ما بعد الصهيونية../ زياد منى

أهمية هذا الكتاب تكمن في الموضوع الذي يطرحه للنقاش، وكذلك في بعض المساهمين فيه الذين نشروا مقالاتهم في مواقع إلكترونية متفرقة عبر فترات مختلفة، لكنها للمرة الأولى الذي تجمع فيه بين غلافي كتاب. سأركز هنا على ثلاثة مقالات لأنها تلخص موضوع الكتاب، ولأنها -من منظوري- الأكثر أهمية

ما بعد الصهيونية../  زياد منى

الكتاب والكتَّاب

أهمية هذا الكتاب تكمن في الموضوع الذي يطرحه للنقاش، وكذلك في بعض المساهمين فيه الذين نشروا مقالاتهم في مواقع إلكترونية متفرقة عبر فترات مختلفة، لكنها للمرة الأولى الذي تجمع فيه بين غلافي كتاب. سأركز هنا على ثلاثة مقالات لأنها تلخص موضوع الكتاب، ولأنها -من منظوري- الأكثر أهمية.

المساهم الأول هو إيلان بابيه الذي يعرفه المهتمون بموضوع الصراع العربي الصهيوني عبر العالم من مؤلفاته العديدة، وفي مقدمتها كتابه التوثيقي "التطهير العرقي في فلسطين" الذي أخل بتوازن الاحتلال الإسرائيلي مما دفعه لإعلان حرب عليه اضطرته في نهاية الأمر إلى ترك عمله في جامعة حيفا والانتقال للعمل في إحدى الجامعات البريطانية، وقد كتب مقالة "حالة الإنكار.. النكبة في المسرح الإسرائيلي الصهيوني".

المساهم الثاني هو جون ميرزهايمر صاحب الكتاب الشهير "اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة" الذي ألفه بالتعاون مع زميله ستفن وُلت، والذي لم يفقد أهميته رغم نقاط أساس مضادة طرحها الكاتب الأميركي كرستفر هتشنز -الذي رحل أخيرًا- صاحب مؤلف "محاكمة هنري كيسنغر" حيث اتهمه فيه بأن سياساته قادت إلى جرائم حرب، رغم أنه "ارتد" بعد ذلك وأيد غزو الولايات المتحدة الأميركية للعراق. جون كتب مقالة "اليهود المستقيمون في مواجهة الأفارقة الجدد"، والمقصود بالأفارقة هنا إقامة تطابق بين الصهاينة وسكان جنوب أفريقيا من الأوروبيين البيض الذين أقاموا نظام الفصل العنصري هناك.

المساهمة المهمة الثالثة للأستاذة الباحثة في جامعة هارفارد سارة روي عنوانها "إعادة صياغة فلسطين، هل هو الطريق إلى الأمام؟". وقد كتبت سارة روي كتاب "حماس والمجتمع المدني في قطاع غزة" الذي سبق أن كتبنا مراجعة له في هذا الموقع وفاز بجائزة مبرة بن عبد الله المبارك الكويتية كأفضل كتاب عن "الشرق الأوسط".

الإسهامات الأخرى كتبتها مجموعة من الأكاديميين والصحفيين الغربيين والعرب المقيمين في خارج العالم العربي، حيث يبلغ مجموعه أربع عشرة مقالة، إضافة إلى مقدمة محرري الكتاب.

أود هنا التنويه إلى أن تركيزنا على ذكر أسماء محددة لا يعني إساءة لبقية الكتاب المساهمين، والسبب هو أهمية الأعمال، طبعًا، من منظورنا الفكري والأكاديمي. والأهمية التي أشير إليها لا تكمن في انحيازنا لهذا الرأي أو ذاك، وإنما من معرفة مدى تأثير مؤلفات الكاتب في النقاش الدائر حول القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني. ولنعرف مدى تأثير كاتب ما في نقاش قضية محددة يمكننا طرح سؤال: ما عدد المستمعين الذين يصغون بصمت المتلقي العاقل لما سيقوله؟ وكذلك قياس ردود الفعل على ذلك.

الموضوع

موضوع الكتاب هو مستقبل الصراع العربي الصهيوني من منظور "موت" عملية السلام (الأفضل تسميتها عملية التسوية)، التي يرى معظم المساهمين أنها بدأت باتفاقية أسلو، وانتهت، وفق رأي كثيرين، بالانتفاضة الثانية المعروفة باسم انتفاضة الأقصى.

