول، يظهر مع ( العائد) ابنه ( بدر) الذي منحه اسم شاعره المفضّل، الابن الذي ولد في المدينة الرمادية والحمراء، والذي لا يبدو مرتبطا بمكان أبيه، فهو من هناك، من حيث ولد، وذكريات أبيه، وماضيه، لا يعنيانه، ومن يلتقيهم في شوارع الحامية من الأصدقاء القدماء لا يثيرون لديه عاطفةً، فهم أصحاب أبيه، وهو يسمع عنهم تعليقات من أبيه.. لا تعنيه.
 
يونس الصغير، ابن شقيقه، الذي يحمل اسمه السابق وفاءً له، يبدو امتداده، استعادته، ولذا فهو يقوده إلى حيث أعمال جد يونس الصغير، والد يونس الذي بقي في المكان، بعد أن فارقه الذي لم يعد ( يونس)، وحمل اسما آخر.
 
في الرواية انفصام غير الانفصام المرضي النفسي، إنه انفصام ثقافي، معرفي، مكاني، تجربي، وهو مُكلف، وشاق، وممزّق.
شخصيّة الأب مدهشة، غنيّة - وهو هنا ليس أب أمجد كما في سيرته الحقيقيّة، إنه أب روائي - وهو فنّان، خّطاط، متصوّف، عاشق ابن مقلة سيّد الخط العربي، ورائده، وصاحب النهاية المفجعة، والسيرة الغريبة للصعود والسقوط، الإبداع و..السعي المسعور للسلطة ومجدها ومنافعها المّادية، والذي دفع ثمن الاقتراب منها بتر اليّد، وقطع اللسان!
 إنه يذكّر ببعض المثقفين العرب!..هذا ما يرد في الرواية، وإن كانت ألسنتهم لا تُقطع، لأنه يسخرونها لمديح أولياء نعمهم!
 
في الرواية ( قليل) من الجنس، وهو مبرر. يحدث هذا في مشهد واحد مع أرملة صديقه الشهيد، في قبرص، والمشهد حزين، بعيد عن الإثارة، فالأرملة مستوحشة ووحيدة، وهي شابة، وبعد ممارسة الجنس تعتذر عن العبارات التي لا تبدو مناسبة من امرأة مُحتشمة.
أمّا الدين فهو مناكفة بين الأب والابن، وأسئلة تؤرّق الابن كلمّا أمعن في القراءة، والتمرّد، و( إلى العمل).
 
خطر ببالي وأنا اقرأ الرواية أن بطلها المنشطر، هو أقرب إلى اللامنتمي، خاصة بعد عقدين من الخيبات، غادر وهو في العشرين تاركا يونس، وعاد وهو في الأربعين، بخيبات وغربة، ومزيد من الأسئلة.
 
يلتقي ( العائد)، برفيقه القديم بمحمود أبوطويله، الذي تخلّى عن ( إلى العمل) وعاد، وارتقى في المنصب، وبات مُنظّرا مبررا لنظام الحكم.
شخصية محمود واحدة من الشخصيات المحورية في الرواية، فهو نموذج للانتهازي الذي (عاد) من مدينة الرصاص والبحر، بيروت، واختصر المسيرة، وانحاز لنظام الحكم في الحامية، وصار منظرا له، مسوغا لممارساته، بادعاء الواقعيّة، وأنه، بالمقارنة، أفضل من نظم الحكم العربيّة أالأخرى!
 
  الأب، ورلى، شخصيتان مؤثرتان في حياة صاحب الشخصيتين، أو النصفين غير المتطابقتين، المملعتين بين بلاد ( حيث لا تسقط الأمطار)، وبلاد الحرب بيروت، وبلاد الاستقرار القلق الاضطراري في الغرب.
 
