كتاب الأندلس العربية: إسلام الحضارة وثقافـة التسامح : بذرة حضارة إنسانية مشعة ومسالمة/إبراهيم الحجري*

-

كتاب الأندلس العربية: إسلام الحضارة وثقافـة التسامح : بذرة حضارة إنسانية مشعة ومسالمة/إبراهيم الحجري*
بعد سقوط الأندلس ونكوص آخر راية للحكم الاسلامي هـناك، وغـروب شمس الملك بها ظلت لغة وحيدة تسود سماء المسلمين مدة طويلة من الزمن، وهي لغة الفقد والحزن والبكاء والحنين والندب، والتي ولدت ما سيصطــلح عليه فيما بعد بـ "عقدة الأندلس"، وكانت لغة الفقد هذه لا تفرق بين السقـوط السياسي والغروب الثقافي والحضاري والديني، فكثيرا ما كانت تخلط بين هذه الأمور، وغالبا ما كانت التصورات تعـمم هذا النكوص على كل المجالات، وتسقـط الفشل في السياسة على ما دونه، والواقع أنه اذا كان المسلمون قد ودعوا منابر الحكم بالأندلس، وتراجعوا القهقرى نتيجة ظروف ذاتية وموضوعية كثيرة، فان الحضارة الاسلامية لم تغرب أبدا شمسها ولم يخب لها شعاع، بل على العكس من ذلك، ازداد نورها توهجا واقتحمت، بفعل ما أرساه علماء الأندلس الاسلامية وأعلامها من ثقافة وفن وفكر وتاريخ وبصمات لا يمحوها السهو، دول الشمال الأوروبي، وانتقلت في ما بعد الي أمريكا والغرب، وظلت كذلك دون أن يأفل لها نجم، وقد كان للعمل الذي قام به الفونسـو العاشر، الذي أسس مدرسة طليطلة للترجمة، دورا فعالا في نقل معالم الحضارة الاسلامية الأندلسية الي ما دونها من دول الغرب، اذ أصبحت هذه البؤرة الثقافية منبعا للاغتراف من بحر العلوم الاسلامية والآداب والفكر والفن الأندلسيين، وكان لهذه المعلمة الفضل الأجل في مد باقي أوروبا والعالم باشعاع الحضارة الأندلسية التي لن تموت، ومنها انشق ضوء السراج الاسلامي الوهاج الى كل بقاع المعمورة شمالا وغربا. الا أن التكالبات الايديولوجية والجشع المادي وتراجع الصوت العربي عن الجهر بحقيقة الاسلام وجوهر قيمه النبيلة والسمحة، أفرزت وضعا مسموما، ظل، عبر قرون، ينفث الغل والكراهية في القلوب، مشوها أصل الأديان، ومضللا الفكر الانساني، وعابثا بصورة الدين الاسلامي، وصارفا الفكر الانساني عن معانقة النور الأسمى لحضارة الاسلام التي جسدتها الأندلس البهية، وقد نجح هذا الفكر المعادي للانسانية، الى حد ما، في جر العالم، أكثر من مرة، نحو تطاحنات حربية أو عرقية تعصبية، كادت تعصف بالعالم بأسره، وترد الحضارة الانسانية الى نقطة الصفر، وهذه التيارات الكارهة للسلام الانساني، الذي دعت اليه كل الأديان السماوية ورسخه الاسلام في أبهى حلله، هي نفسها التي أودت بالعالم المعاصر الي جو التشاحن والدمار والعنف والتطرف والتوتر، وهي نفسها ظلت تجهض كل المبادرات التي تروم اعادة البريق الانساني الى العلاقات الآدمية.

في هذا السياق يأتي كتاب ماريا روزا مينوكال الموسوم بـ توشيح العالم The Ornament of The World والذي ترجم تحت وسم آخر الأندلس: اسلام الحضارة وثقافة التسامح ، من طرف الأستاذين عبد المجيد جحفة ومصطفي جباري الى العربية، ونشر عن دار توبقال للنشر، في حلة أنيقة، مصدرا بلوحة فوتوغرافية جميلة تجسد أحد أبرز المعالم الحضارية التي تشهد على روعة الفن المعماري الاسلامي بالأندلس، وهو قصر الحمراء.

ولقد قدم المترجمان، لهذا الاصدار الهام، بمقدمة يلقيان، من خلالها، الضوء على القضايا التي تناولتها الباحثة ماريا روزا، مبرزيْن خصوصية تناولها للتاريخ الاسلامي بالأندلس، والتي تميزه عن التناولات السابقة، تقـليدية كانت أو معاصرة، معتبرين أن التصور الذي يحمله الكتاب، يعد بحق، اعادة لقراءة التاريخ الثقافي والأدبي في الأندلس، بل انه ـ في نظرهما ـ يمثل عملا تركيبيا للحضارة لأندلسية(2)، مؤكدين أن هذا العمل يبرز الدور الذي لعبته الترجمة في نقل المعارف الى الآخر وتفعيل عملية التثاقف والتحاور والتفاعل بين الحضارات والشعوب.

وأكثر من ذلك الوساطة التي تحملتها في تشكيل صورة الحضارات والثقافات والأديان لدى الآخر، ولعل قيمة الكتاب هذا، تكمن في محاولة تقديم نماذج من الحوار والتسامح بين الأديان الثلاثة التي تعايشت في الأندلس، وفي التساكن الذي غلب على تجاوز القيم الثقافية المتنافرة والمنتفية لشعوب وجماعات اثنية متباينة(3).

