لدمشق آيات الهوى بقلم : بهيجة مصري إدلبي

إصدار جديد لمنير مزيد

لدمشق آيات الهوى 

بقلم : بهيجة مصري إدلبي
يمكننا الدخول في عوالم قصيدة / دمشق معلقة الحب / للشاعر منير مزيد الذي يتأمل في محراب الكلمة ليفكك أسرارها فإذا بالشعر لديه لحظة اتصال خلف الزمن يحمل آلامه إلى رؤياه فيرى الأشياء كما يراها الأطفال والعرافون .

يُدخله الشعر في الحلم ليعرج إلى مجرات الرؤى الغارقة في بساطة الغياب .

هاجسه الحب والبحث عن كينونة الإنسان في الزمان والمكان ، فترتدي كلماته ببساطتها عباءتها الفلسفية ، وبردتها الصوفية ، لتنسدل الرؤى من مسافاتها عليه وحيا .

وما يميز هذه القصيدة أنها تتحدث عن المكان بكل ما يحمله من حالات حميمة في داخل الشاعر حيث يتحول المكان إلى نشيد لأحلامه أو حيز يعلق عليه قصائده ويبوح بأسراره وآلامه وآماله وخفاياه .

ومن هنا تتشكل دمشق في خيال الشاعر كما تتشكل حبة المطر وقطرة الندى ، إنها بداية الأشياء وسر جمالها ، بل هي لوحة من أسرار التاريخ رسمتها كف الخلود بأساطير ألوانها ودهشة إبداعها .

ولكي يأخذ الوجد أبعاده كان لابد أن يأخذ المكان شكل الحبيبة بكل مفاتنها ، وبالتالي تصبح دمشق حبيبة الشاعر تلك الحبيبة التي من تنهداتها يتنفس عبير الحياة فتتجلى في حاجاته للوجود وحتى في بحثه عن متكئ للخلود :

دمشق

أنا لا أعطش إلا لحبك

لا أجوع إلا في الغرق

في عيونك الغامضة

ولا أتلذذ إلا على جلدك الندي...

أحن لأستنشق عطر أنفاسك

إنها خصوبة في دم الشاعر الذي يستمد من زيت أشجارها لونه الأخضر ، لتأخذ شكل الحياة التي لا تفنى ، وشكل الآية الخضراء في دم الكائنات :

فدمي أخضر من زيت أشجارك

ودائما نرى في القصيدة كما هي الحالة في جميع أشعار الشاعر منير مزيد تلك العلاقات الموحية بين الكلمات لتشكيل الصورة الشعرية فتنهض العلاقات من بساطتها إلى مقام دهشتها ، وتأخذ الكلمات علاقات جديدة ودلالات مختلفة عن حقلها الدلالي .

ولأن الشاعر أراد أن يجعل من دمشق معلقة الحب كان لابد أن يتمثل روح المعلقات فبدأ القصيدة بالتغني بمفاتن دمشق وعشقه لها ، وتوحده بحبها ، ليصل إلى موضوعه الأساس وهو الحديث عن حسها الوطني وبعدها القومي ، لأنها تضيء عتمة الأمة بأصابع من نور

أبتهل لـ شموع أصابعك المضيئة

في عتمة عروبتنا

هذه الجملة أرادها الشاعر تلخيصا لتفاصيل الموقف الوطني الذي سيتسلل من بين عشق الشاعر لمحبوبته فيكشف عن مطلق صورتها تلك الصورة التي تتشكل في الإنسان والعروبة والحياة :

حبيبتي

لمَـلِمي

براعم حياتي المبعثرة في الريح

واعصريها

في قوارير عطرك الشهي ...

بل ليصبح حب دمشق شكلا من أشكال الهوية العربية في الكينونة والوجود

أحبيني بما يكفي

لأكون عربيا

يتغنى بالخيل والسيف والشعر

ويخوض آلافَ المعاركِ

لأجل الحب



لأجل امرأة

سرق خاتم عرسها...

فدمشق ملاذ الشاعر ليحتمي من التلاشي ، ومن التبعثر والضياع ، لأنها إنجيل الحب الأول ، تتفيا تحت سدرة المنتهى ، تعبد الطريق إلى الله بالزنابق والأقحوان ، حيث تحج إليها الملائكة والحوريات ، وتعبر قوافل الأساطير محملة بتوابل المعجزات ، وبهذه الدعوة ينهض الحس الجمالي ، والحس الإنساني عند الشاعر في تصويره لدمشق ، من أجل عالم لا يؤمن إلا بالحب عقيدة خالدة .

