ما بعد اسرائيل.. بداية التوراة ونهاية الصهيونية

ما بعد اسرائيل.. بداية التوراة ونهاية الصهيونية
بقلم رشيق العبارة يتجاوز تعقيدات الرؤى الأكاديمية والتبسيطات المخلة للتناول الصحفي يقدم لنا أحمد المسلماني الصحفي المصري الشاب، الذي قدم من قبل العديد من المؤلفات القيمة، كتابه «ما بعد اسرائيل» وهو رحلة شيقة وممتعة في آن رغم طبيعة موضوعها الذي قد يبدو عصيا على الاستيعاب السريع. وبأسلوب ينم عن مهارة عالية يقدم لنا المسلماني ما يمكن اعتباره رحيق الكتب في جولة طويلة عايش من خلالها معظم ما كتب في مجال الموضوع الذي يتناوله ليقدم لنا عصارة ما قرأه ممتزجا برؤاه الفكرية التي تعبر عن عقل ثاقب استطاع بحق وكما وعد قارئه في بداية الكتاب أن يقدم «قراءة لا كتابة وتأملات لا أحكام من منصة القارئ لا من سلطة القضاء».


وفي تناوله لتاريخ اليهود وحركتهم فيما قبل اسرائيل يقول : قبل أربعة آلاف سنة كانت الهجرة من الجزيرة العربية ومع الهجرة اختفت قبائل بني اسرائيل الذين بدأوا مع عصر ابراهيم وتجولوا بعده في جنبات المنطقة الى أن تفرقت بقاياهم ولم يعد لهم ذكر، مضيفا أن العبرانيين اختفوا في الزحام ولو أنهم قاوموا بين الزحام ما كان لهم أن يظهروا في ظل حضارات مصر وبابل وآشور وفينيقيا،


ولم تكن القرون التي عاشتها المملكة العبرانية من بدايتها الى نهايتها سوى خطوط باهتة في خلفية لوحة عملاقة شكلتها حضارات الشرق القديم. وقد كان انعكاس ذلك في محاولة اعادة كتابة التاريخ وجعل اليهود مركزا له مشيرا الى أنه على خلاف هذا الطريق تسير صفحات كتابه.


مستخلصا أن أهم ما يلفت الأنظار في سيرة بني اسرائيل هو هذا الارتباك الذي يحيط بكل شيء ارتباك الخطى والاتجاه والمصير أو ارتباك التاريخ فالذين تصدوا للبحث في هذا التاريخ المرتبك لم يمكنهم حسم وقائع وأطراف التطور السياسي والديني لبني اسرائيل.


ومن استعراض لأصل السامية اللفظ والدلالة يصل الى نتيجة مؤداها أن اليهود المعاصرين ليسوا ورثة شرعيين ليهود عصر التوراة فقد تغير الجسد اليهودي وتبدلت خلاياه بشكل كامل ولم يعد بالامكان القول بأن سكان اسرائيل من اليهود هم عبرانيون من زمن موسى أو سليمان بن داوود.


وبنفس القدر يمكن القول وفقا لمكسيم رودنسون أنه اذا بقيت صلة دم بين قوم معاصرين وبين يهود عصر التوراة فربما كان ذلك من نصيب جماعات من الفلسطينيين العرب المعاصرين الذين هم مستعربون أي غير عرب تحولوا الى العربية مما ينفي تماما أي حق تاريخي لليهود المعاصرين في فلسطين ويعطي الحق الكامل للعرب الفلسطينيين ليس فقط لأنهم ورثة الكنعانيين فحسب ولكن لأنهم أقرب الى وراثة العبرانيين أنفسهم.


وعلى مدار التاريخ اليهودي حاول الكثيرون من اليهود تنظيم السير وضبط الخطى ففشل كثيرون وكان من أبرز الفاشلين موسى بن ميمون الذي يعد من أكبر الفلاسفة اليهود على مر العصور ويعتبره الكثيرون تلميذ ابن طفيل وابن رشد بل ويصل الأمر بالبعض الى اعتباره واحدا من الفلاسفة المسلمين وان كان يهودي الديانة، ويتلخص مشروعه الفكري في التوفيق بين العقل والنقل.


ويتلخص اسهام ابن ميمون في أنه جعل هناك وضعا مرموقا للتلمود أو ما يسمى بالشريعة الشفوية، وهو ما أسفر على حد ما يذكر المؤلف في القرون التالية عن مزيد من الاتجاه نحو الخرافة والتعقيدات الدينية.


