وجوه وأفكار قبالة المرآة!../ أنطـوان شلحـت

[قراءة في كتاب شفيق الغبرا: "حياة غير آمنة: جيل الأحلام والإخفاقات"]

وجوه وأفكار قبالة المرآة!../ أنطـوان شلحـت

"انتظرت 30 عامًا لأكتب عن تجربتي مع الثورة والمقاومة من أجل القضية الفلسطينية. لقد اكتنزت طيلة العقود الثلاثة الماضية آلام ذلك الزمن وآفاقه. أجد نفسي أحيي تلك المرحلة 1975- 1981 والسنوات التي مهدت لها، في كلمات توقظ ذاكرتها في ضميري وتساعدني على علاج جراحها"- بهذه العبارات يقدّم الكاتب وأستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت شفيق ناظم الغبرا (الحائز على دكتوراه في سياسات المقارنة من جامعة تكساس- أوستن الأميركية) كتابه "حياة غير آمنة: جيل الأحلام والإخفاقات" الصادر عن دار الساقي (بيروت، 2011)، والذي يتصدى في صفحاته الـ 414 لسرد تجربة شخصية وعامة تهدف إلى وصل ما قد يصبح عرضة إلى الانقطاع بين الماضي والحاضر، وربما يشكل عائقًا أمام استنتاج ما ينبغي التفكير به وفعله نشدانًا للمستقبل.

والمقصود تجربة ما سُمّي بداية بـ "السرية الطلابية" والتي تحوّلت فيما بعد إلى "كتيبة الجرمق" المقاتلة ضمن حركة فتح في لبنان. وقد كان الكاتب جزءًا منها بعد أن يمّم شطر بيروت في إثر حصوله على بكالوريوس علوم سياسية من جامعة جورج تاون الأميركية في العام 1975، ورفعت هذه السرية/ الكتيبة لواء الكفاح المسلح انطلاقًا من جنوب لبنان الذي تحوّل في ذلك الوقت إلى الجبهة الوحيدة الباقية والمفتوحة بين العرب وإسرائيل.

ووفقًا لما يقوله، جمعت هذه السرية/ الكتيبة بين أعضائها مزيجًا من الشباب العرب من فلسطينيين ولبنانيين وعراقيين ويمنيين، ومن مذاهب وديانات متعددة، من سنّة وشيعة ودروز وموارنة، ومسلمين ومسيحيين، بل إن عدد اللبنانيين فاق عدد الفلسطينيين، حيث نجحت في استقطاب كل من كان يمتلك حسًا مجددًا وأراد التغيير.

كما أنها تميزّت بتركيزها على فلسطين، وعدم طائفيتها في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، ورفضها التطهير الديني بين الفرقاء، واتسمت بانسجامها أحيانًا مع الخط العام لحركة فتح، وتقديمها أحيانًا أخرى رؤى وأفكارًا وممارسات إصلاحية لم تكن متوافقة مع الممارسات العامة السائدة في فتح أو في الوسط المقاوم. وأصبحت أكثر الأطراف العسكرية احترافًا وقدرة على مواجهة إسرائيل الساعية للتوسع عبر إنشاء القطاع الأمني في الجنوب اللبناني خلال فترة 1976- 1982.

ويتعقب الكاتب بأناة الباحث تاريخ الأشخاص والوقائع معًا، ولا يمتح من ذاكرته الخاصة فقط، بل ينحو أحيانًا كثيرة منحى إسناد هذا التاريخ بما ورد في كتابات أخرى، وبما زوده به أشخاص غيره كانوا شركاء له في التجربة ذاتها، بحلوها ومرّها.

ولا يتسع المقام هنا لعرض ما يشتمل عليه هذا الكتاب من إحداثيات تستحق الوقوف عندها بالتفصيل الممتع، ولذا سأكتفي ببضع إشارات من شأنها أن تلامس جوهر تلك التجربة، ولا سيما فحوى الاستنتاجات الفكرية التي خلص الكاتب إليها وتحيل إلى ما كان، وإلى رؤية ما هو كائن، وإلى رؤيا ما سوف يكون.