وبالتالي يصبح المكان / دمشق / صورة تتجلى في دخل الشاعر كفكرة مقدسة أبدية الوجود:

لأجلك اعتق عنب القصائد

فراولة الأحلام

وشبق البحر

بالسحر وألغاز الروح

في جرار الحب

وأسكبها تحت أقدامِكِ

لتطئي فوقها

نحوعرش اللذة والاشتهاء...

ويؤكد الشاعر على العلاقة الأبدية ، العلاقة التي تتماوج في ذاته وهو يقف أمام دمشق تلك الفاتنة الحالمة الصاعدة إلى أبديتها ، أبدية الكائن في المكان ، والمكان في الكائن ،ليرى وجوده بوجودها ، فبدون حضورها تسعى الأشياء إلى فنائها وموتها وضياعها ، وبحضورها تجد الذات أسرارها وتوحدها .

ومن هنا يتجسد الارتباط بها من خلال أقانيم ثلاثة

المرأة ـــــــ الوطن ــــــــ الإنسان

وهذه الأقانيم تأخذ شكلها المطلق في مطلق المكان ، والزمان وبالتالي في مطلق القصيدة .

الآن، ينبغي للحزن المتورم أن يتحرر

ويصبح أغنية

تستجيب لنداء الحب اللامتناهي

يحدثنا عن المرأة

عن الوطن

وعن الإنسان...

وإذا كان الشاعر ينطلق من المعنى الجمالي للمدينة ، المعنى الذي يخفف غربة الذات ، وعلى العكس من رؤية الشعر المعاصر للمدينة كوجه من وجوه الغربة والضياع ، ذلك لأن الشاعر منير مزيد ينطلق من المساحة الجمالية لمدينة دمشق / بأعتبارها أقنون للحياة ، ومساحة للتأمل في عالم من الصفاء الصوفي لرؤية العالم في الذات والذات في العالم وكأن الشاعر ينطلق من دينة كونية لا اسم لها ، إنها المدينة الحلم في الخيال الجمالي للشاعر وجد تجسيدا له في دمشق .

بهيجة مصري إدلبي

شاعرة وناقدة / سوريا

صدرت دمشق معلقة الحب للشاعر الروماني من أصل فلسطيني منير مزيد بمبادرة مستقلة من موقع الشاعر بمناسبة دمشق عاصمة للثقافة العربية وباللغتين العربية و الانكليزية

