كتاب لعزمى بشارة لا يستند إلى الكلاشيهات/ محمد صلاح غازي

-

كتاب لعزمى بشارة لا يستند إلى الكلاشيهات/ محمد صلاح غازي
كتاب من يهودية الدولة حتى شارون الصادر عن دار الشروق هو مساهمة بحثية ونقدية واعية فى تحليل إشكاليات وتناقضات نظام الحكم فى نقاط تقاطع السياسة مع الاقتصاد والأيديولوجية السائدة فى حالة خاصة هى إسرائيل ومؤلفه د.عزمى بشارة، العضو العربى فى الكنيست الإسرائيلى يتناول بعمق إشكاليات الديمقراطية اليهودية المحتدمة فى إسرائيل وتتقاطع مع ثلاثة صراعات أساسية دائمة الحضور فى هذه المواجهة :- الأول هو الصراع حول العلاقة بين الدين والدولة، والثانى هو الصراع على تضييق الحريات أو توسيعها ومدى خضوعها للمسألة الوطنية وقضايا الأمن التى قد تتخذ شكل سياسات احتلال قمعية حينا آخر، والصراع الثالث هو الصراع بين مساواة المواطنين ويهودية الدولة. وقد ازداد احتدام الصراع الأخير فيما يتعلق بالمواطنين العرب ما بين البرلمان والمحكمة العليا فى العقدين الماضيين. ويكشف الدكتور عزمى بشارة عن التناقضات البنيوية فى الديمقراطية اليهودية كحالة جمهورانية تجمعها قيم استيطانية جمعية من نوع تقديس الأمن والخدمة العسكرية و القيم العسكرية وسهولة نشر الشعور بالتهديد والاقتصاد الاستيطانى الاشتراكى الطابع، والخضوع لمصلحة المجموع الى درجة فرض الرقابة الذاتية، وصعوبة الخروج على الإجماع.. وجميعها عناصر معيقة للديمقراطية.

ومن الإشكاليات الرئيسية فى الديمقراطية الإسرائيلية، هى أشكال المواطنة ويهودية الدولة. وهو ينقسم إلى إشكاليتين :- الأولى أن يهودية الدولة تستند إلى عدم الفصل بين الدين والقومية، وتقود بالتالى إلى عدم الفصل بين الدين والدولة. والثانية أن الدولة ليست يهودية فقط بحكم الأغلبية اليهودية فيها، بل أيضا بحكم كونها دولة اليهود. أى أن إسرائيل بحكم رؤيتها وتعريفها لذاتها ليست إلا دولة جزء كبير من مواطنيها، وهى فى الوقت ذاته دولة كثيرين ليسوا مواطنين فيها..وتعنى هذه ال بعد أن الدولة ترى لذاتها مهمة أيديولوجية فى إقناع هؤلاء أن لهم دولة غير الدولة التى يعيشون فيها عليهم أن يبادلوها الولاء والانتماء وان ينتقلوا إليها.

الإشكالية الأولى هى إشكالية عدم تمكن الدولة من تحقيق المساواة.

أما الإشكالية الثانية فهى إشكالية المواطنة المؤدلجة، المواطنة الصهيونية، ويفترض أن المواطنة فى الديمقراطية الليبرالية محيدة أيديولوجيا ويحاول المنظرون المحافظون الجدد فى إسرائيل، ومنهم من كان يتمسك بمواقف ليبرالية فيما يتعلق بحقوق الفرد، ومنهم من كان فى الماضى يساريا، أن يضفى طابعا عاديا على حالة العلاقة بين اليهودية والديمقراطية،مؤكدا أن هذه حالة طبيعية بين اليهودية والديمقراطية ، مؤكدا أن هذه حالة طبيعية لـ دولة قومية . وقد برزت هذه الأقلام بشكل خاص لدى مناقشة مسألة دولة المواطنين، أو الدولة لجميع مواطنيها ، واستثنائية العلاقة بين الدين والدولة فى إسرائيل.

ومن ثم فإن الدكتور عزمى بشارة قد عالج فى فصلين متتابعين من هذا الكتاب تناقضا بنيويا أساسيا واحدا من تناقضات الديمقراطية اليهودية وهو علاقة يهودية الدولة بديمقراطيتها وأصول هذا التناقض الفكرية، بما فى ذلك مسألة العلاقة بين التطرف السياسى والغيبية الدينية.