ثم غابت الرؤية قرونا أخرى فجاء اسبينوزا وهو أشهر فيلسوف يهودي منذ ابن ميمون بادئا من حيث انتهى هذا الأخير حيث انقلب على اليهود وفند التوراة وعمل من خارج الدين حيث قام بنقد الفكر التوراتي ورآه مجرد نتاج تحريض قام به الحاخامات على مدى آلاف السنين،


كما قام بنقد التوراة ورفض العقيدة اليهودية، بمعنى آخر أنه انتهى على عكس مشروع ابن ميمون بالتوفيق بين العقل والنقل الى تحكيم العقل على النقل.


ثم جاء موسى مندلسون بعد اسبينوزا وكان أبرز من قال بعالمية اليهودية وهو ما زاد من الاختلال في الحركة والى ظهور أعمال كثيرة تحاول ضبطها، ثم جاء آخرون الى العمل خلافا لما قال به ابن ميمون من أن المعبد الثالث لن تبنيه أيد بشرية وأنه سينزل جاهزا من السماء فكانت الفكرة ثم جاءت الحركة ومضت الصهيونية الى شوط جديد، حيث راحت تعمل بأصول الدنيا لا بأصول الدين!


وكان النجاح في ذلك من نصيب ما يسميه المؤلف الدجال الجديد تيودور هرتزل الذي لم يكن سوى صحفي خامل لدى صحيفة نمساوية بائسة في تمرير الدعوة وتجميع اليهود وبدء الصراع ثم بناء الدولة ومضى أكثر من قرن على ما بدأه هرتزل بينما لا تزال الدولة اليهودية التي نشأت عام 1948 تمثل عنصر القلق الأكبر في العالم العربي برغم تهافت البداية واحتمالات سوء الخاتمة،


فكان بناء المعبد الثالث واعلان دولة اسرائيل. وعلى حد ما يذكر المؤلف فيما يبدو رثاء لحالنا فانه لأن الأكواخ العربية المجاورة كانت بالغة الضعف حين البناء فقد علا المعبد اليهودي ثم كان أن هبت رياح عاصفة على أكواخ العرب في التسعينيات وبدت الأمور بعد سكون العاصفة خارج زمام السيطرة وتراجعت الأحلام العربية في معظمها وراء حدود الأمل!


ورغم ما سبق الا أن المؤلف ينقل لنا ما يراه الكثيرون من اليهود من أن حالهم آل الى مأزق، فبدلا من اعتقادهم بأن الوصول الى فلسطين نهاية لشتات القرون وعذاب الأيام وأن الرب قد اختار لهم وطنا من ياقوت ومسكنا من حرير فقد دخلوا في حروب لا تنتهي وصار الأمن مفقودا على الدوام وأصبحت أيام اليهود في اسرائيل برغم حقائق القوة الظاهرة ومظاهر الأبهة أياما كئيبة عصيبة يكسوها الخوف والقلق.


وفي رحلته مع قيام الدولة يشير المؤلف الى أن الصهيونية نجحت في ظل الأزمة التي واجهت العالم في النصف الأول من القرن العشرين والمواجهة مع هتلر نجحت في طرح السؤال حول أين يذهب اليهود؟ فقد نجحت كذلك في الاجابة وكانت الاجابة فلسطين.


وفي رصده للموقف العربي من الدولة اليهودية وهو الذي يهمنا هنا يشير بحق الى أن المرء لا يستطيع أن يمنع نفسه من الذهول من ذلك التعامل العربي مع الصهيونية.. فلسفة وحركة، مضيفا ومن يتأمل تطور الوقائع وصناعة الأحداث في هذا الشأن لا يجد عناء في ادراك مدى البساطة الذهنية والتواضع العقلي الذي كان عليه الجانب العربي


وهو يرى نشأة عصابة ثم تأسيس جيش ثم انشاء دولة، تجري تحت عينه دون تقدير للتهديدات الى أن صار التهديد خطرا وصار الخطر كارثة يعصب معها تحقيق نصر شامل أو اسقاطها من التاريخ! بمعنى أخر أن العرب أصبحوا أمام مقاومة مشروع صهيوني ناجح ميدانيا ومأزوم تاريخيا وأمة عربية مأزومة ميدانيا وصامدة تاريخيا.


فبعد النكبة ثم النكبة كانت التسوية والتي أصبح طابعها العام بحق أنها مفاوضات سلام تمضي من غير سلام..


وبعد استعراض للواقع المأساوي الراهن الذي نحياه كعرب في مواجهة الصراع مع اسرائيل الذي أصبحت معه قضية فلسطين على حد ما يذكر المؤلف أشبه بقميص عثمان يشير المؤلف الى أن المشهد القائم الذي تتزاحم مآسيه في فلسطين يدفع الى السؤال أكثر مما يقود الى الجواب ويهيئ السبيل الى الاحباط والدموع أكثر مما يدفع الى التجاوز والاقلاع ويستدعى مواكب النائحات النادبات..


