قراءات في الأدب الفلسطيني كتابٌ جديد لرشاد أبو شاور../ د.إبراهيم خليل*

-

قراءات في الأدب الفلسطيني كتابٌ جديد لرشاد أبو شاور../ د.إبراهيم خليل*
مضى على صدور هذا الكتاب قراءات في الأدب الفلسطيني لرشاد أبو شاور نيف وستة أشهر (دار الشروق : 2007) دو أن يثير انتباه الأوساط الأدبية في الصحافة اليومية والأسبوعية، على الرغم مما تخصصه – في كثير من الأحيان- لما هو أقل منه قيمة من مساحات كبيرة تعرض فيها للإصدارات الجديدة ، وحتى تلك التي مضى عليها طويل وقت.

ربما كان تقاعس الكاتب عن الانتساب لثلة معروفة من تلك التي تسمي نفسها جماعات أدبية متمركزة في هذه الصحيفة أو تلك هو الذي حال دون الاهتمام بكتابه الجيد المفيد، وأعوزه إلى من يشيد بكتابه إشادة تناسب المقام ، ولا تشذ عن السياق.

فهو كتابٌ يضم أبواباً في القصة، والرواية، والمذكرات، والسيرة، فضلا عن الشعر ، و الشعراء.

ولأن رشادا لا يعدُّ نفسه في النقاد بدليل قوله: " لستُ ناقداً محترفاً، وإنما قارئ أولا، وقارئ أخيراً، متذوقٌ للقصة، والرواية، والشعر ، وأكتب دون انتماء لمدرسة نقدية معينة... " (ص10).

وهو صاحبُ الخبرة ٍ في القصة، والأقصوصة، والرواية، وكتابة النثر المقالي، والشهادات، والمسرحيات النثرية، إلا أنّ كتاباته هذه تتجاوز الانطباعات الذاتية التي نجدها عند القارئ المفتقر لما يعرف باسم التحيز الأدبي، فهو – أي المؤلف –قارئٌ عاديّ، بتعبير جونسون وفرجينيا وولف، لكنّ لديه خبرةً بقواعد السرد القصصي، وقواعد كتابة السيرة، وخبرةً في تذوّق الشعر المنظوم ، تضاف إلى ذلك كله خبرةٌ عملية- حياتية- بغير قليل من أصحاب المؤلفات التي تم تناولها في هذا الكتاب.

فهو صديق الشهيد الراحل غسان كنفاني، وعلى فودة، وصديق لفواز عيد الشاعر ، وصديق الراحل إحسان عباس، ومحمد القيسي، وصديق لمحمود شقير ، وفاروق وادي، ومي صايغ، وليلى الأطرش، ومحمود الريماوي، ورسمي أبو علي، وأحمد عمر شاهين – رحمه الله- ومعين بسيسو، وعزالدين المناصرة، ومحمد إبراهيم لافي، وخالد أبو خالد، وغيرهم .. كثير.. ممن كتب عن أعمالهم في هذا الكتاب ، فاجتمعت لديه الخبرة، والمعرفة، والذوق الأدبي، وحسن الاطلاع، والمتابعة عن كثب، وهذا قلَّ أن يجتمع لدارس.

عنوان الكتاب:
لا بدّ- في البداية- من توضيح نقطة في غاية الأهمية، وهي خلو الكتاب من أي نزوع جهويّ، أو قطري، أو إقليمي، على الرغم من أن العنوان " قراءات في الأدب الفلسطيني" قد لا يرضي كثيرين من هواة التطبيع.

فالمؤلف يرى بوضوح ٍ أنّ الأدب العربي أيا كان المكان، والزمان، أدبٌ عربيٌّ و احد ،متجانسٌ، لا يفرق بين أحد من فروعه وآخر . وتلك حقيقة – في رأيه- لا يختلف حولها اثنان. (ص9) . إنما الذي دعاه إلى هذه العناية بأدب فلسطين، واختياره هذا العنوان دون سائر العناوين، فهو الحرص على إبراز دور فلسطين في الأدب العربي، لما في ذلك من تأكيد على هويتها العربية المهددة بالطمس، والاستلاب، والتهويد، منذ وعد بلفور إلى أيامنا هذه.

ومن هنا يرى المؤلف واجبا على النقاد المحترفين، والباحثين، والدارسين، ينبغي عليهم التصدي له، والنهوض به، وهو الكتابة حول الأدب الفلسطيني، بدلا من إهماله، وإسدال الصمت عليه، والتعتيم إذا كانوا يؤمنون فعلا بقومية فلسطين وعروبتها، لا بشيء آخر .