وبعد مقدمة لعملها، قسمت ماريا روزا الكتاب الى فصلين أو قسمين، عنونت الأول بـ بضع كلمات عن مكان استثنائي ، وتناولت في القسم الثاني مجموعة من المحاور الفرعية، تقدر بثمانية عشر مقالا، وأنهت عملها بخاتمة وكلمة شكر ثم ذيلت الكتابة ببيبليوغرافيا شاملة للمراجع والمصادر المعتمدة في هذا البحث.

في البدء؛ تتناول الباحثة في هذه التوطئة الاطار العام الذي يندرج فيه بحثها عن تاريخ الأندلس العربية، فتاريخ الأندلس الحقيقي ـ في نظرها ـ ينطلق من الأحداث الدامية التي عرفها الشرق حيث نكل بنو العباس ببني أمية وأفنوا سلالتهم، بعدما استولوا على الحكم ونقلوا مقر الخلافة من دمشق الى بغداد، في خضم هذه الوقائع الرهيبة، ينفلت شاب مراهق اسمه عبد الرحمن من المقصلة العباسية، فارا بجلده صوب شمال الصحراء في افريقيا باحثا عن ملجأ يقيه بطش أيدي بني العباس وانتقامهم.

وتوضح الباحثة السياق التاريخي والسياسي الذي هيأ لعبد الرحمن الظروف لتشكيل امارته التي ستكون نموذجا لا مثيل له، اذ اضافة الى كون عبد الرحمن يشكل رمزا للخلافة الأموية المطاح بها، فهو أيضا من سلالة البرابرة الذين يهزهم الحماس لمعانقة مجد الخلافة بالأندلس، ولان الدولة الأموية كانت قد انقرضت سياسيا في الشرق، فانه سيكتب لها ميلاد جديد بالغرب في وقت كانت أوروبا تعيش فيه مرحلة ظلام دامس. ودخول عبد الرحمن الى الأندلس كان حدثا حاسما لأنه سيضع أسس أوروبا على مستوى تدعيم التعايش بين المتناقضات، والحرص على نشر الحوار والسلام والتسامح بين اليهود والمسيحيين والمسلمين، وبالتالي زرع ثقافة الحريات الدينية أو حرية المعتقد، واستثمار هذا التعدد بشكل منتج وايجابيى وقد حفز هذا الطرح السامي اليهود على التعرب، ثم اكتشاف العبرية واعادة ابتكارها، فلم تعد العقيدة عائقا أمام اقتحام مجالات العلم التي لا تقبل الحدود.

لقد كان الأندلسيون واعين، ومدركين لأهمية ذلك النموذج المثالي من التسامح؛ عارفين بما يمنحه التعدد والتنوع من ثراء ونتائج، هذا النموذج أثر على أوروبا سواء أثناء الحكم الاسلامي للأندلس أو بعده. وامتد هذا التأثير خارج نطاق اسبانيا: جوهرة العالم اللامعة، وقد كان هذا الاسم دليلا على مسماه، فاسبانيا الأندلس آنذاك كانت تعتز بكونها سراج أوروبا الظلام الذي ينثر عليها أشعة الثقافة السامية، وكان البريق الذي يوزعه هذا العالم الأندلسي على باقي الكون يجعل تنوع الديانات متعاليا.

ان ماريا روزا مينوكال، وهي تداعب تاريخ اسبانيا الوسيطية يحركها منطقان:
1 ـ الهوة الفاصلة بين التاريخ المقبول وما تدعو حواشيه من الأحكام المسبقة.
2 ـ ما ينبغي أن نتعلمه من الاشارات والشهادات التي تؤكدها الخطابات الشعبية غير الرسمية كالأغاني والنباتات.

وفي الأخير، ختمت ماريا كتابها بشكر خاص الى كل الذين حرضوا فيها رغبة انجاز هذا المؤلف، والى كل الذين مهدوا لها سبل طبعه وتنقيح أفكاره وايجاد مادته.

نخلص الى القول ان ماريا روزا في كتابها هذا قد أنصفت الثقافة العربية الاسلامية، وأقرت بفعلها الكبير في الاشعاع الذي عرفته الحضارة الانسانية في أوروبا والعالم بأسره، متجسدة في الحكم الاسلامي بالأندلس على عهد الأمويين وما أفشاه من ثقافة الحوار والتسامح، وان كنا نلمس نوعا من التحامل على الشمال الافريقي الاسلامي، الذي لعب دورا حاسما في ايصال الاسلام الي الأندلس وتمديد عمر الحكم الاسلامي بها لقرون من الزمن، كما نلمس أيضا التعتيم الذي يمارسه المستعربون بخصوص تشويه بعض الحقائق المتعلقة بالاسلام، ونجد عبر هذا الكتاب بعض الجهل بأمور تاريخية كثيرة وبعض الاضطراب والتناقض في العديد من المواقف.



1 ـ ماريا روزا مينوكال: الأندلس العربية: اسلام الحضارة وثقافة التسامح ترجمة عبد المجيد جحفة ومصطفي جباري، دار توبقال، سلسلة معالم، الطبعة الأولي، 2006م.
2 ـ الأندلس العربية: ص 7 (مقدمة المترجمين).
3 ـ نفسه ص 6.

* كاتب من المغرب
عن "القدس العربي"

التعليقات