بيروت صغيرة بحجم راحة اليد- يوميات من حصار عام 1982

هي حالة توثيق لروح المقاومة، وتوثيق ليوميات الحصار، بين ساعات الخوف والهروب من النار المسلطة من السماء، إلى ساعات، بل لحظات للعودة للبيت، لذكريات الحب الجميل، مشاعر الأبوة تنازع أمجد ناصر وقلقه على ابنته وزوجته وهما البعيدتان عن بيروت المحاصرة، ومشاعر اليأس والخوف من المجهول..والمجهول هو هل تصمد بيروت..هل نترك بيروت وإلى أين...

بيروت صغيرة بحجم راحة اليد- يوميات من حصار عام 1982

بيروت صغيرة بحجم راحة اليد- يوميات من حصار عام1982

نضال محمد وتد
"الصورة بألف كلمة"..اعتدنا واعتاد العالم أن يقول في تبجيله لصورة تضبط، بل تسرق، أو حتى تجمد أقل من ثانية لحركة طرف من أطراف الجسد، أو ربما لتعبير ارتسم على وجه طفل، أو ربما امرأة، ولربما وجه إنسان تحول إلى وحش قاتل...لكن بيروت الصغيرة في حجم راحة اليد تعيد للكلمة المكتوبة اعتبارها...فهي يوميات كتبها الشاعر الأردني أمجد ناصر بنثر أقرب ما يكون إلى الشعر في حسه المرهف...هي يوميات شاعر مكتوبة بلغة تقريرية لكنها لا تبقى كلمات جامدة، بل تنبض بالحياة الإنسانية في أبسط لحظاتها الأولية، تسجل وتوثق لأول حصار إسرائيلي يسقط تحت قبضته أول عاصمة عربية، دون أن تقوم القيامة أو تزلزل الأرض تحت أقدام الغزاة...

يستهل أمجد ناصر يومياته في صفحة الكتاب الأولى بكلمات للرئيس الشهيد ياسر عرفات، قائد المقاومة في معركة بيروت:" جين ألقيت النظرة الأخيرة على المدينة قبل أن أغادرها بكيت، كانت تلك من اللحظات النادرة في حياتي التي جرت فيها دموعي بهذه الغزارة.. إن حصار بيروت ومغادرتي لها فتحا جرحا عميقا في قلبي.. نظرت إلى المدينة وأنا على ظهر السفينة، وشعرت كأنني طائر مذبوح بتخبط في دمه".

شارون في قصر الرئيس اللبناني في بيروت، قصر بعبدا، يلتقط لنفسه الصور، ويجسد المهانة العربية كلها، من الخليج الى المحيط وما بينهما نوم عربي، أو ذل ومهانة، وعاصمة عربية ، تنكمش على نفسها شيئا فشيئا على حدود المقاومة، لتصبح بيروت...بيروت صغيرة بحجم راحة اليد...

يكتب الشاعر الأردني، أمجد ناصر، وهو في سن السابعة والعشرين، بعد أن يجد نفسه "حبيسا" في دار الإذاعة الفلسطينية، دار المقاومة، مع رفاقه من الكتاب والأدباء والشعراء، يكتب يومياته يوما بيوم، ينقل ويسرد ما مر عليه في ذلك اليوم، ليس فقط من أحداث تخصه، بل يوثق بروح الشاعر المرهف، روح المقاومة كلها، روح رفاقه في الإذاعة وفي صحيفة المعركة، وروح الناس تحت الحصار الأول الذي لم يشهد العرب من خليجهم إلى محيطهم مثله...لكنه يوثق أيضا لتساؤلات الناس، مقاتلين كانوا أم مواطنين مثقفين أم سياسيين، يسجل حالات اليأس، ليس قبل أن ينقل أحاسيس الخوف الشديد، الخوف الفطري، لكنه أيضا الخوف المعنوي القومي الخوف على مصير المقاومة، وشرفها وكرامتها:


