كتاب جديد - "أزمة الحضارة العربية في أدب عبد الرحمن منيف"(*)

كتاب جديد -
يعتبر الاديب الراحل عبد الرحمن منيف واحداً من أبرز أعلام الرواية العربية المعاصرة الذين تمسكوا بقيم الحرية والعدالة في الحياة المعاصرة، ونقلوا الرواية إلى أفق جديد ومتحرر، رغم توترات السياسة وعنفها، حيث فتح عبد الرحمن منيف الرواية العربية على مناخات وفضاءات جديدة، شملت الصحراء والمدن والمنافي والبحث المضني عن الذات والهوية، حتى غدت رواياته وأعماله علامة أساسية في الأدب العربي خلال القرن العشرين، وربما ستظل علامة بارزة في القرن الحادي والعشرين كذلك.
وتقوم مأثرة عبد الرحمن منيف في أنه نقل الرواية العربية إلى أفق جديد، امتدت عوالمه النصية إلى تمثيل مختلف قضايا الإنسان المقموع في شرق المتوسط وجنوبه، لينفتح نصه الروائي على الدنيا، بما فيها من بشر ومحيط وبيئة مكتنفة، فكتب عن الصحراء وعن والمدن السائبة والمسبيّة، وعن السجون والمعتقلات، وعن المنفى وأوجاعه، وعن الذات وأقلمات الهوية، فاتحاً الرواية على مساحات جديدة، متحررة من سطوة الرواد، ومن الأبوة المزعومة.

نشأ عبد الرحمن منيف في عمان، من أب سعودي وأم عراقية، دون أن يتملكه الشعور بأنه أردني، ثم عاش فترة من شبابه في بغداد التي طرد منها في عام 1955 فتابع دراسته في جامعة القاهرة، ومنها انتقل إلى جامعة بلغراد حيث حصل في عام 1961 على درجة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية وفي اختصاص اقتصاديات النفط وعمل بعدها في مجال النفط بسوريا في عام 1973 ثم انتقل ليقيم في بيروت حيث عمل في الصحافة اللبنانية،وبدأ الكتابة الروائية بعمله الشهير «الأشجار واغتيال مرزوق»، وعاد إلى العراق وتولى تحرير مجلة «النفط والتنمية» حتى عام 1981 الذي غادر فيه العراق إلى فرنسا حيث تفرغ للكتابة الروائية. وفي عام 1986 عاد منيف مرة أخرى إلى دمشق حيث أقام فيها حتى وفاته.

وتنفتح روايات عبد الرحمن منيف على عالم قائم، يتجسد في بنية ما، لها مقوماتها وتمثيلاتها ويمكن للباحث الاجتماعي دراسة أحوال العيش كالطعام والشراب واللباس في العالم الروائي وقراءة مختلف تفاصيل هذا المجتمع من خلال الوقوف على تاريخية النص الأدبي أو مقابلته بالتاريخ خصوصاً وأن روايات عبد الرحمن منيف تنهل من التاريخ وتبني تاريخها الخاص.
وقد روى عبد الرحمن منيف «التاريخ» في نصوصه الروائية العديدة واستطاع أن يبني فضاء تتحرك فيه الأزمة التي تعصف ببلدان شرق المتوسط وجنوبه. وفي هذا السياق يأتي كتاب صالح إبراهيم «أزمة الحضارة العربية في أدب عبد الرحمن منيف» «المركز الثقافي العربي، بيروت، 2004» ليكشف عن الجوانب المتعددة التي اعتمدها عبد الرحمن منيف في أعماله الروائية، والتي جسدت أزمة الحضارة العربية.
وصالح إبراهيم مؤلف هذا الكتاب هو باحث لبناني سبق وأن أصدر كتاب «المكان ولغة السرد في أدب عبد الرحمن منيف» واتبع فيه ذات المنهج الاجتماعي لمعالجة النصوص الروائية التي يقتضيها متن الدراسة والذي أعانه على اكتشاف ما تتحدث عنه النصوص.