ويناقش الباب الثانى من الكتاب النزعة الأمنية ومركب الأمن فى المجتمع والدولة. أن سحر كلمة الأمن فى إسرائيل، هو سحر عصى على القياس بالأرقام. فكلمة الأمن تبرر كل ما يمكن تبريره بالقانون الطبيعى الذى يفترض أن يبرر القوانين والأحكام و الأنظمة كمرجعية أخيرة، ولكن إذا ذكرت عبارات مثل الدواعى الأمنية، حاجات أمنية فإن هذا كفيل باختزال الكثير مما يفترض أن يقال ويثبت ويبرهن حتى أمام المحكمة العليا.

ومن الإشكاليات ذات الأهمية، التى طرحها الدكتور عزمى بشارة، هى جدلية العولمة إسرائيليا ، فلم تكن الثقافة السياسية فى إسرائيل فى يوم من الأيام معادية للعولمة أو مستنكرة لها،كما هو الحال فى الوطن العربي، بل هو العولمة سلبا أو يجابا، أو تأييدا، الابتسام فى إسرائيل المنشغلة بتأسيس موقعها الاقتصادى ضمن هذه العملية الجارية بتوتر مستمر، مع صورة وتطور الثقافة السياسية السائدة فى المراكز الصناعية المتطورة.

تقدم إسرائيل المثال الأكثر تطرفا على أن عملية العولمة لا تؤدى بالضرورة إلى زوال الحدود القومية، بل تؤدى إلى ردة فعل للحفاظ عليها والى محاولة تثبيت الحدود القومية كحدود ثقافية عن طريق تعميق البعد الأثنى الباحث من الأصل الدينى فى الحالة الإسرائيلية المشترك للجماعة القومية كجماعة عضوية متخيلة، وذلك كبديل لبعد السيادة و الدولة كعامل أساسى فى تشكيل الهوية والقومية الحديثة.

حاولت القيادة الصهيونية التاريخية العلمانية استخدام مفهومى الدولة والسيادة فى عملية إعادة خلق الهوية اليهودية كهوية قومية تنضم إلى الأمم الأوروبية الحديثة، بهذا المعنى فهمت الصهيونية التاريخية ذاتها كعملية نفى يهودية الشتات كجماعة دينية مقدسة تعيش على هامش القوميات الناشئة فى أوروبا. ولكن الصهيونية العلمانية التى انطلقت من الحاجة إلى تأسيس قومية يهودية حديثة وليس من وجودة مثل هذه القومية كما يعتقد بعضهم خطأ، لم تستطع فى ذروة علمانيتها التخلص من التطابق التام بين الانتماء الدينى و الانتماء القومى للأمة التى يراد تأسيسها بإقامة الدولة. وقد تجلى ذلك منذ البداية بأن كان نفى الشتات صهيونيا عودة إلى رموز ما قبل الشتات فى مملكة يهودا و أرض إسرائيل التوراتية فى عملية علمنة لأساطيرها ورموزها.

ولم تؤثر العولمة التى أرتبط بها المجتمع الإسرائيلى فى عملية إعادة إنتاجه لذاته وبخاصة بعد العام 1967م فلهذه البنية الأساسية للعلاقة دولة - أمة، بل وطدت.

وعلى الرغم من أن إسرائيل تعتبر محطة الإنترنت الثانية حجما بعد الولايات المتحدة فى العالم، فإن هذه الحقيقة لم تغير من طبيعة يهودية الدولة و المجتمع. وكما اجتازت العولمة حدود الدولة القومية مبرزة موضوع الهويات المحلية و الثقافية فى دول أوروبا و الولايات المتحدة، كذلك أكتشف اليهودية ذاتها فى هذه الأقطار، وبدأت تبحث عن تحديد لهوية يهودية تتجاوز الالتزام بطقوس الديانة اليهودية فى الأحوال الشخصية،وبخاصة أن اليهودية فى هذه البلدان العلمانية غير ملتزمين بهذه الطقوس. هنا يعاد اكتشاف إسرائيل عالميا كمحور لهذه الهوية اليهودية المعولمة، وتتم صهينة الهوية اليهودية فى الغرب وفى الولايات المتحدة بشكل خاص بمعنى التضامن والتماثل مع إسرائيل، حاجة تحتمها الهوية الثقافية فى دولة ديمقراطية ليبرالية تحتمل التعددية الثقافية الى جانب المواطنة المشتركة.