أكثر مما يستدعى طلائع التجديد والتصحيح وعلى حين لم يكن العالم العربي للمراجعة والخروج من الانتصار كان هناك في اسرائيل من شرع في المراجعة للخروج من الانتصار بالمزيد. وعلى حجم الثقة التي أفرزتها انتصارات المعارك وصعود الاقتصاد.. ذهب المؤرخون الجدد يعملون أقلامهم ما بين النقد والنقض، وما بين الاعتزاز والاعتذار.


ورغم الانكسار العربي الا ان ذلك لا يعني النجاح الخالص للمشروع الصهيوني على العكس، فبعد مرور أكثر من نصف قرن على اعلان اسرائيل وبعد أكثر من قرن على انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول فان الانطباع السائد داخل اسرائيل هو الاحساس بالوقوع في المأزق..


مأزق الصهيونية.. التي انقطعت أنفاس الاسرائيليين معها ولم يعودوا قادرين على الايمان بها والبقاء في معارك مفتوحة وتعبئة دائمة. فاسرائيل تعيش معادلة غريبة هي أنه فيما تعيش حالة من القوة فان سكانها يشعرون بالضعف. وحسب المسلماني فان المرء ليعجب حين يتأمل قادة الحكومة وجنرالات الحرب ليجد معالم الاستعلاء والاستكبار ثم يتأمل حالة السكان ليجد معالم الفزع والاستضعاف،


ثم حين يراقب الخطاب السياسي فيجد جنوح الدولة وطموح الامبراطورية ثم يراقب الواقع السياسي فيجد دولة باهتة وشعبا ممزقا تبدو فيه علاقة الشعب بالأرض علاقة عقارية لا علاقة وطن ومصير! وهو الأمرالذي دعا المؤرخين الجدد الى القول بفشل الحلم برغم نجاح القوة. وهنا يشير المؤلف الى أنه قد يكون من الصعب وصف جملة الأفكار التي تعيد النظر في الصهيونية في اسرائيل الحالية بالحركة..


حركة ما بعد الصهيونية، فداخل هذه المراجعات ألوان طيف عديدة ومتمايزة وبعض المراجعات انما تهيئ لمزيد من القوة والبطش بنقد الذات وكشف النواقص ولفت الانتباه الى عثرات الطريق وهي أفكار وان كانت تقع في اطار المظلة العامة لما بعد الصهيونية لا تعدو في واقع الحال أن تكون احياء وتجديدا.


وقد تنقل المؤرخون الجدد في دراساتهم بيسر واضح بين نقد الوقائع ونقد الأساطير اذ لم تكن المسافة واضحة بين الواقع والأسطورة وفضلا عن جملة الأساطير الكبرى التي بنيت عليها الصهيونية كانت هناك الأساطير الأصغر التي ساهمت في التنفيذ أي كانت هذه الأساطير الأصغر بمثابة اللائحة التنفيذية أو الآليات التطبيقية للاساطير الكبرى.


ويعود المسلماني لطرح السؤال: اذا كانت الصهيونية قد نجحت في اقامة الدولة فماذا بعد؟ يشير هنا الى أن الاجابات توزعت وكان من أبرزها ذلك الجواب الذي جاء به المؤرخون الجدد من أنها نهاية الصهيونية وبداية ما بعدها. ليعود السؤال التالي: وما الذي يمكن أن تكون عليه اسرائيل في مرحلة ما بعد الصهيونية ؟


هنا يشير من واقع قرءاته لما قدمه هؤلاء المؤرخون الجدد واحد من عدة احتمالات من بينها أن تستأنف اسرائيل مرغمة ولأسباب عديدة الدعوة الى مشروع الشرق الأوسط الجديد من جديد، فاذا كان التاريخ والدين سوف يغذيان الصراع باستمرار فليس غير الاقتصاد يمنع الصدام


ويؤكد الوفاق بل ويخلق ضرورات التعاون والانفتاح وقتها يصبح التطبيع مصلحة لا رؤية وضرورة لا فضلا وحتمية لا اختياراً وهو جوهر فكرة مشروع الشرق الأوسط الجديد، أو أن تتمكن الأصولية اليهودية من الحكم في تل أبيب وتكون ما بعد الصهيونية هي أعلى مراحل العنصرية. وفي كل الأحوال وايا كانت أحداث الساعة في اللحظة الراهنة فاننا نواجه كعرب واقعا جديدا يتمثل في ذلك التحول من اسرائيل الى ما بعد اسرائيل!


(مصطفى عبد الرازق- عن "البيان)

التعليقات