******************************

أعماله الشعرية صدرت في مجلد واحد ... وديع سعادة: لا يحمل الشعر إلا وهمه

>سيدني - غسان علم الدين الحياة - 31/08/08//

قدرة النص على الإحالة تتفوق على النص المكتوب نفسه، إذ ان كل نص يتعرض بالنقد لنص ينبغي أن تكون له قدرة توازي النص المقروء. وقد تكون للنص المكتوب هذا علاقة بالنص المقروء وقد لا تكون. قد تكون له علاقة بالشاعر وربما لا. المهم نقطة الانطلاق نحو نص هو في الأصل لا يعترف بنفسه. جرأة الكتابة عن الشعر لها محاذير وشروط وطقوس.
نحن الآن ازاء صدور «الأعمال الشعرية» للشاعر اللبناني المقيم في استراليا وديع سعادة. ولعل الكتابة عنه هو المهاجر أو المغترب تفترض أسلوب «البورتريه» أو شبه السيرة أو ما يتقاطع مع ذلك.
لو كانت العين كاميرا لقال الكاتب الأشبه بالمخرج Stop أكشن، ابتدأ العمل: لتأخذ الكاميرا في شكل دائري طبقي محوري لقطة للبيت عند هبوب الهواء، ثم لقطة أخرى للشمس عند المغيب، الى أن تعمَّ الزرقة المكان، ولد الشاعر في شبطين، احدى قرى «بلاد البترون» في شمال لبنان.
ولربما تفادى وديع عن قصد تسمية ما صدر له أخيراً «الأعمال الشعرية الكاملة» فسماها «الأعمال الشعرية»، وحسناً فعل. فالاكتمال في الشعر لا يحدث حتى ولو انتقل الشاعر الى عالم آخر، حيث في كل يوم، وكلما استذكرت أو قرئت أشعاره تكتب وتؤول من جديد. خصوصاً إزاء شاعر إشكالي، شديد التوتر والشعرية والإحساس مثل وديع. فضلاً عن أنه يفعمنا ويرفدنا كل سنة بكتاب، أو أكثر، من مكان اقامته، أو منفاه الطوعي في أستراليا.
منذ بداية انطلاقة وديع أشار الفتى الى أن ثمة الكثير مما يود قوله ومشاكسته، ونفيه وقبوله والاعتراض عليه، وتهديمه وتذريته وبناءه واقامة عمارته المفتونة المولعة بالهزال والضعف والهشاشة. هنا ليس الإنسان إلا الكائن المجرد المعافى من كل انتساب أو أصول أو جذور، حيث اللامكان، واللابيت، واللامدرسة أو اللامذهب الكتابي الواحد. حيث اللغة النحيلة ولكن الغاوية والمراوِدة والمقتفية أثر كل ضالٍ وشارد ومهمل وملعون.
كانت البداية في مجموعته الأولى «ليس للمساء أخوة» التي استدعت الناقد الشاعر عصام محفوظ للكتابة عنها والثناء على الفتى الذي لم تكن بيروت وحياتها الثقافية المفتوحة على سائر الاتجاهات والتيارات الأدبية الغربية والعربية على السواء قد أحرقته، ولم تأتِ عليه نيران معاركها وفرسانها الكتابية. «ليس للمساء أخوة» قصيدة واحدة خطها وديع بقلمه على ورقة كبيرة، سميكة، ورقَّم مقاطعها، وقام بثنيها ثنيات عدة ووزعها بنفسه على المارة في الشارع، وعلى أبواب الجامعات، بعدما لم يجد ناشراً ينشرها. لا بأس لم يخسر وديع حقاً، بل ربح اسمه الذي لم يلتهمه التاجر الناشر، وخسر الناشر شرف احتضان هذا الشاعر المبتدئ والأخذ بيده، الحالم في ذلك الزمان. تختزل سيرته هذه ومعاناته سيرة غالبية الشعراء ومعاناتهم هم الذين تضيق الأكوان ببروق توتراتهم الشعرية، وتضيق أيضاً صدور غالبية الناشرين وحسابات قوائم منشوراتهم السنوية عن نشر كتاباتهم.
الآن، لم يعد يرفض الناشرون كتاباً لوديع سعادة، ولا يجرؤ أحد على عدم اعتباره واحداً من أبرز شعراء الحداثة (الجيل الثاني) سواء في العالم العربي، أو من لبنان. يتمتع سعادة بحساسية ونبض شعري عاليين، لا يصنفانه على تخوم جحيم الشعر فحسب، بل يجعلانه من موقدي هذه الجحيم بامتياز.
نسأل وديع: «موت الكلمات» الذي هو كلمة الحياة الأولى أو «لثغها الأول» كما تقول، ماذا قصدت به؟ يقول: «الكتابة لم تكن على مدى التاريخ سوى وهم أو سراب لا يوصل الكاتب سوى الى أوهام وسرابات أخرى. وما قيل عن الكتابة انها عزاء للكاتب أو متنفس، أو طريق الى السعادة والحرية لا أظنه قولاً صحيحاً. فأنا لا أرى كتابة أوصلت الى سعادة أو تحرر، ولا كانت هي الدافع الى الثورات التي حدثت في التاريخ. فالذين مشوا في تلك الثورات كان دافعهم متطلبات حياتية وليس كلام كاتب. في معنى ان ثوراتهم لم تكن متأثرة أو مديونة لكاتب ما، بقدر ما كات نتيجة حياة خاصة وان لم يتطرق اليها أي كاتب».