ويذكُّرنا موقف المؤلف بموقف ابن بسام الشنتريني مؤلف كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة الذي حققه ونشره الراحل إحسان عباس، حين سوغ عنايته بأدب الأندلس، دون غيرها من البقاع، قائلا ليُعْلم أن لأهل الجزيرة من الشعر والنثر ما لغيرهم من أهل الديار الإسلامية الأخرى.

وكأنا بالمؤلف ها هنا يحذرنا من الموقف السائد، وهو عدم الاهتمام بأدب فلسطين العربي، فاستمرار هذا الموقف يعني أنَّ مصير فلسطين كمصير الأندلس ، وهذا ما لا يرتضيه أديبٌ، ولا يقبل به مبدع.

غسان كنفاني:
ونقرأ في كتاب أبي شاور تفسيره لرموز غسان كنفاني في (ما تبقى لكم) فيقف بنا إزاء رمز الساعة مقارنا بين دلالة الرمز في الرواية ودلالته في رواية فولكنر"الصخب والعنف " " يتذكر كونتن في تلك الرواية والده عندما أهداه الساعة التي ورثها عن جده قائلاً إننى لا أعطيك الساعة لتتذكر الزمن، بل لكي تنساه".(ص24) ولكن غسّاناً جعل الساعة رمزا لتذكـّر الزمن، لا للنسيان، لأن حامداً في الرواية لا ينبغي أن ينسى، إذ لو فعل لكان مصيره كمصير الثلاثة الذين جردهم أبو الخيزران من ساعاتهم، وأوراقهم النقدية، ورمى بجثثهم فوق مكب للنفايات، في روايته "رجال في الشمس".

ليلى الأطرش:
وحول روايتي ليلى الأطرش وتشرق غربا 1988 وامرأة للفصول الخمسة 1990 يؤكد المؤلف في إضاءة للروايتين على تحرر المرأة، وارتباطه بتحرر الوطن، والمجتمع، والإنسان. فهي – ليلى الأطرش- لا تفرق بين حظ المرأة من الحرية الفردية وحظ الرجل. فكلاهما يعانيان، وكلاهما يناضلان. والروايتان تعدان – في رأيه- كسبا للرواية العربية، لا من حيث الموضوع الذي تدوران حوله، وتنوسان في فضائه، وإنما أيضا من حيثُ البناءُ الفني ُّ، الذي تميز في روايتها الأولى بالعفوية، والانسياب التلقائي للزمن، في حين تميز في روايتها الثانية بالقدرة على استخدام أساليب سردية جديدة، سواءٌ من حيث تنويع الراوي، أو التركيز على المكان، وتوظيفه للدلالة على تقلب الشخوص، أو الحوار، أو اللغة الشاعرية، التي تخلو من السوقية، والابتذال(48) .

أما روايتها الأخيرة "مرافئ الوهم" فتذكـّر المؤلف بمسرحية هنريك إبسن بيت الدمية Doll's House فشخصية سلاف، في الرواية، يجد فيها ظلالا من شخصية المرأة نورا Nora في المسرحية المذكورة . كذلك شادن الراوي ،وإذا كانت نورا في تلك المسرحية تصفق الباب، وهي تغادر بيت الزوجية، صونا لكرامتها، فإنَّ شادن الراوي، وسلاف، هما الأخريان، تضحيان من أجل الخيار نفسه. . في زمن آخر .. وفي بلاد أخرى.. وفي عصر آخر يفترض أن المرأة فيه حققت بعض حريتها المنشودة."(51)

فالمؤلف يؤكد مراراً أن ليلى الأطرش تتناول موضوع المرأة دون حساسية كتلك التي نجدها لدى كاتبات ٍركبن موجة النسْوية من غير مواهب تذكر ، إلا ما يجدنه من وصف لمشاهد جنسية تلفت النظر إليهن بعيداً عما يتطلبه الفن، ويتغياهُ الإبداع.
ومما يلفت النظر ، ويسترعي الانتباه، أن المؤلف لا يُعْنى بالكتاب المخضرمين حسب ، بل يوجّه النظر إلى المقلـّين منهم، وإلى الشداة.

ففي واحدة من دراساته الجيدة يتناول مجموعة قصص لنصري حجّاج عنوانها" أعتقد أنني أحبُّ الحكومة" وهو كاتبٌ مقلٌّ ، وحضوره في الحياة الأدبية يكاد لا يذكر . وعلى الرغم من ذلك تضيف قصصه هذه بعداً جديداً يغني القصة في فلسطين، فهي قصص لا تتغنى بإنجازات السلطة في رام الله، وإنما تنتقدُ، في حدة، وبجراءة، مؤكدة أنّ الإبداع – كما يقول همنغواي – لا مفرّ له من التحدي، والمعارضة، والصراع.