20 حزيران – "أكملت بيروت يومها السابع تحت الحصار . مرّت الأيام بطيئة، رهيبة كأنها سنوات. كان أكثر الأيام فظاعة هو يوم السبت الماضي حيث حرثت الطائرات شوارع وأحياء بيروت الغربية على مدى ثماني عشرة ساعة متواصلة بأثلام صغيرة، متعامدة. الهدير وانقضاض الطائرات ثم الانفجارات التي تزلزل الأرض. أناس يركضون ذاهلين في كل الاتجاهات...يهرولون في الشوارع ويحتمون بمداخل البنايات كأنها سترد عنهم أطنان الحديد الناري الذي يندلع من السماء، ولكن ما أن تدير الطائرات رؤوسها في اتجاه آخر حتى يعودون إلى الركض مجددا... لا أدري إلى أين؟" ص 34.

ولعل ما يميز يوميات أمجد ناصر في حصار بيروت ، مباشرتها للواقع، وعفويتها وأصالتها، فهي يوميات كتبها تحت الحصار وفي أوجه، لكنه لم يقم بعد الحصار ب"إعادة ترتيبيها أو تحريرها"، ويعترف ناصر في مقدمة كتابه، الصادر أواخر العام الماضي مع مرور ثلاثين عاما على حصار بيروت الأسطوري والتاريخي، أنه ترك مدوناته هذه لسنوات، فهل كان ذلك لكونه وهو الشاعر، وقد قاوم وحارب عانى مما بات يعرف "بصدمات القنال"، وهل كان بحاجة لثلاثين عاما حتى يعود إلى بيروت الحصار...بيروت التي صارت عند الحصار مدينتين، شرقية (يهلل أقطاب كتائبها) لكل قصف إسرائيلي، وغربية تراجعت مساحتها وتقلص عدد أهلها، ولم يبق منها إلا روح المقاومة ونيران دفاعاتها الأرضية..

هي حالة توثيق لروح المقاومة، وتوثيق ليوميات الحصار، بين ساعات الخوف والهروب من النار المسلطة من السماء، إلى ساعات، بل لحظات للعودة للبيت، لذكريات الحب الجميل، مشاعر الأبوة تنازع أمجد ناصر وقلقه على ابنته وزوجته وهما البعيدتان عن بيروت المحاصرة، ومشاعر اليأس والخوف من المجهول..والمجهول هو هل تصمد بيروت..هل نترك بيروت وإلى أين...

9 تموز: "لم نعرف حتى الآن حجم الخسائر البشرية، ولكنه على الأغلب كبير. كأن ذلك لا يكفي هناك الشائعات التي تسري عن اتفاقات ونفي لهذه الاتفاقات. الإذاعات الأجنبية تسهب في الحديث عن موقف لين لقيادة المقاومة في موضوع الخروج. نبيل (المقصود نبيل عمرو) يقول إن قيادة المقاومة تماطل لكسب الوقت ولكسر حدة الهجوم الإسرائيلي وإبطال مفعوله على الأرض. سورية أعلنت اليوم أنها لن تستطيع استقبال قيادة المقاومة....نشعر بحقد كبير على النظام السوري وفي حال الخروج من بيروت هناك من يفضل الذهاب إلى مصر "كامب ديفيد" بدلا من سورية! لا نعرف ماذا نكتب في مثل هذا الوضع" ص67.