في هذه الرواية لم ينس أمجد أنه شاعر، وهو وإن كتب روايته بلغة مناسبة لا افتعال فيها، لغة لا تراوغ القارئ، ولا تتوهه وتضلله بجماليات فارغة، فإنه يكتب فصلاً في الحب، حب رلى أحسب أنه من أجمل ما قرأت في الرواية العربيّة، ولست أسمح لنفسي بتشويهه باجتزاء بعضه، وإن كنت أشير للصفحات 209 و219 و211 ، فهنا في هذه الصفحات، ومع لقاء ( العائد) برلى حبيبته، وخطيبته عندما كان ( يونس)، هنا يتأجج الحب، ويتخلق نشيد يمجد الجسد، الجسد الذي يحسّرنا هذا النشيد المذهل على افتقاده، وخسارته، الجسد - المرأة ، والجمال، والحّس، والنشوة الروحية.
 
في الفصل الأخير، يقتاد يونس الصغير عمّه العائد، إلى المقبرة لزيارة قبري الأب والأم، حيث يلتقيان بحارس المقبرة الأخرس!.
من أنسب من أخرس لحراسة الموتى الذين يغرقون تحت أكوام التراب المهال على أبدانهم الميتة، في صمت أبدي؟!
 
  بينما هما في المقبرة، يحوّم طائر جارح  في الفضاء، يبدو وكأنه سينقّض، ومن الأرض، وغير بعيد، تتكوّن زوبعة غباريّة، فيطلب يونس الصغير من عمّه مغادرة المكان!
أهي نبوءة ما بمصيبة تقترب؟!
وهو يهّم بالمغادرة، يسعل ( العائد) العليل، ويبصق دما غزيرا.
 عند خروجهما، واقتراب الأخرس منهما، يهمس الصغير لعمه، أن يعطي الأخرس حارس المقبرة شيئا.
 
يخرج ( العائد) من جيبه قطعة نقدية، يعطيها للأخرس الذي يقلّبها بين أصابعه، ثمّ يعيدها، وإذ يتأملها ( العائد) يكتشف أنها مسكوكة بمناسبة اليوبيل (الفضي) للحفيد، الحفيد الحاكم السابق للحامية، والذي مات منذ زمن!.
نهاية تجابه القارئ بأسئلة عن جدوى كل شيء!.
 
إنها رواية الخيبة من الحب، والأصدقاء، والغربة من جديد، الغربة الأشد من المنفى، غربة (العائد) الذي يُسائله (يونس) الذي كان، ويناصبه الأسئلة ماض لا يمضي، ماض ماثل في لوحات الأب، وترمّل رلى، ونبوءة الأم، الأم الحزينة لأنها تعرف ما سيحصل لابنها القلق، الذي لا يقّر في جلسة ( أو مكان)..الأم العرّافة!
 
وإذ فرغت من قراءة الرواية سألت نفسي: هل سيتحوّل أمجد ناصر الشاعر الكبير، المشغول بتطوير القصيدة العربيّة، الذي انحاز لقصيدة النثر وعمل على تطويرها، هو الذي بدا شاعر تفعيلة يعرف الوزن - لم ينحز لقصيدة النثر لعجز، وقلّة حيله - وحقق مكانةً مرموقة عربيا، إلى الرواية، أم تراه سيزاوج بين الرواية والشعر، فنكسب روائيا، بعد أن كسبنا شاعرا موهوبا متألقا، حقق نبوءة والدته: كأنك تجلس على خازوق، أو على نار، فلا يقّر لك قرار!
 
يسرد الكاتب نصّه بضمير الأنت المخاطب، هو الذي يخاطب نفسه، ثمّ بمكر ذكي، بضمير المخاطب، والذي يخاطبه هو ( يونس)، فهو اثنان، الذي بقي، والذي عاد، ومن بقي لم يمت، بل إنه يراقب، ومن عاد عاد عليلاً، رغم كل ما حقق من شهرة، وتنقّل في البلاد والمدن.
 
هو ذا الفنان يعبّر عن نفسه بكّل وسائل التعبير، والأجناس الأدبيّة، من الشعر، إلى السيرة، إلى المقالة الأدبية، إلى الرواية.. وليس هناك ما يمنع، وقد يكسب القارئ العربي المزيد من موهبة أمجد ناصر المتعددة الجادة، والصادقة مع نفسها، ومع القرّاء.
* صدرت الرواية عن دار الآداب – بيروت، هذا العام 2010
ا  

التعليقات