الستينات الماضية
كان الشعر في ستينات القرن المنصرم، زمن انطلاقة شعر وديع سعادة انماطاً وأطراً وأشكالاً لغوية مزوّقة ومنمقة تلبس كل ملابسها في مساحة العمل الواحد.
في الأماسي الريفية كان وديع يكتب ويمزق غير راضٍ عن الأسلوب والطريقة، ينفث دخان سجائره، جالساً على سطيحة البيت القروي تحت الدالية. أغصان اللوز المزروع في الحديقة الصغيرة تمتد اليه مؤنسةً وحشة الشاعر فيه، مهدئة تبرمه وسأمه وضجره. وحشة وديع هي وحشة الشاعر من دون ريب، تجلت في رؤيته الى الخراب الكوني والصراع على إخضاع العالم لسلطة الأقطاب السياسيين والعسكريين. لكن نقمته برزت حين قام بعضهم بإدخال الشعر، هذا الكائن الشفاف العذب، الوحشي، القاسي في آن واحد، في مقصورات قطار الأفكار الثورية والايديولوجيا والسياسة. كان كشف وديع سعادة الأول حين كتب مجرد كلمات منثورة على الأوراق لم يعرف هو نفسه كيف يصنفها. كلمات حرضته على أن العالم يحتاج الى من يلملم نثار زجاجه المكسور. وكان ان ترك وديع وفي شكل نهائي آنذاك قريته شبطين ليدرّس في احدى مدارس بيروت قائلاً: «في هذه القرية حيث تنسى غالباً أقحوانات المساء/ مرتجفة وراء الأبواب/ في هذه القرية التي تستيقظ، وتشرب مطر الشقاء/ انكسرت في يدي زجاجة العالم». في أوائل السبعينات بدأت رئة الوطن تضيق. هاجر وديع الى استراليا راكباً طائرة أحلامه الزرقاء طلباً للعيش الكريم الأوفر حرية وربما للكسب. كان يعمل هناك نهاراً في المصانع وفي الليل تحمله عربات أفكاره التي تفرد غطاءها الأسود على روحه الشفافة البيضاء. لكن هجرته لم تدم طويلاً، فهو سرعان ما عاد الى لبنان لاعناً الاغتراب حينذاك كتب ديوانه الثاني الذي سماه «المياه المياه» كأنه يبشر العالم برؤيته الخرائبية. فالقرى لم تعد هي القرى الوادعة الباحثة عن حقل وبشر ينقون التربة ويقلمون الأشجار ويشتلون الحفافي والأحواش بالورود والفل والحبق والياسمين. لم تعد المدينة مكاناً يُؤمن به ويحضن ويستوعب، يفتح ذراعيه للوافدين من أبنائه. «المياه المياه» حركة انسانية كونية تبحث وتهجس في هم الإنسان ومواطن قلقه واضطرابه واهتزازته المفضية الى خلخلة العلاقات الإنسانية وانتزاعها من جذورها ووضعها في سفينة عائمة على بحر ماء يغلي، في مهب الأعاصير التي تجتاح البيوت والمدارس والأرصفة والحدائق والنائمين الآمنين على أسرتهم، يقول وديع: «كنت بيلساناً عاشقاً في حقل أبي/ كانت قرية في وسط الرذاذ/.../ كل الذين عرفتهم ماتوا/ وكل من أعرفه يموت،.../ متهدل/ عيناي مفقوءتان/ وأرى وأنتظر العالم السفلي في ظل الجدار/.../ المياه المياه/ الجهات موحشة وكثيرة».
أسأل الشاعر: المتلقي الشغوف بقراءة الشعر ألا ترى أنه يدفعك مواصلة الكتابة؟ ويجيب: «لا تعتقد أبداً أن القراء، أو أن البشرية سينقصها أي شيء إذا توقف كاتب عن الكتابة. ولا أظن أن الكاتب يحمل مثل هذه السعادة التي تتحدث عنها الى القراء. فهذا وهم آخر يضيفه الكتاب الى أوهامهم لكي يقتنعوا بأنفسهم، ولكي يستمروا».
ومع أن هذا الكتاب وأعني «المياه المياه» لم يحظ بالقبول المطلوب لدى النقاد آنذاك، إلا أن ذلك أجج الرغبة لدى وديع في التحدي والانغماس أكثر في عالم الشعر والكتابة شاهراً قلماً وباسطاً عينيه على كل ما يصادفه من تشكيلات الحياة. هذه المرة يطل وديع أكثر قدرة على النفاذ الى عمق الأشياء، وأكثر استيعاباً لترديها وخرابها وعدم تسليمها مفاتيح خزائنها الخاوية وجنائنها الوهمية.