1. يؤكد الكاتب بادئ ذي بدء أن حرب حزيران/ يونيو 1967 تشكل اللحظة الحاسمة التي صاغته وصاغت جيله وجعلته شخصيًا على ما هو عليه في جانب أساس من حياته، ذلك بأنها "أيقظت فينا عملاقًا مكبوتًا يبحث عن تحرّر وإعادة اعتبار لما حصل في نكبة 1948 عند قيام إسرائيل".

وخلال ذلك يشير إلى أنه على الرغم من أنه أصبح مواطنًا كويتيًا، بسبب مجيء والده الطبيب الحيفاوي الشاب إلى الكويت ومساهمته في مسيرتها الطبية في مرحلة حسّاسة في أوائل خمسينيات القرن الفائت، وبسبب ولادته فيها بعد خمسة أعوام من النكبة في العام 1953، إلا إنه لم يكن من السهل التخلي عن فلسطين سياسيًا وثقافيًا وإنسانيًا باعتبارها قضية حقوق وصراع حضاري ووجودي لا تخص الفلسطينيين وحدهـم.

ويكتب في هذا الصدد قائلاً: "إن ما حصل في فلسطين مع الشعب الفلسطيني، وما حصل في العالم العربي جراء الصراع العربي- الإسرائيلي، لم يفرض الالتزام بالقضية الفلسطينية على العرب ذوي الجذور الفلسطينية مثلي فحسب، بل فرضه أيضًا على معظم العرب والمسلمين وعلى أصحاب الضمائر الإنسانية في العالم. إن الانسلاخ عن هذه القضية ليس خيارًا، حتى لو أردنا ذلك، وحتى لو حاولنا واختبأنا في أقاصي الأرض، لأنه من دون حل صائب لفلسطين والفلسطينيين أساسه العدالة والحقوق، ستبقى مسألة فلسطين تقلق العالم وتقلق إقليمنا من خلال تحوّلها إلى مصدر صراع وغضب دائمين".

وبذا فإنه يعيد القضية الفلسطينية إلى عمقها الحضاري، وإلى مربعها الأخلاقي، وهي إعادة أريد منها أن تدرأ عنها صيرورة الانحباس ضمن دائرة النزاع السياسي فقط، لأن ذلك من شأنه أن يختزلها إلى مجرّد نزاع على "حدود الدولتين"، في حين أنه منذ حرب 1967 أصبح للقضية الفلسطينية أعمدة أربعة: أولاً، أراضي 1967 المحتلة (حيث يجب أن تُقام الدولة الفلسطينية المستقلة)؛ ثانيًا، أراضي 1948 حيث حقوق المواطنة والمساواة للفلسطينيين الذين بقوا في الأرض؛ ثالثًا، حق العودة للاجئين الفلسطينيين في المنافي والشتات الذين شردتهم نكبتا 1948 و1967؛ رابعًا، العالم العربي الأوسع الذي يتفاعل مع القضية الفلسطينية ويرتبط أيضًا بالعالم الإسلامي وأصحاب الضمائر الحية في العالم كله. ويشدّد على أنه من دون حل عادل وشامل يشمل الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين وكل العرب سيبقى شبح السلام بعيدًا، وأن إسرائيل لا يمكنها أن تعيش إلى الأبد في تناقض مع شرق مظلوم.

