مهدي الصقر.. الملاحم اليونانية والف ليلة وعراق الحرب

مهدي الصقر.. الملاحم اليونانية والف ليلة وعراق الحرب
تميزت رواية الكاتب العراقي مهدي عيسى الصقر الاخيرة "امرأة الغائب" باسلوب غير تقليدي وبانها في تناولها العراق في حروبه وأوجاعه شكلت مزيجا من الملاحم اليونانية والف ليلة وليلة.

وبالاضافة الى ذلك يتميز الكاتب بقدرة سردية تمسك بالقارىء على رغم بعض التفاصيل المعادة والاجواء المتشابهة.

في ما هو مقدمة من صلب الرواية حملت عنوان "مصادفات" سعى الصقر الى ان يكون اسلوبه مختلفا ومن نتاج "التجارب" الروائية الحديثة.

فوجدي بطل الرواية يتحدث عن نفسه وعن الكاتب عوضا عن العكس ويقول "وجدي هو الاسم الذي ستعرفونني به في هذه الرواية. هذا ليس اسمي المدون في شهادة الميلاد. هو اسم اختاره لي المؤلف كيفما اتفق مثلما اختار أسماء عدد من شخوص الرواية من أجل التمويه تحاشيا للمشاكل. ما هو الحقيقي اذن. ربما الاحداث واشتباك العلاقات واحتدام الرغبات الدفينة."

تتركز الرواية موضوعا على شاب عراقي هو "مهندس" جعلته الحرب يعمل في اصلاح الاجهزة التلفزيونية والراديوات وغيرها مع ان انقطاع الكهرباء باستمرار جعل هذا العمل أقل شانا من قبل.

علق قلب هذا الشاب بامرأة فقد زوجها في الحرب مع ايران وبقيت طوال ثلاث عشرة سنة تنتظر عودته هي ووالدته وربت ابنها على الا يشك في عودة ابيه وحرمت نفسها من مجرد التفكير في اي رجل.

الابن يتعلم خلال عطلته الدراسية في مشغل وجدي فتنشأ محبة بين الاثنين مثل اب وابن. تبرز في الرواية أجواء الاساطير والملاحم اليونانية وبشبه كبير وتفصيل احيانا لكن الكاتب جعل ذلك وبنجاح يبدو "عراقيا" الى حد بعيد.

جار وجدي هو بائع شاي أعمي فقد نظره في انفجار قارورة غاز.. الا انه أشد "ابصارا" فهو يعرف كل الاسرار والدواخل النفسية و"يتنبأ" كما انه فضولي يقتحم كل الامور بوقاحة. انه هنا مزيج من العراف "الرائي" ومن الانسان الذي نمت فيه قدرات اخرى بدل تلك التي فقدها في ما يصفه علم النفس بمبدا التعويض والتسامي.

لكنه يختلف عن الرائي في انه اناني جدا فهو هنا انسان عادي بمشاعره وحسده وفضوله. وهو هنا يتنبأ لوجدي كما قالت النبؤة لاوديب بان مصيبة ستحل به. الأعمى كان مثل اوديب ضحية قدر أكبر منه لكن اوديب الذي جاءته الحكمة بعد مصيبته كان حكيما ونبيلا بخلاف الاخر.

وقد صدرت الرواية في 245 صفحة متوسطة القطع عن دار "المدى" في دمشق.

في الرواية التي تصف انتظار "رجاء" عودة زوجها على رغم اعتقاد الجميع انه قتل في الحرب وتصف شعورها احيانا بانه يشاركها فراشها.. تتداخل قصتان كانهما نسج جديد لحكاية عوليس (يوليس) او التائه.. وزوجته الوفية بنيلوب التي تبقي في انتظاره عشرين سنة رافضة الاغراءات والتهديد والقبول بفكرة موته.

انهما قصة رجاء المنتظرة مع ابنها ووالدة الزوج الغائب.. وقصة مماثلة أخرى تسير في موازاتها ترويها الجدة عن غائب عاد فعلا. وهي تعيد رواية ذلك في أجواء الف ليلة وليلة واسلوبها وتأخذ هي دور شهرزاد الروية أو تعطيه احيانا لرجل الحكاية الذي عاد ليروي كيف خطفته الساحرة واخذته الى الاسر.

وكانت الجدة تقول لحفيدها ان الساحرة الشريرة خطفت والده الى مملكتها السرية. وقد غضبت الالهة على يوليس ورفاقه بعد سيطرتهم على طروادة في حرب قاسية ظالمة ولذلك وخلال عودتهم الى بلادهم وقعوا أسرى الساحرة الشريرة. الحرب أي حرب هي شريرة اذن كما يبدو ان الصقر يقول ضمنا وثمنها رهيب في الانتصار والانكسار.

وفي قصة الجدة كما في الالياذة يعود الاسير التائه الى بيته والى امراته الصابرة فلا تعرفه لضعفه وقذارته وشعره الطويل. يعود يوليس بعد عشرين عاما والاسير العراقي بعد ثلاث عشرة ليشاهد الاول ابنه والثاني بنته. بنيلوب ادخلت زوجها العائد "الى غرفة نومها التي حافظت عليها كما كانت يوم اختفائه" وكذلك فعلت زوجة الغائب العراقي في حكاية الجدة.

اما رجاء فتصل الى حد التأثر بحب وجدي ولا تلبث ان ترفض ذلك لتعود فتنتظر عودة زوجها عبثا مع قوافل الأسرى العائدين من ايران ووجدي المعذب ينتظر دون جدوى. وفي الدفعة الاخيرة التي لا دفعة بعدها تنتظر رجاء عودة زوجها الى ما بعد منتصف الليل. يسعى الصقر الى جعل القارىء يشاركه كتابة نهاية الرواية فيقترح ثلاث نهايات وللقارىء ان يختار واحدة منها.

في الفصل الاخير الذي أسماه "الخواتيم" بدا بخاتمة اسماها "النهاية التي يتمناها العاشق" وجدي. هنا لا تجد رجاء زوجها بين العائدين فتعود مع وجدي "طائعة" ومعها ابنها.

وفي الثانية أو "النهاية التي يريدها القارىء المتعاطف مع البطلة" تجد رجاء زوجها "فتلقي بنفسها على صدره وتنفجر باكية."

اما الخاتمة الثالثة فهي الاكثر مأساوية في تمثيلها أحزان العراقيين وخاصة الزوجات العراقيات ..وعنوانها "الخاتمة التي خطرت ببال المؤلف."

وفيها انه لم يعد هناك في محطة الوصول غير رجل كهل متعب ابيض الشعر "يقف وحيدا مهجورا يحدق أمامه في ذهول. لم يأت أحد من أهله للبحث عنه."

تلتفت رجاء ثم تدعو ابنها بجذل الى لقاء ابيه وابنها مرتاب في ذلك. لكن امرأة ثانية تتعلق بذراع الكهل وتصيح قائلة انه زوجها ويدور الخلاف بين المرأتين.

وجدي الحزين المصدوم يدور بسيارته عائدا بخيبته والمه فيرى في المراة أمامه منظر ما يجري خلفه في الساحة "أرى حلقة من النساء لا أدري كيف اجتمعن بهذه السرعة وبهذا العدد تحيط بالكهل المشدوه... وألمح مزيدا من النساء يخرجن كالأشباح... ويهرعن صوب الرجل... يبحثن جميعا عن رجالهن المفقودين منذ سنوات طويلة."

التعليقات