ما اتجاه الصراع؟ وما الخيارات المطروحة للقضية الفلسطينية في ظل فشل السياسات السابقة؟
هناك من رأى أن "عملية السلام" من الممكن إحياؤها، فيما لو حدث هذا أو ذاك من التطورات، وفي حال أن هذه وتلك الشروط، وما إلى ذلك من النظرات السطحية والبعيدة عن جوهر وطبيعة الصراع والمشاركين فيه. وفي الحقيقة إن ما افتقدته غياب إسهام كتاب عرب معارضين بالمطلق للمشروع الصهيوني، أي رفض التنازل عن حقوقنا، نحن العرب، في أي شبر من بلادنا، وهو رأي أغلبية أبناء شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية، وعلى عكس ادعاء إحدى المساهمات في الكتاب.

ففهم جوهر الصراع وطبيعة القوى المشاركة فيه مشاركة مباشرة يحدد -في رأينا- اتجاه تطوره والنتائج الواجب الوصول إليها. فباستثناء إيلان بابيه وكتاباته، الأكثر معرفة ودراية وفهمًا للصهيونية وتطورها التاريخي واستحالتها كيانًا سياسيًا دينيًا، لا نعرف أن أيا من المشاركين في الكتاب معارض بالمطلق للمشروع الصهيوني الإمبريالي في المشرق العربي، ونشير هنا إلى أن في مقدمة هؤلاء كتابا (وكاتبات) عربا.

معظم المساهمين على قناعة صريحة، أو مبطنة، بانتهاء مشروع التسوية القائم على ما يسمى مشروع الدولتين. في الواقع لو أن الكتاب حوى إسهاما أو أكثر عن جذور الوهم لدى القيادات الفلسطينية والانحراف بالقضية عن مسارها الوطني، من قضية تحرير إلى قضية تعديل حدود، لأراحوا القارئ من متاهة "فيما لو... وفي حال... وإذا حصل كذا..." وما إلى ذلك من مصطلحات الوهم السياسي.

على أي حال، يرى الكتاب أن موت عملية التسوية والتطورات الميدانية في أراضي فلسطين المحتلة عام 1967 جعلت من مسألة قيام دولة فلسطينية، أيًا كانت درجة هزالها، أمرا غير ممكن. بل إن إيلان بابيه يذكر القراء بأن إسحاق رابين، الذي قاد الجانب الإسرائيلي في اتفاقية أوسلو، لم يشر مطلقًا إلى دولة فلسطينية، وأن الأمر طرح في مرحلة لاحقة.

من ناحية أخرى يرى بعض المساهمين أن هيمنة اليمين الصهيوني (أخيرًا) على الحياة السياسية في ذلك الكيان يجعل من أمر ولادة دولة فلسطينية أمرا مستحيلا. لكن اليمين الصهيوني هيمن على الحياة السياسية في فلسطين المحتلة منذ السبعينيات، وهو الذي وقع أول اتفاقية سلام مع مصر وانسحب من سيناء ونكّل بالمستوطنين فيها وانسحب من قطاع غزة ونكل بالمستوطنين هناك أيضًا. ومن الواضح، في ظننا، أن التعامل السطحي مع جوهر القضية وطبيعة القوى المنخرطة فيه يقود إلى استنتاجات تخضع للمساءلة.

في ظل حقيقة موت عملية التسوية، يطرح بعض المساهمين المقتنعين بالأمر آراءهم في احتمالات تطور الصراع وهو قيام دولة واحدة بعد ضم إسرائيل "الضفة الغربية". هذا الخيار سيؤدي بالضرورة إلى عواقب مختلفة أهمها فقدان الدولة طبيعتها اليهودية، وتحولها إلى دولة ثنائية "القومية"، وانتهاء مشروع الدولة اليهودية التي تشكل حجر الزاوية في الفكر الصهيوني.

هذا ما لن يقبل به المجتمع الصهيوني، وبالتالي القوى السياسية الممثلة في المؤسسة الحاكمة. الخيار هنا تحول الكيان الصهيوني إلى "جنوب أفريقيا" ثانية، أي دولة عنصرية ودولة الفصل العنصري، وهو ما عبر عنه أحد المساهمين بمصطلح "الأفارقة الجدد"، في إشارة إلى طبيعة المجتمع اليهودي في ظل مثل هذا الخيار. في ظننا أن هذا يتجاهل حقيقة أن الكيان الصهيوني في جوهره عنصري لأنه قائم على "دولة لليهود/ دولة يهودية"، ويتجاهل وجود الفصل العنصري حتى في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، حيث لا يسمح للعرب بالسكن في مناطق محددة.. إلخ.

والفصل العنصري قائم في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 حيث لا يسمح للعرب باستعمال طرق محددة (طرق المستوطنات الالتفافية)، وقد عبر بعض طلاب جامعة هارفارد عن هذا الفصل العنصري عندما وضعوا بابين رمزيين على مدخل إحدى الكليات وكتبوا على أحدهما "لليهود فقط"!