2. تحتكم كتابة المؤلف إلى مقاربة نقدية صارمة تنطلق من منطلقات حداثية، فهو يشير إلى أن تجربته الذاتية قد تكون قصة تحوّل من البراءة إلى الراديكالية، ومن الراديكالية إلى التساؤل. ويضيف أن حاله كانت كحال كثيرين من الشبان العرب ممن تحولوا نحو "طريق العنف المسلح" في سبيل القضية الفلسطينية قبل أن يكتشفوا ضرورة وجود طرق أخرى إلى جانب الثورة والعنف أو حتى بمعزل عنهما. لكنه خلال ذلك يؤكد أن سيرته هي قصة جيل كامل لم تفسده حياة العنف، ولم تحبطه حالة الدمار التي أحاطت بالحياة في تلك الأيام الغابرة، وأن تجربته الشخصية جعلته (المؤلف) يؤمن بالتوازن بين فكرتين: الحياة واستمرارها، والمقاومة المسلحة ونجاحها، وأن موضوع الأخلاق يشكل مسألة أساسية في مشروع المقاومة. أمّا التساؤل فإنه يتعلق بدور المقاومة المدنية بكل أشكالها والتي تُشرك كل الناس. ويعلن بملء الفم: هذه المقاومة (المدنية) أقل تدميرًا للإنسان والحياة، وأكثر تفاؤلا بالمستقبل والبناء. وبرأيه فإن العمل على مقاطعة إسرائيل، وإحياء الذاكرة، وتثبيت الهوية والحقائق على الأرض، والمقاومة بالفن والمسرح والسينما والإعلام والأغنية، والتعبير والكتابة، والتعليم والثقافة، والمسيرات المنظمة، والإعمار وبناء المؤسسات، ودعم الإبداع، وزرع الأشجار، وتحدي الموانع والحواجز... هي الشكل الأهم للمقاومة في المراحل المقبلة، ويمكن لهذه المقاومة أن تهزم أعداءها في فكرهم وأخلاقهم وسلوكهم ومرحلتهم التاريخية قبل أن تهزمهم في ساحة المعركة.

ويبدي تفاؤله بأن تكون الثورات الشعبية العربية الأخيرة في إطار "الربيع العربي"، التي اندلعت في أثناء مراجعته النسخة الأخيرة من كتابه، بمثابة إشارة إلى المقاومة المدنية بكل أشكالها كوسيلة رئيسة للتغيير وتحقيق المطالب، وبأن تكون ثورة فلسطين القادمة امتدادًا للثورات العربية، لكنها ستكتشف طريقها من خلال فهمها للخصوصية الفلسطينية في مواجهة احتلال إجلائي استيطاني وعنصري.

كما أنه يقرّ بحق العلمانيين وكل المختلفين مع طروحات الإسلام السياسي في أن يجدوا مساحة لهم في الفكر والتعبير والنضال، وبحق الإسلاميين في أن يمارسوا كفاحهم وسعيهم، لكنه في الوقت نفسه يحرص على تأكيد أن المستقبل يشير إلى آفاق تتجاوز التصنيف وتعمّق البعد الإنساني الديمقراطي لكل الأطراف بما يوجد أرضًا وسطًا.

3. لعل الاستنتاج الفكري الأهم الذي يخلص إليه الكاتب من تجربته الخاصة والعامة هو أن قيمة الأرض هي من قيمة الإنسان، وأن قيمة تحرير الأرض متداخلة مع تحرير الإنسان وفك قيوده. فالإنسان هو الجوهر، والذين ماتوا من "كتيبة الجرمق" فعلوا ذلك من أجل الحقوق والعدالة، وهذا ما يجب أن نحققه لهم لنحفظ تاريخهم وذكراهم في كل من فلسطين والدول العربية كافة. وهذا الاستنتاج يقف وراء دعوته إلى التفكير بحل سياسي عادل وإنساني يأخذ بعين الاعتبار وقائع لا يمكن محوها (بما في ذلك وجود خمسة ملايين يهودي في فلسطين المحتلة العام 1948 و1967 علينا أن نتعامل معهم).

4. ينتمي كتاب شفيق الغبرا هذا إلى كتب المراجعة الذاتية التي تتسلح بوعي نقدي، وعي يرفض أن يرشّ على العفن عطرًا، وعلى الموت سكرًا، ويسمي الأشياء بأسمائها، ويرفض التهوين من حجم بلايانا العربية، ويرفض تبسيط مشكلاتنا وتسطيحها، كما درج على القول ياسين الحافظ الذي أضاف أنه بعد كل الهزائم والإخفاقات التي لحقت بالعرب بات مطلوبًا أن تنتهي عمليات التبخير الذاتية، وأن تنطلق عملية نقد ذاتي صارمة تخترق المجتمع العربي (لا السطح السياسي فقط) طولاً وعرضاً وعمقاً، بلا خوف، وبلا مراعاة، وبالطبع بلا تشفٍ.

التعليقات