لكن عفوية ناصر تتجلى أكثر ما تتجلى في صراحته وجرأته على الاعتراف بما يجول في خلد كثيرين.أولئك الذين انتقدوا مثلا غياب درويش  عن المشهد الثقافي وتساءلوا وبينهم أمجد ناصر، أين هو شاعر الثورة ولماذا يسكت..لا حقا سيكتشف أمجد ناصر أنه هو أيضا غير قادر على إبداع الشعر المتوخى منه، وأنه يشارك درويش في نظرته لحالة عدم القدرة على كتابة الشعر في أوج الحصار:

30 تموز: "فوجئت اليوم بمقال لمحمود درويش عن الشعر. الغريب أن هذا هو فهمي للشعر، بل هذا ما حصل معي حيث لا أستطيع الكتابة تحت الضغط ولا في صلب الحدث الجاري. أحتاج إلى فسحة كي أكتب....وجه الغرابة في الموضوع أن درويش شاعر مقاومة بل هو شاعر الثورة الفلسطينية وقد سجل في شعره مراحل من النضال الفلسطيني ...ولكنه غير قادر على كتابة الشعر في ظل الحصار. هذا ما يقوله بطريقة غير مباشرة وكأنه يرد على منتقديه حول غيابه عن الأحداث ويصف هؤلاء بأنهم "قناصة"!ص 90


قلق المقاتل الذي يمثله أمجد ناصر في هذه اليوميات، هو أيضا قلق الشاعر المسيس والمثقف الذي يعمل فكره في استشراف ما ستؤول إليه الأمور، وتحليل حقيقة التحركات والمواقف العربية، بدءا بانتقاداته لمواقف سوريا الأسد الأب، وإحجامها عن الخوض في الحرب لجانب المقاومة، كما رأينا أعلاه، مرورا بتسجيل حالات القلق والخوف من المستقبل المجهول..هل ستقبل قيادة المقاومة بمقترحات الموفد الأمريكي فيليب حبيب، وترحل عن بيروت وانتهاء بالسؤال إلى أين نرحل  ولمن سنترك بيروت:

18 آب – " اليوم  تكثفت مشاعر الرحيل . الجميع يتحدثون عن مرحلة ما بعد الخروج. إنها أيام قليلة مريرة تفصلنا عن الارتحال من بيروت التي رفعناها برجا من الأحلام والدماء. طفت اليوم شوارع المدينة كأنني أودعها إلى الأبد".ص 117
22 آب- : الأصدقاء والرفاق يغادرون. بيروت تفرغ منا. مقر الإذاعة يخوي على عروشه بعدما كان محجا لكثيرين. لن تُسمع فيه الأصوات التي عمرته مرة أخرى.
وحشة كبيرة وفراغ وترقب لمصائر مجهولة"...
وداعا بيروت.
أيتها المدينة التي وُلدت من رحمها باختياري.
لن أنساك ما حييت.
لن أنسى بيتي في "الطريق الجديدة"،
دبيب يارا وضحكاتها بين غرفة النوم والصالون،
السهرات والغناء والأحلام
والقصائد التي كتبتها على شرفته،
الكتب والدمى وأعقاب السجائر وشجيرات الظل التي تزاحمنا على الصالون الصغير..." ص 133

الذين كتبوا عن يوميات أمجد ناصر، أغلبهم من رفاقه من الأدباء الذين عاشوا معه حصار بيروت، وأقروا له بصدق النقل ودقته، سواء لأنه أعادهم لأيام الحصار بكل تفاصيله اليومية (كما كتب الكاتب والأديب رشاد أو شاور) أم بسبب نزاهته في الكتابة لأنه "لم يحاول أن يعيد النظر في الحكاية، لم يضع هوامش أو تعليقات تعكس وعيا لاحقا"، كما كتب غسان زقطان..

لكن يوميات أمجد ناصر أيضا تشكل إحدى الوثائق النادرة لحصار تم يوم كان الأثير محدودا، والفضاء مغلقا، لم يعرف حقيقته وحجمه من لم يعيشوا في بيروت، نحن الذين كبرنا على أسطورة بيروت من كتابات وقصائد جاءت بعد بيروت وبعد الحصار، لكنها على جمالها لم تنقل لنا الصورة التي تنقلها يوميات أمجد ناصر في كتابه المميز "بيروت صغيرة بحجم راحة اليد: يوميات من حصار عام 1982.


الكتاب صدر أواخر العام الماضي، عن دار الأهلية في عمان

التعليقات