وادي وعصفور الشمس:
وعلى نحو ما يرى في نصري حجاج كاتبا مقلا يرى في فاروق وادي، الذي بدأ الكتابة في وسط الستينات.فأعماله المنشورة لا تتعدى مجموعة قصص واحدة " المنفى يا حبيبتي" وثلاث روايات هي :" طريق إلى البحر " ورائحة الصيف" وأخيرا عصفور الشمس2006 .

والواقع أنّ في هذه الرواية الكثير مما يستوقف المؤلف .
امتزاج الواقع بالأسطورة، تداخل الرمز بالمعنى المباشر الصريح. الدهاء السردي، والمكر، الذي يجمع بين أساليب قديمة من ألف ليلة وليلة، وأخرى مستحدثة. استخدام الأجواء الغرائبية، والسرد العجائبيfantastic narration " المرآة" و" ضروب السِّحْر " ومزج الحاضر بالماضي. والتنوُّع في الزمن..

وأخيرا عصفور الشمس الذي يمكن أن يكون نظيرا لطائر الفنيق.
فالرواية على الرغم من السّرد المكثف، جاءت شخصياتها واقعية نابضة بالحياة، و البطولة، والحبّ، ومنها تنبعث عصافير الأمل، والفرح الآتي.(ص100) فهي إذاً من أدب القوة، الذي لا يجنح لليأس، كالذي يشيع في بعض الروايات السائدة اليوم، وإنما هو أدب يرسِّخ إرادة الصمود، والتحدي.

هزائم صغيرة:
ومن هذا الجيل المقلّ حسن حميد الذي صدرت له روايات منها رواية جسر بنات يعقوب التي اختيرت بين الروايات العربية المهمة في القرن العشرين. ومحمود الريماوي صاحب المجموعات القصصية السبع(2002) وإبراهيم زعرور مؤلف رواية ذئب الماء الأبيض التي يتساءل المؤلف عن أسباب تأخر صدورها على الرغم مما فيها من صوفية مبسطة، وتركيز على معاناة الفلاحين. وجمال قواسمي الذي يعد من كتاب الجيل الجديد ، مؤلف المجموعة القصصية هزائم صغيرة.فهو قاصٌّ يمتلك جرأة كبيرة في استخدام الصورة ، وتوظيف الدارجة بلا افتعال ولا تكلف، متنقلا من مشهد لآخر، ملقيا الضوء على نفسية الشخصية، مانحاً القصة – لهذا السبب – نكهة محلية، تجمع بين الواقعية، والحيوية، والصدق.(156) ومن الجيل الجديد أيضا الكاتب فايز الرشيد، مؤلف المجموعة القصصية" وداعاً أيها الليلك ". وأحمد رفيق عوض، مؤلف رواية بلاد البحر (2007) وصاحب الأعمال الروائية: العذراء والقرية، وقدْرون، ومقامات العشاق والدراويش، وآخر القرن، والقرمطي، وعكا والمملوك.

ويطول بنا الحديث إذا نحن تناولنا فصول هذا الكتاب فصلا تلو آخر . ومقالة بعد أخرى. فهو كتاب يقع في نحو 400 صفحة، وله في السير، والمذكرات ما يدور حول أنيس صايغ وحنا أبو حنا ونجاتي صدقي وحسين البرغوثي وإحسان عباس وجبرا إبراهيم جبرا. وله في تناول الشعر وقفات نافذة البصيرة إزاء شعر على فودة، وفواز عيد، ومحمد إبراهيم لافي، وفدوى طوقان، ومعين بسيسو ،وخالد أبو خالد ، وعزالدين المناصرة وديوانه أنا لا أثق بطائر الوقواق. وآخرين لا يسمح ضيق المساحة المخصصة لهذه العجالة بذكر أسمائهم، وذكر عناوين مجموعاتهم الشعرية.

صفوة القول أن كتاب رشاد أبو شاور" قراءات في الأدب الفلسطيني" كتابٌ يلقي الضوءَ على فرع من الفروع التي تغذي الأدب العربي، وتصب في مجراه، وترفده بالجم الغزير من العطاء الذي يحافظ على جذوة الإبداع، وروح الصمود، والقوة، مؤكداً أن الكتابة ليست تسلية ولا ترفاً، وإنما هي قضيةٌ قبل كل شيء.وهو كتابٌ فيه من النقد شيء، ومن التاريخ الأدبي شيء، ومن الانطباع والتذوق شيء ، ومن الشهادة والخبرة أشياءُ أخرى، وذلك بعض ما يطمئن إليه القارئ في هذا الكتاب، ويأنس.

التعليقات