إن إتباع المنهج الاجتماعي لدراسة فضاء الأزمة الحضارية التي جسدتها روايات عبد الرحمن منيف، يعود إلى نقطة انطلاق تفيد بأن دراسة «الحضارة» يجب أن تبدأ أولاً بدراسة وعائها الزماني والمكاني، حيث يأخذ هذا الوعاء أهمية مضاعفة حين يطرق باب الحضارة في الرواية، من جهة كونه عاملاً مهماً من عواملها، وفضاء تتحرك الأزمة فيه.
وحين تتخذ روايات عبد الرحمن منيف متن الدراسة، خصوصاً مدن الملح وأرض السواد وشرق المتوسط وسباق المسافات الطويلة والأشجار واغتيال مرزوق والنهايات وقصة حب مجوسية، فإن الارتكاز عليها يتم لجهة دراسة مقومات الأزمة الحضارية بدءاً بالأزمة الاجتماعية المتجسدة في بنية المجتمع وشؤون المرأة والدين ومروراً بالأزمة السياسية والإدارية من خلال استعراض نظام الكم والمؤسسات الإدارية ووصولاً إلى الأزمة الاقتصادية وعلاقاتها بالنفط وتجلياتها المالية والتجارية وانتهاء بالأزمة الفكرية والثقافية من خلال تناول قضايا الاستشراق والتفاعل الحضاري والعلم والدب والفن.

وتبرز الأزمة الاجتماعية في روايات عبد الرحمن منيف بواسطة تركيزه على ظواهر اجتماعية وأنماط محددة من العلاقات المتشابكة بين مختلف الفئات الاجتماعية، وتظهر حدتها في القمع والاستبداد ووضع المرأة واتساع الهوة ما بين الأغنياء والفقراء، حيث يعيش الفقراء في أسوأ الأوضاع، وهم في حالة ثبات كلي، إذ «في هذه الدنيا كل شيء يتغير إلا الفقر والفقراء.
الفقر يبقى والفقراء يزدادون»، الأمر الذي يفضي إلى أن الحراك الاجتماعي هو حراك هابط. في المقابل تظهر أعماله ازدياد سطوة ونفوذ الأغنياء إلى درجة سيطرتهم الكاملة على الثروات ومراكز القرار، وازدياد تسلطهم واستقوائهم على الفقراء. كذلك فإن أحوال العيش تعبر عن خلل واضح في الانتماء، وفي وعي الذات الجماعية، إضافة إلى إشكالية معنى التواصل والاستمرارية ما بين الأمس واليوم والغد.

في كل ذلك انحاز عبد الرحمن منيف إلى جانب المستضعفين، فحكى عن جرح المرأة المقيم في البلاد العربية، وعن مدى الظلم الواقع عليها، فاضحاً عقم وقسوة التقاليد الاجتماعية التي يؤطرها، وتحد من انطلاقها وقدراتها. فهي كائن لم يرحمها المجتمع، حطمها أحياناً وحطمته، همشها فخسر ما يمكن أن تقدمه المرأة وتعطيه، وهو لم يعترف بقيمة لها إلا جسدها، فشحنت جسدها بكل طاقاتها واستوت على عرشه أميرة الإغواء أو الدعارة.

وتصور روايات منيف المرأة وهي محبوسة في القصور التي عمدت إلى هزّ أركانها، من خلال المؤامرات التي تحيكها، والاحتيال الذي تمارسه، وهي وإن حسبت متاعاً، إلا أنها تسللت إلى صناعة القرار من «نوافذ» الليل.
كذلك، لا يبتعد الدين في روايات منيف من الأزمة العامة البنيوية التي يعاني منها المجتمع، فهو يسهم بصورة فعالة في بلورتها، وفي حثّ الناس على تقبل بعض جوانبها الاجتماعية والسياسية، وبذلك لم يرفض منيف الدين، بوصفه إيماناً مقدساً، بل وجه سهام نقده إلى الممارسات السلبية الملحقة بالدين، والمعتقدات التي تقترب من الخرافة، ومن هذه الزاوية يكمل الدين الأزمة الاجتماعية.