الخيار الآخر المتوقع، والمستبعد في الوقت نفسه، هو تحول اليهود إلى أقلية، انطلاقًا من حقيقة فشل مشروع "الأسرلة" الذي حاولت الأحزاب الصهيونية فرضه على أهلنا هناك منذ اغتصاب فلسطين، وشارك فيه الحزب الشيوعي الإسرائيلي المشكل من أغلبية عربية ساحقة، وإن كانت معظم قياداته يهودية صهيونية "معتدلة"!

وهنا من الضروري تأكيد دور د. عزمي بشارة الريادي في مقاومة "الأسرلة" وقيادة قسم كبير من أهلنا في "الخط الأخضر" نحو التسامي بانتمائهم العربي، وهو ما نوه إليه إيلان بابيه في مؤلفه المهم "فلسطينيون منسيون" وسبق لنا عرضه في هذه الصفحة. ومن هنا رأى بعض ساسة إسرائيل أن قيام كيان فلسطيني على أراض فلسطينية محتلة حاجة إسرائيلية في المقام الأول (ونضيف هنا: والأخير).

الطريق الآخر الذي قد يفرض هو طرد الفلسطينيين مجددًا من بلادهم (سبق لإسرائيل أن طردت نحو ربع مليون فلسطيني من أراضي "الضفة الغربية" عام 1967 ونحو مائة ألف سوري من الجولان في العام نفسه، إضافة إلى التطهير العرقي الذي مارسته عام 1948)، ومن تعامل مع هذا الاحتمال استبعده بسبب عواقبه الدولية.

انطلاقًا من فهمنا وقناعاتنا بجوهر الصراع العربي الصهيوني وطبيعة الصهيونية، التي فصلناها مرات عديدة في كتاباتنا، فإننا نشك في اكتراث "الرأي العام العالمي" بما يحصل للعرب، وإن اكترث قسم منه فإن مفعوله آني وسيهدأ، كما حصل بعد كل جريمة ارتكبها الاحتلال الصهيوني، وهذا رأي من تعرض للموضوع في الكتاب.

هنا وجب التنويه إلى أن الاحتلال الصهيوني سينتظر الفرصة المناسبة لطرد أكبر عدد من الفلسطينيين من أراضي عام 1948. ولا شك أن التهديد باقتحام الجليل في أي حرب مقبلة سيوفر له فرصة ثمينة لتنفيذ هذا الخيار.

لذا فمن الضروري التفكير مليا في عواقب إطلاق مثل هذه التصريحات أو الإعداد لمثل هذا الخيار، ما لم يكن الطرف الذي يطلقه واثقًا من أنه لن يضطر للانسحاب من شمالي فلسطين في حال تمكنه من تحريره، لأنه في تلك الحالة سيكون قد سهل، من دون قصد، من عملية تطهير عرقية جديدة بحق شعبنا، سيدعمها الغرب، علانية وبلا قيد أو شرط. (هنا نذكر بقول أحد كبار العلماء الأميركيين: إن الأمر المخيف في صور التعذيب الأميركي في سجن أبو غريب أنها كانت محل رضا وترحيب القسم الأكبر من الشعب الأميركي).

إيلان بابيه من ناحيته يشكك في اكتراث إسرائيل بما يُقال عنها ولها علنًا، وأن قادتها سيرتكبون من الأعمال ما يناسبهم، وينقض فكرة أن اليهود الليبراليين في الغرب، الذين قد يعارضون مثل هذه الخيارات، سيكترثون للأمر وأن غالبيتهم سيختارون الصمت.

وماذا بعد

لقد حوى الكتاب قراءات مستفيضة لكيفية تفكير الاحتلال الإسرائيلي بخصوص مستقبل الصراع، ولكن غياب وجهة نظر فلسطينية/عربية بخصوص جوهر الصراع وطبيعة القوى الرئيسية المشاركة فيه نقطة ضعف. لذا فإننا نغني الكتاب بوجهة النظر المغيبة عن الكتاب بجملة واحدة، معبرة "حق يأبى النسيان، وحق وطني قومي صلاحيته لا تنتهي بمرور الزمن".

فالزمن الذي أمكن فيه للاستعمار إخضاع شعوب وتجريدها من ماضيها وتغريبها عن حاضرها قد ولّى. لقد تمكن المقاتلون، الحفاة العراة، المؤمنون بعدالة قضاياهم الوطنية والقومية من هزيمة الغزاة في لبنان والصومال والعراق وأفغانستان، وتمكنوا من إجبارهم على الاندحار من دون قيد أو شرط.

هذا ما سيحدث في فلسطين حيث يتصدى أهلها للدفاع عن حقوقنا، نحن العرب، فيها منذ منتصف القرن التاسع عشر، لكن فقط إن اجتمع العرب حول قضيتنا الأولى ورفعوا شعار "قضية فلسطين توحدنا"، ولم يستبدلوا بفلسطين أوهاما وشهوة وشبقا للسلطة، أيًا كانت الوسيلة والنتائج.

"الجزيرة"

التعليقات