هذه المرة أطل وديع أكثر سخرية واستهزاءً واعراضاً وبدا في عنوان كتابه الشعري الثالث كمن يرسم لوحة (بورتريه) لنفسه، إذ عنونه: «رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات». والسخرية في هذا الكتاب ليست سوى الخيبة التي هي خبز الشاعر وماؤه وطين مواده الأولية لتشييد عالمه وعماراته الشبيهة بتراكيب (أوبازلتات) الأطفال، لينطلق بصوت لا يعرف المواربة ولا الاستلطاف: «في هذه الأيام/ أحاول أن أجد لصاً/ يأخذ كل شيء دون أن يوقظني/... لص/ أليس بينكم لص محترم/ يا سادة». أمام هذا الجدار الهائل من الوقت الممانع في القبول والإتيان بالسعد المتوخى للبشرية، وللكتابة نفسها يقول وديع: «أرغب أن يخرج من هذه القصيدة كلب/... أغريه بحرف ناعم، بواو كذنب كلبة تستعد للمضاجعة/ بصور أكثر الكلبات شبقاً في التاريخ/ ... أرغب إذن أن يخرج كلب/ في قصيدة سابقة خرج العالم/ أقنعته بالعودة الى المصح/ وعدني ولم يذهب/ واستعملت كل الكلمات البحرية/ ولم تعلق مرمورة واحدة/ بماذا يفيد الورق/ فليخرج الكلب».
أسأله: «منذ كتابك «مقعد راكب غادر الباص» وما تلاه نلحظ أنك تنحو نحو القصيدة الطويلة، كأنك تضمر ثورة ضد الأشكال والحواجز في الكتابة، وتطل على عالم الرواية من منظور مختلف! يقول: «كانت لدي دائماً رغبة مثل كتّاب آخرين في كسر الحواجز بين الأشكال الأدبية المتعارف عليها كلاسيكياً. فالشعر هو في ذاته وفي مضمونه رواية وفلسفة ونص وقصة وسينما ومسرح وموسيقى، الى ما هنالك من أساليب تعبير مختلفة. فأنا أرى أن الشاعر حين يحاصر نفسه في أسلوب واحد من هذه الأساليب يكون يمارس نقضاً للشعر نفسه، الذي هو فسحة حرية لا يحدها أي مفهوم مسبق، ويكون يمارس على نفسه القمع الذي يدعي الوقوف كتابياً ضده. أظن كذلك ان الكتابة في المستقبل ستتجاوز حتى هذا المفهوم الذي أتحدث عنه، وتصير أشبه بشيء حر كلياً لا يمكن تحديده. وعملية كسر الحواجز بين الأشكال الأدبية لا تنطلق من مقاييس شكلية، انما من مفهوم أعمق، وهو غياب أي حاجز بين الإنسان نفسه وكل تناقضاته. على الكاتب أن ينقض هذه الحواجز أيضاً، لأنها في الحقيقة حواجز وهمية وغير موجودة أساساً. كسر الحواجز في الكتابة تماماً كما هي مكسورة في الذات الإنسانية».
وعلى رغم اللاجدوى من الكتابة والغوص ليلاً نهاراً في بحار العالم الذي لن يتمكن شاعر بالطبع برهافة وديع من أن يصلح بعض ترديه وخرابه، وعلى رغم اللاجدوى من الإصرار على البحث والكتابة والمحاولات لرصد العالم بكل تصدعاته عاد وديع سعادة ليهاجر مجدداً بحثاً عن الحرية والوطن والأمان... ومن هناك كتب وأصدر كتباً أخرى وترجمت له بعض أعماله الى الانكليزية، وما زال يرفدنا بالأعمال التي تحكي سيرة التفكك والتشظي الإنساني الأعلى. فأخرجت سامية مخايل وصور فصيح كيسو أحد أعماله المأخوذة من كتابيه «نص الغياب» و «محاولة وصل ضفتين بصوت» حيث الكون والحياة والموت، أوهام تستدرج وتستولد أوهاماً وصوراً وبشراً يركبون طموحاتهم ليتعثروا عند أول مجرى مائي يفصلهم عن أحلامهم لمواصلة الغناء والقفز الى الأعالي والهرولة، ثم الركض السريع والاندفاع الهائل الجارف التوق الى العيش والاستمرار على نحو الحياة التي دأب عليها وديع سعادة حتى هذه اللحظات..

التعليقات