ومن طرف الأزمة السياسية والإدارية، لم يحصر منيف هذه الأزمة في مؤسسات الدولة، بل في مجمل المراحل التي شهدت تشكل الدولة، فقد صنعتها «دولة» الصحراء عبر حقبات تحولها، فأنتجت عقماً وقمعاً وتسلطاً، إلى جانب الارتهان بالأجنبي، ودلت عليها جملة الهزائم الداخلية والخارجية.

وتبعاً لهذه الوقائع يعتبر المؤلف أن منيف لا يؤمن بأن النهضة العربية قد بدأت بالفعل في تلك المراحل، لذلك نجده يعيد طرح الأسئلة من جديد. وتفاقمت الأزمة حيث بلغت مستويات معقدة مع مراكز القوى الداخلية ومع شبكة العلاقات الدولية، إذ تنافرت مراكز القوى وتضاربت مصالحها، في حين بقيت العلاقات الدولية غير متكافئة، مع محاولات سيطرة الدول الغربية على الدول العربية، فلم تقم علاقات تعاون أو تحالف، بل علاقات تسلط ورضوخ، أتاحت للغرب أن يعمق نفوذه، وأن ينهب ويصادر القرار.
وتجسدت الأزمة في طبيعة السلطة ونظام الحكم، فالسلطة غالباً استبدادية، ولم تبذل أي جهد من أجل التنمية، بل كان همها الحفاظ على مواقعها ومصالحها الخاصة.

وتأتي الأزمة الاقتصادية لتكمّل الأزمة الحضارية العامة، حيث كشفت عن أن الصحراء تعودت على أن تكون سوقاً لاستهلاك ما ينتج في البلدان الغربية، فهي لا «تنتج» غير النفط، وتستورد بالمقابل ما يمكن لحاجة أو لغير حاجة، إضافة إلى أنها خضعت لمضاربات السماسرة والمتنفذين من رجال السلطة والتجار، فكثرت السرقات واستفحل النهب المتواصل للمال العام،واعتادت «الصحراء» في خماسية مدن الملح على البذخ والإنفاق في كل المجالات الاستهلاكية، ولم يفكر أحد في مرحلة ما بعد النفط،في حين اكتملت الأزمة الاقتصادية عندما دمرت قطاعات «الإنتاج» قبل اكتشاف النفط، من غير بناء قطاعات بديلة.
إن الجديد الذي قدمه منيف في هذا المجال، قدمه روائياً، من خلال معالجة انعكاساته فنياً على الغالبية العظمى المنسية من الناس، حيث حكى عن السجون والمعتقلات، وعن الفقر والفقراء، وأرّخ لمن أهملتهم كتب التاريخ، وأعاد الحياة لأسئلة مصيرية كدنا نحسبها بسيطة لكثرة ما كررناها في خطابنا النهضوي.

واستطاع عبد الرحمن منيف، عبر فهمه التكاملي للرواية، أن يُحكم العلاقة بين مختلف أركان العمل الروائي، فأبدع شكلاً ملائماً للأزمات التي عالجها، وفي ذات الوقت تمكن من تقديم إدانة واضحة للزمن العربي، عبر التشكيل الفني للزمن، زمن السجون والهزائم والمنافي، ورصد اللحظات الحرجة والمربكة، وتعامل مع المراحل البليدة العصية على التحول. وهو في الحالتين كان يرصد الأزمة، ويبحث عن إيجاد المعادل الفني لها روائياً.

إنه الروائي الذي يعطف المعرفة النقدية على المجتمع والمستقبل، ويتعامل مع اليومي والمعيشي والتاريخي والمجتمعي، مشتقاً أسئلته من حقوق البشر في حياة كريمة وحرّة. وبذلك برهن على أن الأفكار تأتي من الواقع العياني المشخص لا من أذهان من يرسمها في رأسه، وتذهب حيثما شاءت، بلا مسبقات، ومن غير وكلاء عن الحقيقة أو عن البشر.


(عرض: عمر كوش، جريدة "البيان"- الامارات العربية)

_____________________________________________
(*) الكتاب: أزمة الحضارة العربية في أدب عبد الرحمن منيف
الناشر: المركز الثقافي العربي ـ بيروت،الدار البيضاء2004.
الصفحات: 365 صفحة من القطع الكبير

التعليقات