لقد كانت الصهيونية منذ البداية حركة أوروبية تجتاز الحدود القومية فى أوروبا نحو هوية قومية معولمة، ولكن انتصارها كحركة بين الجماعات اليهودية المنظمة فى العالم تم بعد أن اكتسحت عملية العولمة الجارية الحدود القومية عبر وسائل الاتصال و الشركات العابرة للقارات، وبعد أن تم تفتيت الثقافة القومية إلى تعددية ثقافية تندرج ضمنها اليهودية أيضا. من ناحية أخرى وفى إسرائيل نفسها، فإن النهج السياسى نفسه الذى بنى الاقتصاد و المجتمع والدولة فى إسرائيل على أسس حديثة، أدى بسياسته التوسعية وفى بحثه عن أيديولوجيا تبريرية لها إلى التطابق بين ارض إسرائيل وبين دولة إسرائيل الدنيوية المحتلة.

يقف الدكتور عزمى بشارة خلال الفصل الرابع على طبيعة تحولات السياسة الإسرائيلية المعاصرة بناء على ما سبق طرحه فى الفصول الأولى من الكتاب. تلك التحولات التى طرأت على معالم الخارطة السياسية الإسرائيلية الجديدة التى توطدت منذ العام 1977م الى تثبيت نشوء معسكرين، يمين ويسار ، حول الليكود و العمل، أى نحن إزاء نظام المعسكرين و ليس نظام الحزبين. وتدور فى فلك كل حزب منهما مجموعة أحزاب صغيرة ومتوسطة أكثر أيديولوجية منه تشد به الى اليمين و الى اليسار.

ويرى الدكتور عزمى بشارة، أن يهودية الدولة هى ليست مجرد صفة أو مفارقة أو وعاء للتوتر أو الاسترخاء الأمني، بل أيديولوجية سائدة تمنع فصل الدين عن الدولة وتدفع للتأكيد على الهوية اليهودية، وعلى الانتماء، أى على العضوية فى الجماعة كأوراق ثبوتية فى الملكية على الدولة.

بهذا المعنى لا يوجد أساس حقيقى للمواطنة الفردية القائمة على حقوق وواجبات منفصلة، وإنما يسود شعور عام بملكة جماعية على الدولة، والعضوية فى الجماعة هى أسهم ملكية وكراهية العربى فى حالات معينة هى تأكيد الهوية.

ومازال هذا هو الموقف السائد فى الرأى العام الإسرائيلى رغم التحول اليمينى وازدياد شرعية المواقف العنصرية وأشكال التعبير عنها، ومازال هذا الموقف ينطلق من ضرورة الانفصال عن الفلسطينيين باتفاق بين الدولتين، أو من طرف واحد.

وقد أضيفت الى يهودية الدولة كقيمة عليا عدم إمكانية التعايش مع الفلسطينيين الى حد تأييد حتى منح مناطق تشمل قسما من عرب الداخل للدولة الفلسطينية فى إطار اتفاق يؤيد هذا التوجه 52% فى استطلاع للرأى نشرته هآرتس يوم 4 تموز 2001م. وخلال كل استطلاعات الرأى العام الإسرائيلى التى راجعناها طيلة سنة كاملة نجد أغلبية تؤيد قيام دولة فلسطينية، وأغلبية أكبر ترى أنها ستقوم على أية حال فى النهاية.

ويختم الدكتور عزمى بشارة كتابه بقوله لا يجوز رؤية المشاريع السياسية الإسرائيلية بمعزل عن الثقافة السياسية السائدة لها، وهى ثقافة عنصرية لا شك فى ذلك. و المسايرة العربية أو الفلسطينية للمطالب و الشروط الإسرائيلية المصاغة بهذا المنطق لا تفيد العرب و لا الفلسطينيين من المتبرعين بها، بل تشرعن عنصرية لا شرعية لها فى أى دولة متحضرة من الدول التى يرد العرب اثارت إعجابها. هذه العنصرية الإسرائيلية ليست مسألة جانبية، ولا هى ظاهرة مرافقة أو عارض من عوارض المواجهة، بل هى مسألة بنيوية.



(عن "العربي - جريدة الحزب العربي الديمقراطي الناصري)

التعليقات